أي فيلم كوميدي يمكن تحقيقه من جديد كفيلم جاد والعكس صحيح

الكوميديا لها تاريخ طويل إذ بدأت على يد الإغريق ثم انتقلت إلى أوروبا حيث تألقت على يد كتاب المسرح العظام كشكسبير وموليير وأوسكار وايلد وغيرهم، ولا تزال تفعل فعلها خاصة بعد ظهور التلفزيون والسينما واتساع فضاء الحضور على شبكة الإنترنت. وإن صارت لها أنواع متعددة فإنها أيضا تفرض شروطا على العاملين عليها لضمان نجاحها.
تحظى الأفلام الكوميدية بشعبية واسعة، حيث لا تخلو سينما سواء في الشرق أو الغرب منها؛ فحس الفكاهة القائم على المواقف المفارقة والمتناقضة المليئة بالسخرية والتهكم والاستهزاء من الأفكار والعادات والأخلاقيات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يستثير الضحك ومن ثم يجد قبولا لدى الجماهير.
وهذا الكتاب “قطار الكوميديا: أسس وأنواع ومئة فيلم لا بد منه” للناقد السينمائي محمد رضا، الصادر ضمن السلسلة المعرفية من مهرجان أفلام السعودية عن دار جسور الثقافة للنشر، يقف عند المعلومات الأساسية لصناعة الفيلم الكوميدي، مع إيجاز نقدي بالغ التركيز يعرض لمحة عن قصة الفيلم والجوانب الفنية إن كانت سلبية أو إيجابية، حيث يتناول 35 فيلما عربيا من مصر والسعودية والمغرب وتونس وسوريا والعراق والأردن، منها “إبراهيم ياش” للمخرج المغربي نبيل الحلو، و”الإرهاب والكباب” للمخرج المصري شريف عرفة، و”أغنية الغراب” للمخرج السعودي محمد السلمان، و”الأفكاتو” للمخرج رأفت الميهي، و”أم العروسة” للمخرج عاطف سالم، و75 فيلما أجنبيا من أوروبا وأميركا.
التراجيديا والكوميديا
النص الأدبي والشعري كما السينمائي يستطيع استلهام الكوميديا من التراجيديا، كما تستطيع التراجيديا الاستعارة من الكوميديا
يؤكد رضا أن الكوميديا ذاتها ليست مجرد كائن واحد. هناك الكوميديا ذات العنصر الوحيد “النكتة كيفما ألقيت”، والكوميديا المنتزعة من رحم المأساة، وبينهما تدرجات عديدة، على الناقد والقارئ معا أن يعيا لماذا يمكن لفيلم ما دخول خانات الكوميديا ولا يمكن لفيلم آخر ربما حمل ضحكات ومواقف خفيفة، أو ما هي المساحات التي يمكن للكوميديا التحرك فيها من دون أن تخسر الانتماء إلى النوع الكوميدي. مثلا: هل يمكن اعتبار “Amadeus” فيلما كوميديا؟ نعم، لكن هل هو بالفعل فيلم كوميدي أم سيرة حياة لشخصية حزينة مريضة بالحسد؟
ويضيف “نتعامل، في الواقع، مع فن يستطيع دخول أنواع وتصنيفات متعددة. الكوميديا بحد ذاتها نوع حافل بالأنماط والتصنيفات. خذ أي موضوع جاد (“Titanic” مثلا أو “Star wars”) وتستطيع، إذا أردت إعادة صنعه، وجعله عملا كوميديا. طبعا هناك شروط لهذه اللعبة لذلك من غير المستحب مطلقا فعل ذلك، لأن هذا سيدخل بالفيلم المبني على آخر صنف ‘الفيلم الساخر’، حيث تتم التضحية بقوة الشخصيات ومتانة الأحداث والتركيبة المعقدة للفيلم الأساسي، بغية استخراج ضحكات يأتي معظمها مختلقا ومتكلفا”.
