حتى لا يغتال الذكاء الاصطناعي الفكر البشري

ما قاله الرئيس التونسي قيس سعيد عن الذكاء الاصطناعي تم استخدامه بطريقة مجتزأة، ووضع خارج السياق الذي جاء ضمنه.
الخوف من أن يحل الذكاء الاصطناعي مكان البشر خوف حقيقي، يجب أن يؤخذ على محمل الجد.
منذ أن بدأت ثورة الذكاء الاصطناعي والجدل مستمر حول المخاطر التي تحملها التكنولوجيا الجديدة، وتتزايد المطالب لوضع قوانين منظمة تحمي المجتمعات من توظيفها في ما يضر الإنسان. والتحذير الذي أطلقه الرئيس سعيد سبق أن حذر منه أيضا كبار العاملين في التكنولوجيا.
لنستمع إلى شهادة مدير تنفيذي لشركة الذكاء الاصطناعي “سول ماشينس” غريغ كروس الصادمة “الذكاء الاصطناعي يأكل العالم حرفيا”.
من المؤكد أن هذه العبارة سيتم تداولها كثيرا إلى أن يتم الاتفاق على قوانين منظمة تبعث الطمأنينة في القلوب.
50 في المئة من الأميركيين تقريبا قلقون بشأن تأثيرات الذكاء الاصطناعي على عملهم. وترتفع نسبة القلق خصوصا بين الشباب لتصل إلى 57 في المئة.
◙ ماذا لو سيطر الذكاء الاصطناعي على البشر؟ هذا السؤال لم يعد مجرد سؤال يطرح في أفلام الخيال العلمي، والجدل حوله إن لم يكن محسوما بعد، إلا أن الانقسام حوله كبير
الانتقادات للرئيس التونسي توقفت عند قوله “ذكاء بالتأكيد لكن في جوهره اغتيال للفكر البشري”. بينما هناك من يذهب أبعد من ذلك، ويحذر من اغتيال الذكاء الاصطناعي للجنس البشري.
وذكّر سعيد بما قاله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي حذر من الاستخدامات الضارة للذكاء الاصطناعي لأغراض إرهابية أو إجرامية يمكن أن “تتسبب في مستويات مرعبة من العنف والدمار النفسي العميق”.
التحذيرات لا تنتهي عند حدود فقدان الوظائف. هناك مخاوف أخلاقية من استخدام الروبوتات في الحروب، ومخاوف من الهجمات السيبرانية وما تشكله من خطر على أمن الأفراد والجماعات والحكومات. بل هناك مخاوف أيضا على الديمقراطية، وعلى العلوم وما قد ينجم عن الاستخدام غير المسؤول للذكاء الاصطناعي في علم الجينات، وعلى التعليم الأساسي نفسه وظاهرة الغش واستخدام روبوتات الدردشة في إنجاز المهام المدرسية.
العلاقات الأسرية والاجتماعية أيضا لن تنجو من التأثيرات السلبية للذكاء الاصطناعي. الجميع اليوم يتحدث عن العزلة بين أفراد الأسرة الواحدة.
أن يذكر كل هذا ويقال لا يعني دعوة إلى مقاطعة الذكاء الاصطناعي. بيل غيتس حذر، وإيلون ماسك حذر هو الآخر. العشرات من العاملين في قطاع التكنولوجيا حذروا، وفي الوقت نفسه يستثمرون المليارات وينكبون في مخابرهم وفي ورشهم على تطوير أنظمة وتطبيقات ذكية لإحراز السبق وعدم التخلف عن ركب التكنولوجيا الوليدة التي بدأت تفرض سلطانها على مختلف تفاصيل الحياة.
تحذيرات رؤساء الدول هي الأخرى لا تعني الانكفاء ومقاطعة تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية.
البشرية اليوم تتحدث عن مدن ذكية، ووسائل نقل ذكية، في نفس الوقت الذي تعقد فيه الندوات والمؤتمرات بهدف دراسة المخاطر المترتبة على الذكاء الاصطناعي.
جميع من حذروا من إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي لم يدعوا إلى وأد هذه التكنولوجيا، لسبب بسيط، الجميع يعلم أن وأدها مستحيل وأن إعادة المارد إلى القمقم بعد أن خرج منه مستحيل أيضا.
هم حذروا من مساوئ الذكاء الاصطناعي وطلبوا التريث والتمهل وعدم الاندفاع في طريق مجهول، قبل التأكد من اتخاذ إجراءات السلامة.
ويتساءل جماعة “لا تقربوا الصلاة” في تونس: ماذا سنقول للأطفال التونسيين الذين استقبلتهم رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن، ومنحتهم شهادات تقدير لحصولهم على جائزة “الهمة” في الولايات المتحدة لمشاركتهم في مسابقة عالمية حول الذكاء الاصطناعي؟
قولوا لهم إن تونس فخورة بإنجازهم، وإن رئيسها فخور بما أنجزوه أيضا، وإن ما حققوه هو شهادة لتونس التي طالما احتفت بالعلم والعلماء، وهي عندما تضع ترتيبا لأهم مواردها الاقتصادية، تضع الإنسان على رأس القائمة.
