في هجاء التديّن ومديح الإيمان.. الخائفون على الله يشمتون بمصائب غيرهم

يعيش بيننا مرضى. صامتون غالبا؛ فلا يعرف أنهم مرضى إلا ذووهم. الكلام فاضح، وفي وسائل التواصل الاجتماعي يكون فضّاحا؛ لارتباط الجهل بالحماسة والبجاحة. مبكرا أطلق سقراط مقولته “تكلم حتى أراك”. ثم قال عمر بن الخطاب: “أظل أهاب الرجل حتى يتكلم، فإن تكلم سقط من عيني، أو رفع نفسه عندي”. والتجربة أو الكارثة كاشفة لآدمية الإنسان. إذا فرح وأسرّ الشماتة فهو منافق. وإذا تباهى بتديّنه، وأعلن استحقاق المنكوبين لما أصابهم، فهو جاهل وقح، متصحّر الروح، معطوب النفس. وفضلا عن الجهل والوقاحة والعطب الروحي فهو يحتاج إلى علاج نفسي، وعلاج إيماني ينقله من موضع التديّن الظاهري بالأقوال والحركات، إلى مرحلة الإيمان بالله.
المؤمن يطمئن بالله، وإيمانه محله القلب. والمتدّين يجد لذة في الإعلان عن نفسه، بالقول أو جذب الانتباه إلى سلوكه، أو مخاطبة الله عبر فيسبوك أو تويتر، وليس لله حساب على أي منهما. كشفت الاتصالات الحديثة، وهي من إبداعات غير المسلمين وبعضهم غير مؤمن بأن للكون إلها، عن مسلمين متنطعين، عاطلين عن العمل، وعن العقل. هؤلاء يتفرغون للبحث في متاهات أخبار يضخّها محترفون وهواة في قادوس التواصل الاجتماعي، من الشرق والغرب، لكي يُسقطوا إحباطهم عليها، ويمنحوا أنفسهم شعورا كاذبا بالزهو والتفوق، وأن الله فضلهم على العالمين المستحقين لعذابه، وفي هؤلاء قال ابن سينا: “بُلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم”.
◙ يُسأل المرء، دينيا وأخلاقيا وإنسانيا، عن جوع جاره الفقير. وفي اختلال هذه القيم هروب من المسؤولية إلى ساحة لا يكلف فيها الكلام شيئا، بل يحصد القائل استحسان جموع الجاهلين
كلما قررت الابتعاد عن الحمقى وشرورهم الناتجة عن الخواء والفراغ، لأن لهم أنيابا ومخالب يظنون أنهم يدافعون بها عن الله في علاه، أعادتني حماقة من حماقاتهم المسيئة إلى الدين، وإلى العقل. في 2 يونيو/حزيران 2023 تعرضت كنيسة تاريخية عمرها 160 عاما في مدينة سبنسر بولاية ماساتشوستس الأميركية لحريق مروّع أدى إلى سقوط برج الكنيسة المشتعل، وتدمير المبنى الخالي، ولم تقع إصابات بشرية. يرجح المحققون إصابة برج الكنيسة بصاعقة برق. تلقف المتدينون الخبر تحت عنوان مثير، مختلق بالطبع ولم تطفئه مياه المحيط الأطلسي خلال العبور إلى ديار الإسلام. اشتعلت وسائل التواصل بالشماتة، والدعاء إلى الله أن يواصل انتقامه من “أعداء الدين”.
في تويتر، العربي الإسلامي، كان عنوان الكارثة: “صاعقة تضرب كنيسة في ولاية ماساتشوستس الأميركية بعد احتفالها بشهر الشواذ”. الكنيسة، من ناحية الدقة الخبرية، كانت خالية. لم تحتفل بشواذ ولا بغيرهم. لا وقت لدى المتديّن للتثبت. ولماذا يتثبّت؟ ما الذي يضرّ مسلما يطمئن قلبه بالإيمان في احتفال كنيسة بشواذ أو غير شواذ؟ المسلم يوقن بأن الشرك بالله أكبر الكبائر وأعظم الخطايا. والمؤمن يوقن بأن حساب المشرك على الله في الآخرة، ولو شاء الله لعجّل الهلاك للمشركين، وخسف بهم الأرض. المؤمن لا يشغله إلحاد الملحدين، ولا يتعقبهم بالمعايرة، ولا يشمت بهم. والمتديّن ساديّ، لا يحتمل أن يمدّ الله مظلة الرحمة إلى غيره.
من تعليقات المتدينين على خبر تدمير الكنيسة: “بداية النهاية. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا؛ اللهم إنا نبرأ إليك من كل فعل لا يرضيك ولا طاقة لنا في دفعه وإنكاره”. ثرثرة أنتجتها ثقافة الحفظ والاستظهار. فهو يجهل ولا يتحرى، ثم إنه أعلن إنكاره ونشره في تويتر، ولم يمنعه أحد. وتحمس آخر فكتب: “أميركا تذكرني بقوم لوط عندما تحدوا الله وفعلوا جميع الموبقات. أعتقد أن أميركا على وشك النهاية وفي القريب العاجل”. وعلق ثالث: “ليس لكم مفر من عذاب الله، اللهم زِد حرائقهم. قريبا ستأتي الأخبار السارة إن شاء الله”.
