هل صنع السياسيون الفرنسيون أسطورة ألبير كامو؟

هناك مفكرون وكتاب محيّرون، تجد اليمينيين يستشهدون بهم وبأقوالهم بما يخدم التوجه اليميني حتى المتطرف منه، وتجد الثوريين واليساريين أيضا يستشهدون بأقوال أخرى له، وفئات لا حصر لها متضادة ومتعارضة جوهريا، لكن كل فئة منها تأخذ نصيبا من الكاتب ذاته. وهذا ما ينطبق بشكل كبير على الكاتب والمفكر الفرنسي ألبير كامو.
يُعَد ألبير كامو أحد أشهر الفلاسفة الفرنسيين، رغم أنه لم يكن يعتبر نفسه فيلسوفا، ولربما كان أكثر الروائيين الفرنسيين المقروء لهم في العالم. فقد ألهمت أعماله العديد من الأفلام، وحتى موسيقى البوب، وعادة ما يقتبس منها رجالات الدولة في فرنسا والولايات المتحدة ما يؤيد آراءهم.
في كتابه “ألبير كامو: مقدمة قصيرة جدا” يتتبع الباحث الأكاديمي أوليفر جلوج العوالم الثرية لكامو محللا أسباب الشعبية الراسخة لأهم أعماله الفلسفية والأدبية في إطار عدد من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية المعاصرة، وملخصا لحياة كامو وأعماله، ومتصديا بجرأة أيضًا لأوجه الغموض في مواقفه؛ كون ذلك عنصرا أساسيا للتوصل إلى فهم واضح اليوم لكل من أعماله الكبرى وشعبيته المتجدِّدة. وأكد أنه واحد من أهم المؤلِّفين الذين لا تزال أعمالهم تؤثر على نحو ملحوظ في وجهات نظرنا بشأن الأحداث والقضايا المعاصرة.
الكاتب المزدوج
تساءل جلوج في تمهيد كتابه الذي ترجمه مؤمن محمود رمضان أحمد وراجعه عبدالفتاح عبدالله وصدر أوائل هذا العام الجاري عن مؤسسة هنداوي: بأي كامو نحتفي؟
هل هو المراسِل الشجاع الذي استقصى دون كلل الأوضاعَ الفظيعة للسكان الأصليين لمنطقة القبائل الجزائرية، التي احتلتها فرنسا في ثلاثينات القرن العشرين؟ أم الرجل الذي كتبَ أن العلاج الوحيد لفرنسا هو أن تبقى “قوة عربية”؟
وتابع “أنحتفي بالكاتِب الذي نشرَ مقالات في صحف المقاومة السرية أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا؟ أليس هو الكاتِب الطموح الذي وافق على حذف الفصل الخاص بكافكا في أطروحته الفلسفية ليضمن موافقة الرقابة النازية على نشره؟ هل ثناؤنا محفوظ للمؤلف الذي انتقدَ الزواج والحداد والحراك الاجتماعي في روايته الأكثر شهرةً، ‘الغريب’، أم الرجل الذي لا يورد اسما لأي شخصية عربية في العمل نفسه؟ عندما نتحدث عن كامو، هل نتحدث عن المقاوم الذي كان مؤيدا لعقوبة الإعدام، أم الفيلسوف الذي أدانها لاحقا؟”.
ويقول “كان كامو متناقضا إلى أقصى حَد. كان مؤمنا إيمانًا صارما بمبادئ المساواة التي ظهرت في فرنسا خلال عصر التنوير، ويرجع ذلك جزئيا إلى دعم الدولة الفرنسية له على نحو فعَّال بعدما فقدَ والدَه في الحرب العالمية الأولى، ووفرت له من خلال التعليم وسائل انتشال نفسه من الفقر الذي عايشه منذ الصغر. مع ذلك، فإن الصعوبات التي عايشها في تلك الفترة ونشأته في الجزائر المستعمرة فرنسيا جعلتاه يعي على نحو متزايد أن الضيم الذي تُوقِعه فرنسا على العرب والبربر متناقِض مع مبادئ المساواة. وعلى مدار حياته وأعماله، تأرجحَ كامو بين تجنب هذا التناقض ومواجهته”.
