المهن التمثيلية تسهّل استباحة الدراما المصرية

جاء تدخل نقابة المهن التمثيلية في محتوى مسلسل “ليه لا” ليثير نقاشا واسعا في الوسط الفني المصري، حيث يتخوف أغلب النقاد من أن هذه الخطوة ستفتح الباب أمام نقابات مهنية أخرى للتدخل في الأعمال الفنية، وهو ما يعكس عمق الأزمة التي تواجهها الفنون في مصر وقد يواجهها أيضا الإنتاج الدرامي في المستقبل.
القاهرة - وصلت الرقابة اللاحقة على الأعمال الدرامية المصرية إلى نقابة المهن التمثيلية المنوط بها الدفاع عن منتجي الفن والارتقاء به، ما أحدث حالة من السخط حول موقفها الأخير من مسلسل “ليه لا (لأ)” الذي يُعرض الجزء الثالث منه على منصة “شاهد” السعودية بعد أن طالبت بحذف أحد مشاهد عمل فني حقق جماهيرية واسعة.
وطالبت نقابة المهن التمثيلية التي يرأسها الفنان والأكاديمي أشرف زكي بحذف مشهد دار بين أبطال العمل حول دراسة التمثيل في أحد أقسام علوم المسرح ومقارنتها بأكاديمية الفنون، وهما جهتان أكاديميتان تختصان بدراسة الفنون في مصر، ودافعت النقابة عن أقسام المسرح في جميع الجامعات المصرية، وبرهنت على ذلك بتخريج العديد من أساتذة التمثيل في مصر والعالم العربي، واستنكرت ما جاء في العمل.
وجاء المشهد الذي عُرض ضمن أحداث الحلقة الثامنة من المسلسل حول إحدى الزيارات العائلية وخلالها تتحدث فنانتان من الوجوه الجديدة في العمل، تجسدان شخصيتي ياسمين ومنة. وتحدثت الأولى عن حب صديقة لها للفنون والتمثيل وطلبت نصيحتها باعتبارها مدرسة في كلية الآداب قسم علوم المسرح، لكنها ردت عليها قائلة “إحنا مش بنعلم تمثيل قوي.. أكاديمية الفنون هي بتاعت التمثيل اللي (التي) بجد”، في إشارة إلى جودة الدراسة في الأكاديمية مقارنة بكلية الآداب.
لم يكن للمشهد الذي جاء في سياق إحدى حلقات المسلسل الدرامي أن يحظى بهذا القدر من الاهتمام إلا مع تطرق نقابة المهن التمثيلية إليه والمطالبة بحذفه، مع أنه لم يتضمن أخطاء فنية، ولذلك بدا موقف النقابة التي من واجباتها الدفاع عن أعضائها وإتاحة الحريات العامة الداعمة لتحسين أجواء بيئة العمل الخاصة بهم مستغربًا، ورفض التعامل مع المشهد كوجهة نظر درامية وليس موقفا عاما.
وانتقدت نقابة المهن التمثيلية في مرات سابقة مواقف شبيهة لنقابات مهنية أخرى مثل الأطباء والمهندسين والممرضين والمحامين، ما يثير تساؤلات حول أبعاد الموقف الذي واجه اعتراضات واسعة من منتجي الدراما أنفسهم، لما يترتب عليه من تضييق مساحات الحركة الإبداعية التي تعاني من تدخل بعض الجهات في محتوياتها.
ويتّفق البعض من النقاد على أن نقابة المهن التمثيلية أول من ستكتوي بنيران النقابات والهيئات الأخرى التي تتوسع في محاكمة الأعمال الفنية التي قد لا تروق لها، وفي هذه الحالة من المتوقع أن تطالب بالمعاملة بالمثل ولن تستطيع نقابة الممثلين الرفض.
وفتح موقف نقابة الممثلين المجال أمام أبواب رقابية جديدة على الإنتاج الفني، لأنها لم تكن من قبل شريكة في مواقف من شأنها الرقابة على محتوى الأعمال المقدمة، والأكثر من ذلك أنها منحت مبررات عدة لتكبيل المضمون الإبداعي عبر رقابة شعبية ورسمية تجهض مساعي الارتقاء بها.
وقال الناقد الفني أندرو محسن إن نقابة المهن التمثيلية لعبت دورا ليس من اختصاصها، وبدلاً من أن تسهم في رفع سقف الإبداع والحد من الجوانب الرقابية تدخلت بالسلب، ووصلت إلى حد المطالبة بالحذف وأغفلت أسس التعامل مع الأعمال الفنية، ما ستكون له انعكاسات سلبية على حركة الدراما بوجه عام في ظل كثافة التدخلات المتوقعة الفترة المقبلة من جانب بعض من يعتقدون أن الدراما جاءت على غير هواهم.
وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن الشخصيات الدرامية تواجه انتقادات بشكل مستمر ويجري التعامل معها على أنها حقيقية، ما يعبر عن جهل بطبيعة العمل الفني، وأن القائمين على هذه الأعمال لديهم حرية كاملة في تشكيل الحبكة الفنية للعمل، والمشكلة الحالية لها جوانب عدة، أبرزها عدم فهم نقابة المهن التمثيلية لدورها الأساسي.
ولفت إلى أن بيان النقابة طغى عليه التسرع في التعامل مع مشهد أثار حفيظة عدد من المتخصصين، ولم يكن بحاجة إلى كل هذه الضجة التي أضرت بالنقابة والإبداع المصري، وأن نقيب الممثلين الفنان أشرف زكي ظهر وكأنه تعرض لضغوط، واستمع إلى بعض الأصوات التي تفتقر إلى المعرفة الكافية بطبيعة المحتوى الدرامي المقدم، وهو ما يتطلب مراجعة عاجلة يمكن أن تساعد في تحسين صورة النقابة.
وردّ منتجو مسلسل “ليه لا” على بيان نقابة المهن التمثيلية بالتأكيد على أن المشهد لم يهدف إلى التقليل من شأن أي شخص أو النيل من المستوى الفني لخريجي كليات المسرح، وأنه أراد الإشارة إلى التفرقة بين الدراسة النظرية والعملية.
ويرصد المسلسل في جزئه الثالث قضايا اجتماعية مهمة ترتبط بالضغوط التي يفرضها الأهل على أولادهم، والصعوبات التي تواجهها المرأة عندما تتصدى لتربية الأبناء وحدها في ظل تحولات كبيرة في المجتمع، ويطرح سؤالاً مفاده: إلى أي مدى يكون للأبناء تأثير على قراراتنا الشخصية؟
ويشارك في بطولة العمل نيللي كريم، أمير صلاح، أحمد طارق، معتز هشام، نادين، حنين سعيد، صلاح عبدالله، عايدة رياض، كمال أدهم، فريدة رجب، حمزة سمير وإنجي علي، وهو من تأليف ورشة سرد للكاتبة مريم نعوم، وتحت قيادة المخرجة مريم أبوعوف، ومن إنتاج عبدالله أبوالفتوح.
وأوضح الناقد الفني رامي عبدالرازق أن النقابة المصرية تجاهلت بديهيات من المخجل الحديث عنها باعتبارها المدافع الأول عن حقوق الفنانين وحرياتهم، وأن تقديم المسلسل من خلال إحدى الشركات الخاصة جعل الهجوم عليه مستباحًا، ويعبر هذا الموقف عن أمية درامية طالت العاملين في المجال الفني وبعض المسؤولين، وهو ما يجعل الإبداع في مصر في مواجهة صعوبات جديدة تؤثر سلبًا على نوعية القضايا التي يناقشها.
وأشار في تصريح لـ”العرب” إلى أن التعامل مع محتويات الفنون والدراما كحقائق تجاوزها العالم أجمع منذ عقود طويلة، وموقف النقابة يعد أحد تبعات أزمة الفنون في مصر التي تتأثر سلبًا بالأجواء المحيطة بها، ويشي بأننا أمام حلقة في سلسلة من الأزمات من المتوقع أن تستمر طويلاً وسوف تكون لها أشكال وأساليب رقابية أكثر حدة مما تتعرض له الدراما والسينما في الوقت الحالي.
وشدد على أن فكرة “التكويد” أو وضع معايير أخلاقية وصحية وإنسانية للأعمال المقدمة يعد أحد مظاهر الأزمة الراهنة، وإقدام المجلس الأعلى للإعلام في مصر على تشكيل لجان هدفها مراجعة تلك “الأكواد” أضر بصناعة الدراما، وخلق منافذ عديدة للرقابة لم تكن موجودة، ولم يعد تعريفها قاصرا فقط على التصنيفات العمرية.
وتتجاهل الأوساط الرسمية والهيئات المنوط بها الدفاع عن أعضائها أن المجتمعات ترتقي بالفنون، وأن سيطرة نزعة سلفية على توجهات بعض المسؤولين تجعل التجرّؤ على الأعمال مستباحًا مع عدم وجود دفاع قوي عمّا يقدمه الفن من قضايا مهمة.
ويتخوف البعض من النقاد من أن يقود ذلك إلى هجرة بعض القائمين على إنتاج الدراما، وهو ما حدث في قطاعات أخرى تعاني من مشكلات شبيهة، لأن الانفتاح على الإنتاج الدرامي يتطور في دول عربية مختلفة، وهناك نجوم مصريون حصدوا شهرة واسعة فيها ولن يجدوا صعوبة لحجز مواقعهم، ما يؤثر على مستقبل صناعة الدراما بمصر.