وسط تغريدات وتعليقات الشماتة والتشفّي، قرأت تعليق مستغيثة، أرادت أن يراها المتشنجون غيرة على الدين؛ فينقذوها ويفرّجوا كربتها. كتبت الفقيرة: “فاتورة الكهرباء متراكمة ومفصولة لأرملة أم أيتام يعلم الله أنهم يعيشون بضيق وفقر وعسر عاجزين عن سدادها، أشهد بالله من أشد الحالات احتياجا، من يكسب أجرهم ويفرج همهم بسدادها وربي يعوضه خير”. لم يهتم بهذه المرأة أحد، ولو بكلمة طيبة، والكلمة الطيبة صدقة. لكن المتديّن، الذي لا يتورّع عن فحش القول، يتباهى بالدفاع عن عرش الله من أن يمسّه إلحاد ملحد، أو معصية مسلم. الاهتمام بفقراء المسلمين، لا أقول فقراء غير المسلمين في بلاد الإسلام، مكلف. أما “الجهاد الإلكتروني” فمجاني.
يُسأل المرء، دينيا وأخلاقيا وإنسانيا، عن جوع جاره الفقير. وفي اختلال هذه القيم هروب من المسؤولية إلى ساحة لا يكلف فيها الكلام شيئا، بل يحصد القائل استحسان جموع الجاهلين. في المسلسل التلفزيوني المصري “تحت الوصاية” مشهد شديد الدلالة على النفاق الديني. ترجع الأرملة من رحلة صيد تقود فيها المركب، ومعها أربعة صيادين. تفاجأ بتجمهر الناس في انتظارها، وبينهم شقيق زوجها المتوفى. كيف تغيب في عرض البحر بصحبة رجال أجانب؟ سلوك في نظرهم يعني الخطيئة. أشارت إلى عم أولادها، وقالت إنه يطاردها، وإنه أكل أموال اليتامى. العم لم يكذّبها. ولم يهتم بهذه الحقيقة أحد، وتنافسوا في إحراق السفينة؛ بدعوى أنها “نجسة”.
◙ المؤمن يطمئن بالله، وإيمانه محله القلب. والمتدّين يجد لذة في الإعلان عن نفسه، بالقول أو جذب الانتباه إلى سلوكه، أو مخاطبة الله عبر فيسبوك أو تويتر، وليس لله حساب على أي منهما
بشيء من العقل، يجد المؤرَّقون بالخوف على الله أن الكوارث الطبيعية ليست من سهام الله؛ فيسلطها على الكافرين. الله أكبر من أن يخوض معركة مع البشر. ولا تفرق هذه الكوارث بين المسلمين وغير المسلمين. تشهد بنغلاديش المسلمة كوارث طبيعية من وقت إلى آخر. وعلى مرمى بحر صغير ظل أطفال الصومال يعانون الجفاف والجوع. ولا يظن مسلم أن الله ينتقم من أطفال مسلمين أبرياء. وفي بدايات موسم الحج (عام 1436 هجري، سبتمبر 2015 ميلادي) هبّت رياح شديدة وعواصف رملية وهطلت أمطار، فسقطت رافعة حديدية ضخمة داخل الحرم المكي، وقتلت نحو 110، وأصيب أكثر من 230 من المعتمرين. فهل أراد الله عقابهم؟
ما لا يلاحظه المتشنجون أن الله لا يستجيب لدعائهم. توالت أجيال ممن انتفخت عروق رقابهم وهم يدعون الله أن يهلك اليهود، وما ازداد اليهود إلا قوة وغطرسة. كانوا ينهون خطبة الجمعة بدعاء أن يهلك النصارى أيضا، ثم كفّوا بالأمر السياسي المباشر. ثم جاء حريق كنيسة مدينة سبنسر الأميركية فجددوا الشماتة، راجين التعجيل بهلاك أميركا. ماذا لو اختفى “الغرب الصليبي الكافر”، كما يسمونه في خطابهم؟ لن يجدوا دواء، ولا سلاحا، ولا تويتر ليعلنوا منه الشماتة بالغرب. إلى بلادنا المنكوبة سيعود عشرات الملايين من المسلمين الفارين من ديار الإسلام، سيفقدون امتيازات نالوها هناك بكفاءتهم، وينضمون إلى المحبطين الكارهين للحياة. سيكرهون رؤية المتديّنين.
أن تشمت بغيرك، لأن كارثة حلت به، فأنت لست إنسانا سويّا. “الإنسان” يراجع نفسه، يسائلها في وقفات للتأمل؛ ليرى أين يقف؟ ويهذب انفعالاته الغاضبة؛ فلا تترجم إلى سلوك عنيف. ولعل الابتعاد النسبي عن أيام الحج المباركة يسمح لي بنقل مواجهة قصيرة جاءت في كتابيْ “العمدة.. في محاسن الشعر وآدابه ونقده” لابن رشيق القيرواني، و”كتاب الفصوص.. في المُلح والنوادر والعلوم والآداب” لأبي العلاء الربعي البغدادي عن رجل لقي آخر فقال له: “إن الشعراء ثلاثة: شاعر وشويعر وماصّ بظر أمه، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي”. ولا أعرف تصغير كلمة “إنسان”. مأزق ينقلنا إلى الخيار الثالث.