وبين أنه انتهى به الأمر إلى أن تكون تلك الازدواجية هي هُويته. تلك الدوافع المتضاربة بين كَبْت هذا الإدراك والتصالح معه وجَّهَت كتاباته بطرق مختلفة في أوقات مختلفة.
ويرى جلوج أن أحد التفسيرات الممكِنة لشهرة كامو في الوقت الحالي هو أن الطبيعة المجردة لفِكْره تجعله قابلًا للإحالة والإسقاط. فهو يتحدث عن وَعْي مجرد بالطبيعة والفناء، لكنه لا يخبر قراءه ماذا يفعلون بذلك الوعي. ولا تتبع كتاباته أي نظام عقائدي بعينه. لا يتبنى كامو مشروعا بعينه ولا أيديولوجيا بعينها، ولعل ذلك يفسِّر شيئًا من شهرته. ولا شك أن تلك الطبيعة المجردة تفسح المجال أمام محاولات الاستشهاد بكامو، لكنها تقود أيضًا إلى قدر كبير من سوء الفهم.
بعد نشر “الإنسان المتمرِّد”، كانت إحدى أكثر القراءات المغلوطة لَفتًا للأنظار هي تلك التي جَرَت في العالم العربي، حيث أُسيء فهمُ عمل كامو على نطاق واسع باعتباره سارتريا، أو بيانا ثوريا مؤيدًا للقُوى الرافضة للاستعمار. أثنَى أحدُ الباحثين من السكان الأميركيين الأصليين -فاين ديلوريا- على فقراتٍ لكامو في كتاب “الإنسان المتمرِّد”، تمجِّد الطبيعة وتُعليها على التاريخ البشري، رغم أنَّ كامو فضَّل المكان (الطبيعة) على الزمان (التاريخ)، ليس بسبب حُبِّه للطبيعة في ذاتها، بل بسبب أنه رأى أن التاريخ البشري يقود حتمًا إلى تحرير السكان الأصليين؛ ومن ثم زوال الجزائر الفرنسية.
تبنَّى كامو بالطبع العديدَ من القضايا علانيةً على مدار حياته، لكن كان ذلك على أساس كل حالة على حدة، وهو ما أدى إلى تفسيرات متعددة ومختلفة لتلك الالتزامات القصيرة الأجل. فوُصِفَ كامو بأنه إنساني، ومن دعاة الفوضى، ومُعادٍ للشيوعية، وديمقراطي اجتماعي، ومن مؤيدي الاستعمار، بل مُعادٍ للاستعمار. ومع ذلك، ليست أفكار كامو والتزاماته وحدها التي تجعله اليوم عُرضة للكثير من التأويلات المختلفة، وإنما شعبيته الواسعة أيضًا.
كامو لا يُساءُ فَهْمه بقدر ما يُستشهَد به. وقد صرح المُنظِّر المحافِظ نورمان بودهوريتز علنًا بأن كامو “يستحق أن يُستشهَد به”. وتُمثِّل حقيقة أن الوسط السياسي كله يستشهد بكامو دليلًا على الفرص التي تقدِّمها كتاباته للكثير من المتشوقين إلى إقران اسمه بقضيتهم، وذلك ليس فقط من جانب الأحزاب السياسية الكبرى، بل أيضا من جانب المثقفين العرب الراديكاليين، وكذلك من قِبَل اللاسلطويين الفرنسيين. وينشر عدو كامو القديم -وهو الحزب الشيوعي الفرنسي- جريدة يومية كثيرًا ما تقتبس منه في صفحتها الأولى.
التحول إلى رمز
عن سوء فهم كامو يقول جلوج “للسياسيين الفرنسيين دور رئيسي في هذه الممارسة كما قد يتوقع المرء، حيث استهلت مارين لوبان زعيمة الجبهة القومية المنتمية إلى اليمين المتطرف في يناير 2015 مقال رأي افتتاحيا في صحيفة نيويورك تايمز بالاقتباس من كامو. ويُحاكي إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي المنتمي إلى حِزب الوسط، تعبيراتِ كامو المجازية، كما تظهر طبعة فاخرة لأعمال كامو الكاملة في صورته الرسمية كرئيس، والتي تظهر في كل مكتب لرئاسة البلديات في فرنسا”.