يطرح رضا في كتابه ماهية الكوميديا وأنواعها وكيف يمكن تأليفها ومطالعتها، ثم يدلف إلى بحث في بعض الشخصيات الشهيرة في عالمها، ويقول “عليّ أن أشير إلى أن الشخصيات التي شاهدناها على الشاشة مرارا وتمتعت بنجاحات جماهيرية بارزة تحتاج كتابا منفصلا لو أتيح له أن يتم. ذلك لأن العدد كبير والاتجاهات الفنية والأداءات الشخصية كثيرة. ففي الملامح الأولى نورمان ويزدوم وإسماعيل يس هما تفعيل لنوع كوميدي واحد، لكن ما يكون هذا التفعيل جسديا وثقافيا يختلف”.
ويتابع “بستر كيتون وتشارلي تشابلن يترافقان في النوع الكوميدي المؤدى، لكن وحدة الفترة الزمنية تكشف لمن يتابع أفلامهما فوارق جمة بين أداء كل منهما مقارنة بالآخر ومفهومه للعمل. ثم هناك الاختلافات بين من هم في مستوى تشابلن وكيتون، ومن هم في مستوى ويزدوم ويس. وأكثر من ذلك، على الناقد غير الموجه بفعل رياح النقد الغربي وغير المتأثر بآرائه، معاينة بعض المفاهيم السائدة لطرح إعادة نظر أكيدة فيها: هل أنجب الأخوان ماركس وجيري لويس أفلاما كوميدية جيدة بالفعل؟ ألا ينتميان، وآخرين إلى ويزدوم ويس، إلى عباقرة الكوميديا من وزن جاك تاتي وتشابلن وكيتون”.
سينما اليوم توفر أسبابا كثيرة لعلاج الهموم الاجتماعية ولطرح الأفكار المختلفة والمواقف على تنوعها عبر الكوميديا
ويضيف رضا “سابقا وجد العالم تعريفا للكوميديا مبنيا على أنه الوجه المقابل للتراجيديا. القناعان الشهيران، واحد يبكي والآخر يضحك، باتا رمزا متداولا منذ زمن بعيد نجده في واجهات المسارح، وعلى صفحات المواقع ونقش لبعض المجلات والدراسات والأبحاث حين كان النشر هو السبيل الوحيد للمعرفة. لكنْ هناك إجحاف في هذا الترميز ناتج أولا على أن الواقع الذي يقوم على هذين الوجهين المتقابلين يحتوي على تدرجات فيما هو كوميدي وما هو تراجيدي أو مأساوي”.
ويتابع “في الأساس يستطيع النص الأدبي والشعري كما السينمائي استلهام الكوميديا من التراجيديا كما تستطيع التراجيديا الاستعارة من الكوميديا بحيث لا يوجد مطلق بين الحالتين إلا في نسبة معينة. هذا المطلق لا يمكن أن يكون طبيعيا في الواقع. هل يمكن لنا تخيل عمل فني يقوم من بدايته إلى نهايته على أسباب وأحداث وشخصيات مأساوية متوالية وذات وقع واحد، من دون أن نرفع عنه المغالاة ونخفض احتمالات حضور الفن في هذا النوع المتطرف في النص والتعبير؟”.
ويرى رضا أن الحال نفسه كوميديا، قائلا “ضع مشاهد متوالية قائمة على مفارقات وشخصيات كوميدية في أعمال فنية لتجد أن الغالب هنا لم يعد كوميديا الشخصيات والمواقف والمعالجات، بل كوميديا تهريجية، ذلك لأن الكوميديا في هذه الحالة، وعلى ذلك المستوى، باتت سعيا للإضحاك من دون شروط أو ضوابط”.
ويقر بأن “الكوميديا ناتجة عن الرغبة في الضحك، والقائمين بها، منذ التاريخ القديم، كانوا يؤمون إليها على شكل عروض بدنية وشفوية تضحك الجمهور، وهذا الجمهور كان على مستويين: جمهور العامة في الأسواق والحارات، وجمهور الخاصة في القلاع والقصور ومضارب الزعامات. وكانت واحدة من وسائل التعبير كالموسيقى والرقص والغناء”.
