حنين الأغنية المصرية إلى الماضي يجهض خطط تجديد ألوانها

مشروع "الأساتذة" يعيد صياغة التراث بالحفاظ على اللحن الأصلي.
الجمعة 2023/07/07
مدحت صالح يتمسك بإعادة الأغاني الكلاسيكية

جاء مشروع "الأساتذة" الذي يقدمه الفنان المصري مدحت صالح ليعيد طرح التساؤل حول ما آلت إليه الموسيقى في مصر والوطن العربي، ففي حين يرى الداعمون للمشروع أنه يسهم في مواجهة الانحلال الموسيقي المنتشر، يرى نقاد أنه يربط الموسيقى المصرية أكثر بالماضي ويعيق كل محاولات التجديد الموسيقي انطلاقا من روح العصر الراهن.

القاهرة - دفعت حالة الجمود التي تعاني منها الأغنية المصرية التقليدية مع صعود مؤدي المهرجانات نحو تحرك عدد من المطربين والملحنين للبحث في دفاتر الأغاني القديمة وإعادة تقديمها بألوان مختلفة تحت شعار "الحفاظ على التراث"، ما أدى إلى الاهتمام بحقب زمنية كانت فيها الأغنية المصرية تهيمن على سوق الطرب محليًا وعربيًا، بلا اعتناء واضح بتجديد الألوان الغنائية الجامدة منذ فترة.

ودشن الفنان مدحت صالح أخيرا مشروعا فنيا باسم "الأساتذة" بالتعاون مع دار الأوبرا المصرية بهدف تقديم حفلات تعيد صياغة التراث الموسيقى كأحد الألوان الإبداعية التي تميز الهوية العربية عبر توزيعات جديدة مع الحفاظ على الألحان الأصلية.

وقال صالح إن خطته تهدف إلى تقديم التراث الغنائي للأساتذة الكبار، من الراحلين والأحياء، بشكل يحمل جاذبية كبيرة من خلال توزيع مجموعة من ألحان عمالقة الموسيقيين المصريين والعرب، منهم: محمد عبدالوهاب، فريد الأطرش، كمال الطويل، محمد الموجي، رياض السنباطي، محمد فوزي، الرحبانية، طلال مداح، سراج عمر وعبدالحميد السيد، بالاستعانة بموزعين منهم أحمد مصطفى، أحمد الموجي وأسامة كمال، عن طريق تكوين متناغم لآلات موسيقية مختلفة.

ووجدت الفكرة ترحيبًا، وبدت كفرصة مناسبة لشغل ما يمكن وصفه بالفراغ الغنائي، لأن عددا من نجوم الطرب الذين ذاع صيتهم خفت حضورهم حاليا، كما أن تقديم أعمال لها جماهيرية باستخدام ألحان حديثة قد يخلق حالة فنية ويعيد رونق حفلات القاهرة الصيفية التي نظمتها جهات رسمية وتابعها جمهور عريض.

مدحت بشاي: "الأساتذة" محاولة إيجابية لتشجيع الإنتاج الجديد
مدحت بشاي: "الأساتذة" محاولة إيجابية لتشجيع الإنتاج الجديد

وتبدو الفكرة غير بعيدة عن الاحتفاء الذي يجده فنانون ومطربون وملحنون كبار من مصر أخيرا في مهرجان الرياض، حيث قدم حفلات كثيرة لعدد منهم، وغالبيتهم أعادوا إنتاج أغان شدا بها كثير من الراحلين الكبار في عالم الطرب المصري، وظهر وكأن السعودية تهتم بالفنانين المصريين الأساتذة بينما هم مغيبون في بلدهم.

ويشي اختيار دار الأوبرا المصرية لتقديم المشروع الجديد بالتأكيد على أنه يحظى بدعم رسمي، وأن جهات مصرية ترفض الاستسلام لسيطرة المهرجانات على سوق الغناء.

وفي الوقت ذاته تقف أمام معضلة اختفاء عدد من شعراء الأغنية المصرية وتراجع مستوى الألحان والتوزيع، مع عدم القدرة على اكتشاف مواهب جديدة وتقديمها لسوق الغناء بما يمكن أن يحدث تجديدا طال انتظاره، مثلما حدث في الثمانينات من القرن الماضي مع صعود جيل محمد منير وعمرو دياب ومحمد الحلو ومحمد ثروت وغيرهم، والأمر ذاته تكرر مع بداية الألفية الجديدة التي شهدت ظهور أسماء مثل شيرين عبدالوهاب وتامر حسني وهشام عباس.

ويركز مشروع صالح على تقديم أصوات صاعدة، وتحدث بشكل مباشر عن مساعيه لتقديم جيل جديد من الموهوبين، معتبرا أن ذلك عبر خطة اعتمدتها وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني بالتعاون مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.

لكن الفكرة ليست جديدة، فقد جرى إعادة تقديم التراث والبحث عن تطوير أغان منذ عقود، ما يبرهن على أن مسألة ضخ دماء في شرايين الأغنية المصرية يواجه أزمة من وقت لآخر، وربما لا تكون هناك رغبة حقيقية في التجديد، وأن استسلام عدد كبير من المطربين الذين حققوا نجاحات مهمة في سنوات ماضية هو السائد، وعلى هؤلاء مجاراة أذواق الجمهور وتقديم ألوان غنائية تخاطب فئات شبابية لا ترتبط بهم.

