الدولة التونسية وخطيئة مجاراة العنصرية والشعبوية

الخطاب الرسمي يوحي بالشيء ونقيضه في الموقف من استهداف اللاجئين.
الأحد 2023/07/09
موقف مرتبك من الأزمة

هل يبيح خلاف بين مجموعة من اللاجئين الأفارقة وسكان بعض الأحياء في مدينة صفاقس التونسية كل هذه الحملة على الأفارقة، والمطالبة بطردهم والتحريض على وجودهم؟ مع كل حادث يظهر الخطاب العنصري إلى الواجهة بأكثر حدة واتساعا، فهو ليس خاصا بفئة محدودة في المكان أو المستوى الثقافي بل هو أقرب إلى ثقافة شعبية تعادي الوافد الأجنبي عموما والأفريقي خصوصا.

تونس تعيش مجددا على وقع الاتهام بالعنصرية بعد الصور والقصص التي نقلتها وكالات الأنباء ومواقع التواصل لأفارقة موجودين بتونس تحدثوا فيها عن معاناتهم من عنصرية كبيرة في مناطق عدة من البلاد خلال الأشهر الأخيرة.

المعضلة أن الدولة بمؤسساتها المختلفة، السياسية والأمنية، وقفت في وضع غامض من هذا الوضع، فهي لم تنسق وراء الخطابات الشعبوية التي يريد أصحابها إلقاء اللاجئين في البحر أو الصحراء و”تطهير” البلاد من الوافدين الذين “غزوها”، لكنها لم تكن واضحة بما فيه الكفاية في انحيازها لقيم حقوق الإنسان، ولم تلوح بتشديد العقوبات على من يتبنى خطابا عنصريا أو يحرض على استهداف اللاجئين، وهي ترى الكثير من هذا أمام عينيها ويردده من يقولون إنهم في صفها من مثقفين وإعلاميين وعامة الناس.

الخطاب الرسمي يوحي بالشيء ونقيضه، فهو يوحي بأنه ضد استهداف اللاجئين الذين علقوا في البلاد في طريقهم إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه لا يخفي تفهمه لمطالب الغاضبين الذين يطالبون بطرد اللاجئين ويشتكون من أنهم باتوا عبئا ثقيلا.

لا يريد الخطاب الرسمي التونسي أن ينزلق النظام بمختلف أجهزته إلى خطيئة العنصرية التي أثارت ردود فعل دولية غاصبة قبل أشهر قليلة بعد خطاب للرئيس قيس سعيد تمت قراءته من منظمات حقوقية محلية وخارجية على أنه خطاب تحريضي ضد اللاجئين وضد التنوع العرقي في البلاد.

◙ الحملة العنصرية اخترقت المجال الشعبي التقليدي، الذي باتت تحركه الشعبوية تجاه مختلف الظواهر
الحملة العنصرية اخترقت المجال الشعبي التقليدي، الذي باتت تحركه الشعبوية تجاه مختلف الظواهر

وعملت تونس ما في وسعها لتطويق تداعيات هذا الخطاب على صورتها الخارجية في وقت تعمل فيه على كسب ثقة أطراف دولية نافذة لمساعدتها على تحصيل التمويلات اللازمة التي تبحث عنها. وفي حركة رمزية زار الرئيس سعيد مدينة صفاقس قبل فترة قصيرة وأخذ صورا له مع أفارقة في حركة لتبديد ما علق بشخصه من اتهامات وتأويلات سلبية.

لكن مدينة صفاقس عادت إلى الواجهة مجددا لإرباك السلطات التونسية في موضوع العنصرية بعد حملات لطرد اللاجئين والتحريض عليهم لكونهم أفارقة وبلون بشرة مختلف، خاصة أن التونسيين، وفي صفاقس بالذات، سبق أن تحملوا أعدادا كبيرة من الليبيين الذين دخلوا البلاد بعد ثورة فبراير. كما استقبلوا أعدادا من اللاجئين السوريين من دون ضجر أو شكوى علنية من مزاحمة على الرزق أو على المواد الأساسية المدعومة، مثلما يحصل الآن.

ويتجاوز التفسير هنا البعد الديني أو العربي لنوعية اللاجئين، وإلا لكان التونسيون قد احتفوا باللاجئين السودانيين الذين لجأ البعض منهم إلى تونس، وسمعنا شهادات من بعضهم عن المعاناة التي يلاقونها في دولة عربية وإسلامية عرفت تاريخيا بتسامحها والتنوع الثقافي والديني في مدنها من خلال وجود جنسيات وهويات متعددة من مالطيين وإيطاليين وأندلسيين ومسيحيين ويهود.

لماذا يتم قبول المختلف واستيعاب المتنوع الآتي من الغرب من ذوي البشرة البيضاء وتعجز البلاد عن قبول المختلف أسمر البشرة مع أن وجوده مؤقت؟ لماذا بات الكثير من التونسيين يتخوفون الآن على الهوية التونسية وصفائها التاريخي ولم يكن الأمر يهمهم في السابق ولقرون؟

ورغم أن تونس تحتفي سنويا بفكرة أنها البلد العربي والإسلامي الأول الذي أعلن إلغاء العبودية في يناير 1846، لكنها احتفظت في الكثير من مدن الداخل بفكرة الرق، حيث يشار إلى ذوي البشرة السوداء بأنهم عبيد فلان أو عتيق فلان أو خادم فلان. وما يزال التونسيون من ذوي البشرة السوداء يعانون من التمييز الشعبي، واشتد هذا التمييز والاستهداف مع موجة التحقير ودعوات الطرد التي تطال الأفارقة مع كل حدث عابر مثل شجار بين تونسي ولاجئ أفريقي، وأحيانا دون سبب واضح.

