كيف تتصرف فرنسا في مواجهة احتجاجات المراهقين

انقسمت المواقف وردود الفعل الشعبية بالجزائر تجاه أحداث الشغب والاحتجاجات التي تعيشها فرنسا، في أعقاب مقتل الشاب ناهل ذي الـ17 عاما، فبين التشفي وبين الحياد وبين القلق على وضع ومصير أفراد الجالية، يتعاطى الشارع الجزائري مع الأحداث المذكورة، خاصة وأنه لا توجد أي عائلة جزائرية دون قريب أو أحد أفرادها في فرنسا.
ولأن الجالية الجزائرية هي أكبر جالية مهاجرة في فرنسا وتعود إلى مطلع القرن الماضي، حيث قدرتها بيانات رسمية بنحو 13 في المئة من مجموع المهاجرين إلى فرنسا، فإن حالة من الترقب والتخوف تسود الشارع الجزائري، خشية المآلات التي يمكن أن تؤدي إليها الأحداث المشتعلة في غالبية التراب الفرنسي منذ عدة أيام.
وبما أنه من غير المنطقي إدراج الأحداث في خانة المواجهة الجزائرية – الفرنسية، رغم أن الفتيل الذي أشعلها هو جزائري، والوعاء الشعبي الذي يحركها هو جزائري أيضا، فإن طبيعة الأزمة ذات جذور مجتمعية أكدتها الأمم المتحدة بالإشارة إلى تغلغل العنصرية داخل جهاز الشرطة الفرنسي.
لكن بحكم حجم وثقل الجالية المذكورة، تبقى فاعلا أساسيا في التركيبة الاجتماعية الفرنسية، وتكون قد وجدت في سلوك المؤسسات الرسمية فرصة للتحالف مع جاليات أفريقية ومغاربية لتبني مواقف مناوئة للمنظومة الاجتماعية التي راكمت على مر عقود كاملة بذور الانفجار بسبب سياساتها التمييزية.
◙ إلى شهور مضت عاشت فرنسا انتفاضة "السترات الصفراء"، لكن حينها السلطة الفرنسية ناورت وفاوضت النقابات والنقابيين لاحتواء الوضع، لكنها الآن في مواجهة ثورة مراهقين لا يعرفون كلاما ولا حوارا
ظروف مختلفة جعلت أجيالا من المهاجرين الجزائريين في فرنسا، في موقف من يستجير من الرمضاء بالنار، فالأحوال الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي دفعتهم إلى الهجرة من الوطن الأم، لم يجدوا مقابلها إلا الإقصاء والتهميش والتمييز والعنصرية والمعاناة في “غيتوهات” الضواحي.
وفرنسا التي تحتضن عاصمة الجن والملائكة والأنوار، ويتصدرها ثالوث “الحرية والمساواة والأخوة”، لم تجد طريقها إلى احتواء ملايين المهاجرين من مختلف الجنسيات والأعراق، ولا يرتاح لها بال إلا بفرض قيم عنصرية على الآخرين، ولذلك ما فتئت تصطدم من حين إلى آخر بموجات غضب شعبي بمسميات مختلفة لكنها تجمع كلها على التمييز وفشل خطط الاندماج.
أبناء وأحفاد مهاجرين ولدوا وترعرعوا في زوايا التهميش والتمييز، وهم مشبعون بسرديات مساهمة آبائهم وأجدادهم في تحرير فرنسا من النازية وفي تشييد قوام فرنسا القوة الدولية، ولذلك تتراكم لديهم مشاعر الغضب تجاه سلوكيات ومنظومة التجاهل والجحود.
جزائريون يفرون من بلادهم إلى فرنسا، وهناك يرفعون راياتهم الأصلية ويرددون أغانيهم الحماسية، في مفارقة غريبة، لكنها تعكس أزمة عميقة لدى هؤلاء، بعدما استجاروا من الرمضاء بالنار، ولذلك كانوا دائما في واجهة التوترات الاجتماعية والسياسية، ودارت حولهم النقاشات المختلفة.
فرنسا، العضو الدائم في مجلس الأمن، والقوة الاقتصادية العالمية، وصاحبة النفوذ الإقليمي والدولي، لم تعرف إلى حد الآن إن كان بإمكانها أن تقود مواطنيها للعيش جنبا إلى جنب أم تستمر في العيش وجها لوجه بينهم، أن تفرض هويتها وقيمها النمطية على مواطنيها، أم تنتهج سياسة التعدد والتنوع لاحتواء الجميع.