ويذكر أن كاتِب خطب الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عادةً ما يقتبس من كامو. وفي عام 2009 اقترحَ ساركوزي أن يُنقَل رفات كامو إلى مقبرة العظماء “البانثيون”، مثوى رجال الجمهورية الفرنسية العِظام. وقد نشأ خلافٌ رفضَ خلاله جين ابن كامو المقترَح؛ الأمر الذي منعَ نقل الرفات.
وهكذا يزخر الوسط السياسي بسياسيين من جميع الأطياف مِمَّن يستشهدون بكامو: يصر اللاسلطويون الفرنسيون، على وجه التحديد، على تصوير كامو واحدا منهم؛ على سبيل المثال ثَمة موجز لمجموعة مقالات أعدَّها زعماءُ اتحاد اللاسلطويين الفرنسي بعنوان “كتابات ليبرالية”، الذي يشير بالفرنسية إلى جديلة من اللاسلطوية، ويحوي مقالاتٍ قصيرة لكامو.
وقد امتدحَ الشاعِرُ العراقي عبدالوهاب البياتي كامو عَلنا باعتباره نصيرا للثورة. في الوقت نفسه، سمحَ الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش بأن يُعرَف عنه أنه قرأ رواية “الغريب” في صيف عام 2006 في خِضم حرب العراق.
ويتابع جلوج “يُستشَهد بكامو أيضا في المجال الثقافي. ففي وسائل الثقافة الشائعة، خاصةً التلفزيون، استشهادُك بكامو هو أقصر طريق لإضفاء الطابع المثقف على شخصيتك، وبالتبعية على العَرض التلفزيوني نفسه. وعادة ما يكون الاقتباس نفسه غير ملائم للسياق؛ المهم هو ذكر اسم كامو”.
وفي السينما ألهمت أعمالُ كامو على مَرِّ العقود نجومَ السينما، آلان ديولن وويليام هارت وفيجو مورتنسن ومارسيلو ماستروياني، بتقديم التقدير اللائق به كمؤلِّف. ونزعت المعالجات السينمائية الرئيسية إلى معاملة أعماله كآثار تجمَّدت في الزمن. مثالٌ آخر على ذلك هو فرقة البوب “ذا كيور”، التي كانت أول أغنية لها حققت نجاحًا واسعا باسم “قتلُ عربي” أشبه بأنشودة لقطاعاتٍ من الشباب الأوروبيين في أوائل الثمانينات من القرن العشرين.
لكن وإن كانت الأغنية ملخَّصًا قصيرًا للمشهد الرئيسي في رواية “الغريب”، فإنها تعكس عدم الاكتراث بحياة العربي الذي تنطوي عليه الرواية بالفعل وتعزِّزه. يمثِّل قتلُ العربي ذريعة، حَدَثًا يؤدي إلى انعكاساتٍ وجودية مهمة عند الجمهور الغربي. وما يتجلَّى بوضوح في الأغنية والرواية على حَدّ السواء هو أن ثَمة أشياء أهم بكثير من قتل إنسان عربي. ليست الفظاعة في الرواية أن ميرسو قتلَ عربيا، بل إنه سِيقَ إلى الإعدام لعدم حداده على أمه. تضخم أغنية البوب من هذه الفظاعة بقوة، ولم يصدِّق البعضُ في فرنسا أن الأغنية كانت عن رواية “الغريب”، هكذا كان حجم الإنكار في حق الحدث الرئيسي في الرواية.
في النهاية، التغيُّر على الساحة السياسية والنجاح العالمي الذي حقَّقته فرقة “ذا كيور” دفعَا الفرقة إلى تعديل الكلمات والعنوان ليصبح “تقبيلُ عربي”. المفارقة هنا هو أن هذا التغيير يعكس ما حاولَ الكثير من النقاد فِعله مع أعمال كامو ككل، وهو تهذيب الحواف الحادَّة وصقلها لأغراضٍ سياسية أو تِجارية محدَّدة.