ويشدد على أن بعض ممثلي الكوميديا كانوا يجيدون الحركة البدنية من غير غاية أخرى. بعضهم الآخر كان يجرؤ على تبطين الحركة والحكاية التي يتلونها، ببعض النقد الذي يكاد يقف عند حافة الرفض، لكنه أكثر فطنة وحذرا من الوقوع في النقد المبرح.
أنواع الكوميديا
يشير الناقد إلى أن الكوميديا تدرجت وتفرعت واتخذت لنفسها ما يمكن اعتباره تنويعات تتحاذى في حضورها المتوجه غالبا إلى ضمان الترفيه لرواد المسرح ولقراء الرواية ولاحقا لمشاهدي الأفلام. فقبل اختراع السينما عرفت الكوميديا ازدهارا كبيرا وتنوعت في أساليبها وعناصرها. من فن الإيماء إلى فن تحريك الدمى وصولا إلى النهضة التي عرفتها الكوميديا كفن أطلق عليه الإيطاليون وصف “Commedia dell arte”، كانت هناك كتابات خاصة للكوميديا، وهكذا تم استيحاء الحكايات الأدبية وتحويلها إلى كوميديات للغاية. هذا وسواه تسلل إلى العمل السينمائي، فإذا بالكوميديا التي نحن بصددها في هذا الكتاب تتنوع.
ويوضح أن هذا التنوع ما زال معمولا به إلى اليوم وهو عبارة عن تصنيف الكوميديا حسب الغاية التي يقوم بها متخصصون ينجحون في نوع معين أكثر من سواه أو في ذلك النوع وحده. هذه التصنيفات من دون ترتيب: أولا الكوميديا مفادها تحويل وضع عاطفي “عادي في الأحوال الأخرى” إلى حبكة تتعقد خيوطها بفعل شخصيات منفعلة أو غير مستقرة “His Girl Fridy”. ثانيا الكوميديا السوداء: تلك التي تعمد إلى طرح أمور جادة “كالموت والحياة ومآلات الإنسان والإنسانية” سابرة غورها لتعلق عليها كوميديا. ثالثا كوميديا التهريج: وهذه تعتمد المغالاة في التعبير والحركة لإيصال الضحك عنوة إلى جمهورها مثل “أفلام بد أبوت ولو كوستيللو والإخوة ماركس”. رابعا الكوميديا الساخرة: ترفع من جرعة التكلف بحيث تخرج عن الواقع في الوقت الذي تسخر فيه من الشخصيات والأحداث المبنية على واقع ما “Airplane ـ The Naked Gun”.
ويذكر خامسا الكوميديا الهزلية: تعتمد أساسا على القدر ذاته من المغالاة مع اختلاف أنها مستمدة من أفكار قابلة للتصديق “Home Alone”. سادسا الكوميديا السوريالية: السوريالية يمكن لها أن تأتي درامية وكوميدية. وفي كلا الحالين هي عبارة عن اختراق الواقع في مشاهد غير قابلة للتصنيف أو للحدوث “The Discreet Charm of the Bourgeoisie”. سابعا الكوميديا السياسية: قد تأتي على شكل الكوميديا الساخرة أوالكوميديا السوداء لكنها تختلف بانتماء مضمونها إلى فعل النقد السياسي “Bulworth”. ثامنا الكوميديات الاستعراضية: تتداخل هذه مع السينما الاستعراضية “غناء وموسيقى” التي عادة ما تتضمن المواضيع العاطفية وتلك القائمة على سوء الفهم “An American in Paris”.