هناك مسافة تحتاج الدولة إلى أن تتبين تفاصيلها وتشتغل عليها، وهي وجود فرق بين الهجوم على الأفارقة وترويج خطاب عدائي وعنصري ضدهم، وبين البحث عن حلول لتقليص وجودهم في البلاد.

من حق تونس أن تبحث عن تقليص أعداد هؤلاء اللاجئين لأنها لا تقوى على إعاشتهم وتقديم الخدمات لهم. لكن هذا يتم وفق صيغ قانونية مثل اتفاقيات مع دولهم الأصلية تجيز استعادتهم أو تأمين صيغ لنقلهم إلى أوروبا ولو على دفعات بعد تسوية أوضاعهم.

◙ لماذا يتم قبول المختلف واستيعاب المتنوع الآتي من الغرب من ذوي البشرة البيضاء وتعجز البلاد عن قبول المختلف أسمر البشرة مع أن وجوده مؤقت
لماذا يتم قبول المختلف واستيعاب المتنوع الآتي من الغرب من ذوي البشرة البيضاء وتعجز البلاد عن قبول المختلف أسمر البشرة مع أن وجوده مؤقت

وتحتاج تونس إلى التنسيق أكثر مع ليبيا والجزائر لوقف تسرب اللاجئين المتزايد خاصة من جهة الجزائر. كما يمكنها السعي أيضا لتفكيك المنظمات التي تدير شبكات الهجرة وتتربح منها، كما أشار إلى ذلك سعيد منذ أيام، وهي منظمات عابرة للدول.

لكن لا يمكنها أن تلجأ إلى خطوات انتقامية من مثل تجميع اللاجئين ونقلهم في حافلات إلى أماكن حدودية وتركهم يواجهون الجوع والعطش، أو التلويح بإرجاعهم إلى الأراضي الليبية أو الجزائرية عنوة، فهذه خطوات غير محسوبة ولا تقبل دبلوماسيا.

ولكسر سردية العنصرية وخطاب الكراهية، يجب أن يخرج الخطاب التونسي الرسمي والشعبي من نظرية المؤامرة والتوطين والمخاوف على النسيج المجتمعي إلى خطاب مباشر عن الأعباء والحاجة إلى المساعدات، وهو ما يمكن أن يتفهمه العالم.

لكن إذا كان ثمة في تونس من يطالب بتنفيذ حملات طرد جماعي للاجئين، ويرى فيه حقا مشروعا، فإنه قد يشجع أوروبا نفسها على انتهاج التمشي نفسه بطرد الآلاف من التونسيين الذين لم يسوّوا أوضاعهم القانونية بعد، والذين لا يتوقفون عن المغامرة بـ”الحرقة” متحدّين كل مخاطرها.

◙ من حق تونس أن تبحث عن تقليص أعداد هؤلاء اللاجئين لأنها لا تقوى على إعاشتهم وتقديم الخدمات لهم لكن وفق صيغ قانونية

كما أن دولا أفريقية ممن يتضرر لاجئوها من الخطاب العنصري في تونس قد تلجأ بدورها إلى المعاملة بالمثل وتلجأ إلى طرد الجاليات التونسية في أفريقيا. صحيح أن هذه الجاليات صغيرة، لكنها تتكون من كفاءات وخبرات نجحت في فتح الأسواق الأفريقية أمام الشركات التونسية، وعودة هذه الكفاءات فضلا عما قد يمثله من أزمة إنسانية، فإنه سيجر خسائر على تونس مالية ومعنوية ويهز من صورة التجار والمهندسين التونسيين والشركات الحكومية التي تحوز على مصداقية كبيرة وتدير مشاريع مهمة في بعض الدول.

وتحتاج الدولة إلى أن تفكر بعقل بارد، وتضع أمامها ميزان المصالح قبل أن تتخذ أي قرارات أو تحدد موقفا. أما مجاراة الشعبوية فقد تحقق نتائج سياسية آنية، لكنها تتحول إلى ضرر على المدى البعيد على السلطة نفسها، فالذي يساير مرة سيجد نفسه مجبرا على المسايرة دائما، في مسار لا أحد يتحكم فيه.

والمفارقة أن الحملة العنصرية اخترقت المجال الشعبي التقليدي، الذي باتت تحركه الشعبوية تجاه مختلف الظواهر، إلى طبقة يفترض أنها حامية لقيم تونس والتزاماتها الدولية مثل المنابر الإعلامية وبعض المثقفين والسياسيين.

كما أن مجاراة الشارع تجعله يلجأ دائما إلى التصعيد والتلويح بالعنف والضغط من أجل إجبار الحكومة على التراجع، وهذا شهدناه في السنوات الماضية لدى الحكومات المرتبكة والضعيفة التي قادت البلاد، وسعت لرهن بقائها في السلطة بالاستجابة لمطالب النقابات ومنظمي الإضرابات والاعتصامات حتى ضعفت الدولة واستهان بها المواطن والموظف والمسؤول.

6