ستة عقود من بناء الأفراد وتجاهل المؤسسات في الجزائر

منذ زمن الحزب الواحد الذي انتهى نهاية ثمانينات القرن الماضي، إلى غاية دعوة رئيس حركة البناء الوطني ومرشح الانتخابات الرئاسية الأخيرة عبدالقادر بن قرينة، في تصريحه الأخير، يتردد نفس الخطاب حول التشبيب في المؤسسات والهيئات والسلطة، إلا أنه في كل مرة وفي كل استحقاق يعود صاحب القرار للفرز في الخزان البشري بغية العثور على الوجه اللائق بالمرحلة.
وفي إحدى المناظرات التلفزيونية لمّا كان يسمح للرأي الآخر أن يعبر عن نفسه، جرى سجال حاد بين شخصية مهربة من الزمن القديم، وبين شاب كان يعتقد أنه بالإمكان التقدم إلى الأمام بفضل النضال ووفق إفرازات الديمقراطية والتداول على السلطة. لكن رأي “الشيخ” كان حاسما وصريحا ونهائيا بالقول “لن نتركها للأطفال يعبثون بها”.
خلال النقاش كان الصراع جليا بين شرعيتين تتنازعان السلطة في الجزائر. الأولى: هي الشرعية الثورية التي ورثها صناع الاستقلال الوطني واعتقد البعض منهم أن تضحياتهم الجسام هي وثيقة ملكية للبلاد والعباد. والثانية: شرعية شعبية لا زالت الأجيال تطمح إليها عبر حلم الديمقراطية والتداول وثقة الشعب.
وإذ كان إلى وقت قريب بوسع السلطة الفرز السهل في مخزونها البشري للعثور على رجل المرحلة، لأن الوعاء يعج بالمنتظرين، فلما تاه صناع القرار في مأزق العشرية الدموية، تم الاستنجاد بواحد من أبناء النظام المخضرمين وفي اللائحة العديد من أمثاله وأقرانه في الخبرة والدهاء.
من أكبر الكذبات السياسية المتداولة في الجزائر هي التشبيب والمرأة في المؤسسات الرسمية والسياسية
في 1999 كان عمر عبدالعزيز بوتفليقة 62 عاما، وهو عمر الشباب في سلم السن السياسي، وإذ نافسه آنذاك ستة من خيرة ما أنجبت الساحة السياسية في الجزائر، فإنه بمرور الوقت استمر قانون الطبيعة في فرض حتميته، وتقلص شيئا فشيئا الوعاء البشري للسلطة، لدرجة الاستقرار على شخصية تخرجت من الإدارة البيروقراطية العتيقة لقيادة البلاد في 2019، لأنها لم تجد الأفضل منه.
والآن يجري الحديث عن أن الفاعلين في المشهد الكروي الجزائري بصدد الاستنجاد بشخصية مخضرمة تقارب الثمانين من العمر لشغل منصب رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم الشاغر بسبب استقالة رئيسه جهيد زفزاف، ويتعلق الأمر بمحمد روراوة، المحسوب على جيل قديم، الذي لم يزهد بعد في السلطة رغم تدرجه في مختلف المناصب والمسؤوليات والمؤسسات، بما فيها هيئة الاتحاد الكروي نفسها.
ويسود اعتقاد عريض لدى الشارع الجزائري أن الحل دائما في ما بقي من ركام الماضي، فالتفكير والأنظار تتوجه دائما إلى لائحة المخزون، وكأن هناك إجماعا على أنه لا ثقة ولا أمان في جيل الشباب في استلام المشعل واستكمال المسيرة وتحقيق الانتقال والاستمرارية.
وفي كل استحقاق هام بدءا من رئيس الجمهورية إلى غاية رئيس اتحاد الكرة، تتوجه الأنظار إلى ما بقي في الخزان الذي أكلته الأمراض والتجاعيد، ولم تبق فيه إلا شهوة السلطة، رغم أن كل النواميس تشير إلى أن المعادلة معكوسة ولا يمكن أن تؤدي بالبلاد إلا إلى الحائط.