50
في المئة من الأميركيين تقريبا قلقون بشأن تأثيرات الذكاء الاصطناعي على عملهم. وترتفع نسبة القلق خصوصا بين الشباب لتصل إلى 57 في المئة.
فعلت ذلك منذ اليوم الأول لتحقيقها الاستقلال، وما زالت تفعل نفس الشيء رغم ظروف صعبة. الكفاءات التونسية منتشرة بمختلف بقاع الأرض، وهي على رأس الكفاءات العلمية التي تتصيدها دول الاتحاد الأوروبي.
عندما بدأت الثورة الرقمية في ثمانينات القرن الماضي لم تقف تونس موقف المتفرج، وكان شرفا لهذا البلد الشمال أفريقي أن يستضيف ثاني قمة عالمية حول مجتمع المعلومات (16 – 18 نوفمبر 2005)، وكانت القمة الأولى قد عقدت قبل عامين (2003) في جنيف.
ناقشت القمة تحقيق مجتمع معلوماتي شامل ومستدام يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وشارك في جلساتها أكثر من 50 رئيس دولة وحكومة، وأكثر من 19 ألف مشارك.
مع ظهور الذكاء الاصطناعي والذكاء الاصطناعي التوليدي، وتنامي أهمية البيانات في العالم، ينتظر من تونس أن تخطو الخطوة الأولى لتدعو دول شمال أفريقيا ودول القارة إلى عقد قمة للذكاء الاصطناعي، خاصة بعد أن سبق لها عقد قمة المعلومات وكانت ناجحة بكل المقاييس.
قمة مثل هذه ضرورية لأكثر من سبب، أولها حماية البيانات الخاصة بمواطني دول القارة الأفريقية، وعدم ترك الساحة خالية أمام الشركات الغربية الكبرى للاستحواذ على هذه الثروة الحقيقية من البيانات.
دول أفريقية، في مقدمتها جنوب أفريقيا تتحدث عن استعمار جديد يحاول التغلغل هذه المرة للاستحواذ ليس على موارد القارة الطبيعية، بل على البيانات الخاصة بمواطني القارة.
سيكون المؤتمر أيضا فرصة لمناقشة الأمن الرقمي ووضع لوائح لتنظيم الذكاء الاصطناعي، خاصة ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي.
وفي حين لا تقتصر المخاوف على استعمار يسطو هذه المرة على البيانات في أفريقيا، يجمع باحثو التكنولوجيا على أن لوائح الذكاء الاصطناعي الضعيفة تزيد من هذه المخاطر.
ومع غياب القوانين واللوائح المنظمة لحماية بيانات المستخدمين المحليين، حذّر تقرير لليونسكو عام 2022 من أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في أفريقيا يمكن أن “تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية القائمة”، من خلال تعميق التمييز ضد الفئات الضعيفة.
في الحقيقة ليست فقط الفئات الضعيفة من سيخرج خاسرا في النهاية، الدول والحكومات نفسها ستكون خاسرة أيضا.
عندما يحذر الرئيس سعيد من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المنفلت إنما هو بذلك يؤيد ما ذهب إليه عمالقة التكنولوجيا ومنظمة الأمم المتحدة.
◙ منذ أن بدأت ثورة الذكاء الاصطناعي والجدل مستمر حول المخاطر التي تحملها التكنولوجيا الجديدة، وتتزايد المطالب لوضع قوانين منظمة تحمي المجتمعات من توظيفها في ما يضر الإنسان
“ذكاء بالتأكيد لكن في جوهره اغتيال للفكر البشري”، هذه نهاية شبه مؤكدة، إن لم يتم الاتفاق على وضع لوائح وقوانين تضبط استخدام الذكاء الاصطناعي، وفي حال استسلمت البشرية للكسل ووضعت مصيرها بيد الروبوتات.
ماذا لو سيطر الذكاء الاصطناعي على البشر؟ هذا السؤال لم يعد مجرد سؤال يطرح في أفلام الخيال العلمي، والجدل حوله إن لم يكن محسوما بعد، إلا أن الانقسام حوله كبير.
الرئيس سعيد، بملاحظته، نقل الجدل الدائر إلى مستوى أعلى، ووضعه ضمن إطار فكري وفلسفي.
يمكن أن نترك للروبوتات مسؤولية الإنتاج داخل المصانع والورش، والمشاركة في تطوير الأدوية، والمساهمة في إيجاد حلول للأزمة الغذائية، وقيادة السيارات ووسائل النقل عوضا عنا، إلى جانب العشرات من المهام التي بدأت فعليا في مزاحمة البشرية في أدائها.
ولكن، أي مستقبل للبشرية في حال أسلمنا القيادة لروبوتات الدردشة ترسم اللوحات وتؤلف الكتب والمقطوعات الموسيقية وتفكر نيابة عنا؟
أينما وصل بنا الجدل الدائر اليوم، هناك خط أحمر يجب ألّا يتجاوزه، حتى لا يأكل الذكاء الاصطناعي العالم، وحتى لا يغتال الفكر البشري.