ويرى رضا أن هناك أنواعا متفرعة وأنواعا لم يأت على ذكرها هنا لأن الوارد هو الأصول القابلة للتنويع. وهناك العديد من الأفلام التي تمزج بين نوعين أو أكثر -غالبا بما لا ينفع بنتيجة- تبعا لنص يستحق -في الواقع أو حسب الرغبة- ذلك المزج. كل نوع من هذه الأنواع يشمل أفلاما جيدة ومتوسطة ورديئة، ما يعني أن الفيلم مرتبط بوسطاء هم “المخرج وفريقه” وقدرتهما. وكل هذه الأنواع تأسست على مراحل في القرون الماضية، “القرن السادس عشر بالنسبة إلى أوروبا حسب بعض المراجع”، وتطورت تبعا للرقعة التي دأبت على الاتساع أيضا حسب الثقافات والإبداعات والقدرات والمواهب.
الإضحاك والجدية
يلفت رضا إلى أن أي نوع من الكوميديا يجذبك أكثر من سواه، هو أمر آخر مهم لا يعود إلى الإعجاب بلون معين كما يعتقد الكثيرون، بل إلى ما كوّن هذا الإعجاب من خصائص وخلفيات. كما هو معروف فإن معظم الجمهور يميل إلى الكوميديا السهلة “التهريجية والاستعراضية”، فهذه عادة لا تتطلب حك الرأس للتفكير في المفاد، ولا تبخل بعدد النكات، كما الحال في الكوميديا السياسية مثلا أو الكوميديا السوداء. والسينما لم تبدأ على نحو مفكر وذهني، بل كحالة تواصل مع العاطفة الجاهزة. التحول النسبي تم تدريجيا عندما بدأت عند بعض المخرجين الرغبة في التميز عن أقرانهم بتوجيه النص ليخدم الفكرة بغض النظر عن انخفاض منسوب النكتة المباشرة. كذلك هناك موضوع الثقافة التي ينطلق الفيلم منها.
ويلاحظ أن القليل من الأفلام الكوميدية العاطفية “وهو نوع تجاري غالبا” يحقق نجاحا لافتا خارج الولايات المتحدة. كما أن ثقافة صانعي الكوميديا تختلف، كالنكتة الروسية مثلا، إذ قد تنجح في إطار مستقبليها من الوطن ذاته أكثر بكثير من نجاحها إذا ما تخطت الحدود إلى الخارج. وبذلك كله تعتمد الكوميديا على المتلقي “مصدره الاجتماعي والثقافي وغايته” والمتلقي “الصفات ذاتها”. أحدهما قد لا يصلح للآخر، مثلا قد لا يجيد الإلقاء. الثاني قد لا يجيد المشاهدة أو الإصغاء. في الوسط بينهما قد لا يكون النص جيدا ولا التمثيل ولا الإلقاء.
ويلاحظ رضا أن سينما اليوم توفر أسبابا كثيرة لعلاج الهموم الاجتماعية ولطرح الأفكار المختلفة والمواقف على تنوعها عبر الكوميديا. لكن كلما ابتعدت عن المباشرة ارتفع ميزان الفن في الكيفية التي تطرح فيها هذه السينما مدلولاتها ومفاداتها. وفي الوقت ذاته ومن غير قصد منها تذكرنا الكوميديا “خصوصا التي تقف عند حد الإمتاع الحسي لا أكثر” بأن ما يمكن طرحه للإضحاك يمكن أيضا طرحه جديا، والعكس صحيح.
يعني هذا أن أي فيلم كوميدي يمكن تحقيقه من جديد كفيلم جاد، وأي فيلم جاد قابل لأن يتحول إلى فيلم كوميدي “وهناك من فعل ذلك مرارا”. والثابت هو أن النوعية عليها أن تبقى عالية وغالبة. إن الكوميديا ليست أن تضحك على ما يقال أو على ما نراه ولا يقال، بل هي ما يطرح ضمن هذين الخطين. ما يصل من مفادات يحميها الأسلوب الذي يختاره المخرج الجيد. وكما قد يضحك المرء على نكتة تقال له أو قد لا يضحك، فإن الفهم قد يصل أو قد لا يصل. الخوف من عدم الوصول هو واحد من الأسباب الرئيسية التي من أجلها تسارع بعض الكوميديات لاختصار الطريق وطرح ما تريد بأسلوب مباشر وفج.