هذا السلوك المتوارث في إدارة الشأن العام، كرّس ذهنية جماعية ترفض التغيير وتحن دائما إلى القديم، رغم أن التداول السلمي والنزيه على مراكز القرار هو قانون طبيعي قبل أن يكون تقليدا سياسيا. إلا أن قطاعا عريضا من عشاق الكرة في البلاد تلقى نبأ عودة محمد روراوة، بابتهاج كبير، وكأن كل القطاع لا يوجد فيه مسيّر كفء مثل روراوة وأحسن منه.
لا أحد ينكر فضائل الرجل في كرة القدم الجزائرية خلال عهداته السابقة على رأس الاتحاد، وفي النهوض باللعبة التي أفرحت الجزائريين وأخرجتهم إلى الشوارع للاحتفال في أزمنة النكسات والسقطات. لكن ذلك لا يعني أنه لم تعد النسوة تحبلن بمواليد يكونون في مستوى المرحلة.
في الجزائر فقط يتضرع الناس إلى خالقهم ليأتيهم بمن يخافه فيهم عند كل استحقاق، وذلك دليل الأزمة التي تنخر البلاد. فخيار الناس لا مكان له، والخيار هو خيار من يوصفون بـ"أصحاب الحق الالهي"
في الجزائر فقط يتضرع الناس إلى خالقهم ليأتيهم بمن يخافه فيهم عند كل استحقاق، وذلك دليل الأزمة التي تنخر البلاد. فخيار الناس لا مكان له، والخيار هو خيار من يوصفون بـ”أصحاب الحق الالهي”. وإذا حدث أن وقع فإنه يكون في الغالب بين الأكثر سوءا والأقل. وكأن في هذا المجتمع لا يوجد إلا السيئون والفاسدون.
ستة عقود من الاستقلال شيدت فيها دولة الأفراد والولاءات وليس دولة المؤسسات، ولذلك ارتبط مصير البلاد في أكثر من مناسبة بمصير الفرد. فمنذ العام 2014 عاشت الجزائر مريضة لأن الرئيس كان مريضا. ولو كانت هناك مؤسسة رئاسية حقيقية ومؤسسات توازيها لتم احتواء الأمر بشكل عادي جدا. وهذه القاعدة هي التي تحكم علاقة الأفراد بالمؤسسات، حيث يختزل هؤلاء مؤسساتهم في أشخاصهم وفي من يوالونهم، لدرجة “أنا وبعدي الطوفان”.
لهذا بات الشارع الجزائري منقسما بين مستقيل تماما من المشهد العام ومن مهمة اختيار من يمثله، أو بين من ينظر إلى المستقبل بعيون الماضي وليس الحاضر. ولذلك يجري طرح محمد روراوة (نذكّر مرة أخرى 80 عاما) كمخلّص للكرة الجزائرية من حالة الفوضى والفساد، بدل البحث عن شخصية أخرى، والشيء نفسه يتكرر في مختلف المؤسسات.
من أكبر الكذبات السياسية المتداولة في البلاد هي التشبيب والمرأة في المؤسسات الرسمية والسياسية. ففي الأولى يجري تلويك خطاب مزيف يثبت زيفه في الاستحقاقات الكبرى حيث تمارس طقوس الأبوية بكل إتقان. وفي الثانية يجري تزيين المشهد بقطع ديكورية لملء تقارير جوفاء، لتبقى الخيوط كلها في أيدي الشرعية الثورية التي تأبى تسليم المشهد والتسليم بقانون الطبيعة.
صحيح قد لا يوجد أحسن من محمد روراوة لقيادة دفة الكرة الجزائرية في الظرف الراهن، ليس لأنه مخلوق فضائي يملك المفاتيح السحرية، بل لأن المؤسسة الكروية التي تغط في الفوضى والفساد لا تملك في رصيدها رجلا مثل روراوة أو أحسن منه. والسبب هو سياسة الأفراد والولاءات التي لم يعد أمامها إلا التنقيب المتكرر في خزانها الشائخ، في حين تغيب وتُغَيّب سياسة بناء المؤسسات التي تضمن الانتقال والاستمرار والتداول وتضع الدولة على سكة الاستقرار، وبذلك فقط تتوالد النخب وتتنافس في خدمة الشأن العام.