وبدلا من أن يبحث الملحنون الشباب عن أدوات حديثة تلقى قبولاً من الجمهور، بات هناك استسهال لتقديم توزيعات لألحان موجودة بالفعل، ما يعبر عن حالة من الفقر الفني، وأن وجود مشكلات في تقديم أجيال جديدة من الموسيقيين يملكون القدرة على إحداث طفرة مثلما فعل الموسيقار هاني شنودة في الثمانينات من القرن الماضي عندما عبر عن ثورته الفنية الخاصة في تغيير ملامح الأغنية المصرية الحديثة.

◙ مشروع يعيد أعمالا كلاسيكية
◙ مشروع يعيد أعمالا كلاسيكية

بعدها لم تعد الأغنية المصرية تعتمد على المدرسة الكلاسيكية المعروفة بالمقدمات الموسيقية الطويلة، وبدأ هاني شنودة محاولاته مع المطربة نجاة الصغيرة المحسوبة على المدرسة القديمة وقدم معها أغنيتي “أنا بعشق البحر” و”بحلم معاك”، ما يشير إلى قابلية تغيير عدد من المطربين الحاليين لألوانهم الغنائية التي اعتادوا تقديمها، حال كانت هناك ثورة في تحديث ألوان الأغنية.

وتستمر الجمل اللحنية البسيطة التي تصاغ بشكل تعبيري مع فكرة الكلمات وتعتمد على آلات غربية "الباص غيتار" و"الدرامز" إلى جانب الاعتماد على الطبلة (الرق) المصرية وهو أمر خفت إلى حد ما مع استخدام الموسيقى الصاخبة التي اعتاد عليها مؤدو المهرجانات وتظهر فيها العشوائية واضحة، لكنها لم تعبر عن توجه عام يمكن القياس عليه كتطور للأغنية المصرية.

وقال الناقد الفني مدحت بشاي إن مشروع “الأساتذة” لا يعوق تطور الأغنية، وهو محاولة إيجابية لتشجيع أصحاب الإنتاج الجديد على مناطق الجذب التي حققتها من قبل الألحان والكلمات وتعريف الأجيال الجديدة على التراث الموسيقي، وتقديمه من خلال فنان لديه تاريخ غنائي مهم مثل مدحت صالح يمنح المشروع زخمًا مهمًا.

◙ الملحنون الشباب بدلا من أن يبحثوا عن أدوات حديثة تلقى قبولا لدى الجمهور بات هناك استسهال لتقديم توزيعات موجودة ما يعكس حالة الفقر الفني

وأوضح في تصريح لـ"العرب" أن أزمة تطوير الأغنية المصرية تكمن في الوصول إلى شخص أو مجموعة أشخاص يمكنهم أن يقودوا قطار التجديد، وأن الكثير من أصحاب القدرات الغنائية المحترمة انسحبوا من السوق التقليدية للغناء بسبب ما تعرضوا له من مشكلات مؤخرا، بالتزامن مع ما يطلق عليه “تدهور في ذائقة الجمهور".

وأشار بشاي إلى أن قيمة الأغنية المصرية يمكن ترجمتها أيضا من خلال تترات أغاني المسلسلات التي تراجعت جودتها، وبدا الاستسهال سائدا لدى الكثير من القائمين على تقديم الأغنية بمن فيهم الشعراء والملحنون والموزعون والمطربون، وتسبب غياب الاحترافية عن بعض الأغاني المقدمة في وجود ما يسمى بالمطرب الشامل الذي يقوم بالكتابة والتلحين والتوزيع والغناء طبعا.

ولا تعد تجربة مدحت صالح التي تستغرق في الماضي وتحاول تقديمه بأسلوب جديد الوحيدة، فالملحن المصري عمرو مصطفى أثار جدلاً واسعًا بعد إعلانه تقديم أغنية مستخدما صوت أم كلثوم عبر تقنية الذكاء الاصطناعي ضمن ألبوم غنائي صغير أصدره الشهر الماضي. وبرر مصطفى خطوته برغبته في الحفاظ على التراث الموسيقي، غير أن التحرك القضائي من جانب أسرة أم كلثوم جعله يتراجع إلى الخلف قبل أن يعلن تصميم أول مطرب بالذكاء الاصطناعي دون أن يكشف عن مزيد من التفاصيل.

ووجه بشاي انتقادات واتهامات للملحن عمرو مصطفى بـ”السطو على أصوات فنانين راحلين، وهو ما يصعب قبوله بهذه الطريقة، وبحاجة إلى تنسيق بين جهات حكومية وأخرى لها علاقة بحقوق الملكية الفكرية". ولفت إلى أن الأغاني القديمة بحاجة إلى أشهر طويلة حتى يتم إعدادها بشكل جيد لترى النور، بينما الذكاء الاصطناعي سيحولها في غضون دقائق إلى أغان منسوخة لا تخدم الإبداع الموسيقي.

ويبقى مبرر كل محاولة تعود إلى التراث بأنها تستهدف الحفاظ على أساس العمل الفني بالتعاون مع موزعين على قدر عال من الاحتراف والتميز، والاستعانة بآلات موسيقية مختلفة، ما يعطى فرصا للفرق الموسيقية الجديدة، ويفتح المجال أمام إمكانات ضخمة للعازفين وموزعين أصحاب خبرات عالية ويتيح الفرصة لإعادة صياغة المكتبة الموسيقية بشكل عصري.

15