ويشير إلى أنه في الجمهورية الفرنسية يُعَد كامو مبجَّلًا بالفعل. إنه يجسد مثالها الأعلى؛ فقد كان رغم كل شيء الابن البسيط لخادمة، ومشرِف على بستان عنب مات في الحرب. وبمساعدة الدولة الفرنسية ونظامها التعليمي، أصبحَ كاتبا مشهورا وحائزا على جائزة نوبل؛ تلك الإنجازات في حد ذاتها دعاية لنظام التعليم الفرنسي والجمهورية الفرنسية ككل.
أصبح كامو أشبه بمعبود الجماهير المنزه عن الانتقاد بالنسبة إلى فرنسا. وانتقاده يرى إلى حد ما انتقادا لفرنسا نفسها. إن انتقاده يرقى أيضا إلى “قتل الإوزة السحرية التي تبيض ذهبا”؛ ففي عالم النشر يُعَد كامو مصدر إيراد كبيرا. فهو يوفِّر ما لا يوفِّره إلا قليل من المؤلفين الفرنسيين: إمكانية قراءة قصص في إطار استعماري تُخفي ما يتعرض له السكان الأصليون من قمع. معظم الكُتَّاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر كانوا إما يطربون بالاستعمار وإما متألمين منه؛ أما كامو فيُظهِر عدم اكتراث به في روايتَيه الأكثر شهرة، “الغريب” و”الطاعون”. يقمع كامو اللاوعي الاستعماري، ويفسِّر هذا القمع الكثيرَ من الجاذبية الدائمة نحوه.
تحقيق مضاد
يرى جلوج أن كامو كان مصدرَ إلهام أكثر من كونه شخصًا يحظى بالتقدير أو تُمارَس محاولات للتمسح بآرائه وأفكاره. في عام 2013 كتبَ الصحافي والروائي ومؤرخ الأحداث كامل داود “ميرسو، تحقيق مضاد”، وهي تتمَّة جريئة وأصيلة لرواية “الغريب” لكامو. من حيث بِنْيتها، رواية داود تُماثِل “السقطة” أكثر من “الغريب”؛ لأنها حوارٌ ذاتي طويل يتنكر في شكل حوار بين رجلَين.
الشخصية الرئيسية، واسمها هارون، هي بعينها أخو الرجل العربي الذي قتله ميرسو. تبدأ الرواية بمعارضة الرؤية الأوروبية الأحادية الجانب في الرواية الأصلية. نتعرَّف على الرجل الذي قتلَه ميرسو، والذي كان يسمى موسى، وعلى حزن أفراد عائلة موسى الشديد، الذي لم يُثِره فقط الحدث نفسه، بل غياب اهتمام كامو والمجتمع الفرنسي بهم وبجانبهم من القصة أيضًا.
◙ كامو أصبح أشبه بمعبود الجماهير المنزه عن الانتقاد بالنسبة إلى فرنسا وانتقاده يعتبر انتقادا لفرنسا نفسها
وفي المقابل نكتشف أن هارون نفسه قتل شابا أبيض عن غير عمد على ما يبدو، الجريمة التي اعتُقِلَ بسببها. رغم ذلك، لا تُعَد “ميرسو، تحقيقٌ مضاد” عملًا للتنديد؛ لأننا سُرعان ما نعي أن الكتاب أيضا فيه تكريم وتقدير لرواية “الغريب”. في الواقع، العديد من موضوعات رواية داود وفقراته كاموية الطابع على نحو فريد واستثنائي.
مثلا، يعترض داود على الدولة الجزائرية الأحادية الحزب في فقرة يُلقي فيها ضابطٌ من جبهة التحرير خطبة على مسامع موسى -بعد اعتقاله- عن العلم الجزائري الجديد، تمامًا كما فعلَ المدعي العام بالصليب في وجه ميرسو في رواية “الغريب”. يتحدى داود وكامو مجموعة من القيم الثقافية المصاحبة لما يريانه أنظمة إقصائية، سواءٌ كانت الجمهورية الفرنسية أو الدولة الجزائرية المستقلة حديثًا. ولذا، فإن رواية داود نقد لتحيز كامو الاستعماري واحتفاء بنقده القاسي لجوانب أخرى من المجتمع الفرنسي.