وفيما تنتقل عدوى الشغب والاحتجاجات كالنار في الهشيم بين المدن والمحافظات الفرنسية، لا يزال جزء من الخطاب الفرنسي يصب الزيت على النار، وبدل التركيز على التهدئة واحتواء ثورة المراهقين، يحاول سياسيون وإعلاميون تزوير حتى حقيقة الجريمة التي أودت بحياة الشاب ناهل.
وبدل الدعوة مثلا إلى إصلاح جهاز الشرطة وتحسين ظروف المراقبة والمعاملة القانونية بين جميع الأفراد، يحاول البعض الترويج لشخصية منحرفة للضحية، والبعض يسوق لسلوكيات التمرد لدى فئة المهاجرين، وحتى تبرير موقف الشرطة الفرنسية، رغم أن المسألة تتعلق بجريمة قتل بسلاح رسمي، وهو ما يؤكد ذهنية فرنسية متجذرة غير مستعدة لقبول الآخر، فذنبه أنه مواطن فرنسي من أصول غير فرنسية.
فرنسا الرسمية لم تستوعب الدروس من أحداث سابقة ومن تجارب مماثلة ناجمة عن سلوكيات عنصرية وعن إخفاقات الاندماج الاجتماعي، فرغم العنف والشغب اللذين سجلا في عدة محطات لأسباب مشابهة، لا تزال تعتمد على مقاربة أمنية في إسكات صوت المقهورين، عوض الذهاب إلى بلورة مقاربة اجتماعية تكرس التعدد والتنوع والمساواة بين جميع المواطنين.
وفوق ذلك تتعمد تهميش وتمييز ملايين المهاجرين عن بقية الشعب الفرنسي، وحتى انتقاء ما يناسبها من المهاجرين، فتقبل هذا وترفض ذاك، وكأنها في سوق نخاسة، مستحضرة انطباعات ماضيها الاستعماري في القارة الأفريقية والمغرب العربي، في معاملة مواطنيها من تلك الأصول، وكأن عقدة الأجداد لا تزال تسير وتدير الأحفاد وهم في قبورهم.
حالة من الانتقام تميز القرار الفرنسي تجاه هؤلاء المواطنين، فلا تفوت أي فرصة للاقتصاص منهم حتى ولو كان الأمر مسيئا لصورتها وسمعتها أمام الأوروبيين الآخرين، فخلال شهر رمضان الأخير، أقر اتحاد الكرة الفرنسي قانونا لا يسمح لحكام المباريات بتوقيف اللعب من أجل السماح للاعبين المسلمين بالإفطار، عكس الملاعب والنوادي الإنجليزية التي أقرت بذلك ونظمت إفطارات جماعية للمسلمين البريطانيين وغير البريطانيين.
ولعل التجربة التي عاشها مواطناها من أصل جزائري زين الدين زيدان وكريم بن زيمة، في مسارهما الرياضي، تؤكد العقدة الفرنسية تجاه كل ما هو مغاربي أو أفريقي، فهما عندما يخفقان أو يسيئان الأداء يقدمان على أنهما جزائريان، وعندما يحققان المكاسب لفرنسا يعاملان كفرنسيين.
وربما ما لم تدركه فرنسا إلى حد الآن في هذه الأحداث، أن الأمر ليس كسابقه، عندما كانت تطوقها في كل مرة، فمشاعر الاستياء والغضب لم تعد شأنا داخليا، يتعلق بأصل أو عرق معين، وإنما صار رفضا لها في عموم الأقطار الأفريقية التي كانت إلى سنوات عبارة عن محميات تابعة لها، وهو تحول لافت يستوجب منها مراجعة سياساتها الداخلية والخارجية مع الجاليات ومع مواطن النفوذ، قبل أن تدفع ضريبة باهظة لذلك.
إلى شهور مضت عاشت فرنسا انتفاضة “السترات الصفراء”، لكن حينها السلطة الفرنسية ناورت وفاوضت النقابات والنقابيين لاحتواء الوضع، لكنها الآن في مواجهة ثورة مراهقين لا يعرفون كلاما ولا حوارا، وهمهم الوحيد هو إفراغ شحنة الغضب، فكيف تتصرف معهم؟