يوسف عبدلكي لـ"العرب": أجد نفسي مبدعا أكثر في ثنائيتي الأبيض والأسود

يقدم الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي معرضه الفني الأحدث في مدينة دمشق، بعد انتظار جمهورها سنوات بعد معرضه الشهير عن المرأة الذي شهد عاصفة من الجدل الفني. في معرضه الأحدث يقدم لوحات جديدة، تحضر فيها المرأة والألم والحلم والأمل، معرض يحتفي به جمهور مدينة اعتادت على توقيت أحداثها الفنية بمعارضه.
لا يمر معرض للفنان التشكيلي يوسف عبدلكي بشكل هادئ، فهو في كل معرض يحقق حضورا مدويا يحرك به المشهد التشكيلي السوري بقوة.
قبل سنوات وتحديدا في نهايات عام 2016 قدم معرضا صور فيه جسد المرأة العاري. ثارت حوله ردود فعل عاصفة، وشكلت مناخا لجدل فني امتد طويلا، ثار البعض حينها لطرح الفكرة في زمن كانت العواصف السياسية تحيط بسوريا وتشي بأيام صعبة قادمة، وهو الأمر الذي كان. ودافع آخرون عن الفكرة ناظرين إليها من وجهة نظر فنية خالصة.
وبعد انتظار سنوات، يعود عبدلكي ليقدم معرضا فنيا في صالة جورج كامل بدمشق. انطلق المعرض يوم الرابع من يونيو الجاري. حضرته عوالم عميقة من المشاعر الإنسانية. في معرض عبدلكي تغلب على اللوحات مسحة لونية لا تغادر اللونين الأسود والأبيض، وهما الأثيران لديه، ومنهما رسم الكثير من لوحاته السابقة ويبدو أنه سيرسم بهما لوحاته اللاحقة. بهما حقق كثيرا من مجده الفني العربي والعالمي.
عبدلكي هو الفنان الذي يراهن على موضوع الزمن، يرى أنه المحك الأساسي الذي يؤطر فن المبدع ويجعله في بؤرة الوجود. فالزمن لديه هو الذي يحدد قيمة الفنان الحقيقية التي تعيش في وجدان الناس. فالجمهور يوجد انطباعات عن الفنان وعمله، كما تقوم الحركة النقدية بجهدها وتبين مواضع التألق أو الخلل في مسيرة حياة فنان ما، لكن هذه الأمور لا تعطي قيمة الفنان بمقدار الزمن الذي يحتفي بالفنان ويخلده في وجدان الناس، انطلاقا من قيمته عنده.
تنوعت مقاسات اللوحات بين الصغيرة والجدارية، وحضرت ملامح الألم الإنساني فيها وهي تقتنص لحظات راعفة في عيون شخوص يعانون قسوة الحياة وآلامها.
صورة وألم
قدم عبدلكي كما العادة رسوما للسمك والعصافير والسكين وبالتأكيد المرأة التي تجلت في العديد من اللوحات، ومن خلالها قدم بوحا من عواطف الحسرة والوجع والفقد.
روح الريف الجزراوي الذي جاء منه عبدلكي لم تغب عن تفاصيل المعرض، فكانت موجودة في لوحات المرأة بشكل واضح، وهي تجسد تفاصيل تخصها في ملبس أو نظرة أو دمعة أو انتظار.
توقف الناس أمام لوحة العائلة التي تقف على حافة الانتظار لمقابلة ابنها الخارج من السجن، تظهر فيها تكوينات بصرية رفيعة المستوى، تحاكي مشاعر الضعف والقهر الذي يعيشه الناس في لحظات مشابهة. تنوعت وجهات النظر إليها، ولكنها اتفقت على أنها أداء بصري تشكيلي رفيع للحظات عميقة من الألم الذي تعيشه مجموعة من الإناث وهن ينتظرن بقهر فسحة من الأمل والفرح.
من خلالها حضرت السياسة كما في معظم لوحات المعرض، وشكلت خلفية للحدث الذي تشكل خطوطا سوداء يحاول أن يجترح مساحات من الراحة في واقع احتلال الوجع مكامن الحياة. فالسياسة عند عبدلكي حاضرة بقوة.
يقول في دردشة سريعة مع صحيفة "العرب"، "لا يمكن للحياة أن تغيب عنها السياسة، لأنها تدخل في تفاصيل حياتنا اليومية، حتى النفس الذي نقوم به. وهذا ليس حال وطننا فحسب بل حال العالم كله. وسائل التواصل الاجتماعي زادت من ذلك حيث أصبح العالم منطقة واحدة، في كل العالم تتدخل السياسة في تكوين الإنسان وذهنيته ولا يمكن للإنسان أن ينفصل عنها مهما حاول".
منذ أن بدأ الفنان التشكيلي عبدلكي يرسم ويمارس الفن التشكيلي، توجه نحو اللونين الأسود والأبيض اللذين كانا حروفه اللونية الأولى، وفيهما فجر كل طاقاته اللاحقة للرسم، سواء في فن الكاريكاتير أو اللوحات العادية.
من خلال الرسم بالفحم، قدم الفنان السوري الآلاف من اللوحات والتصاميم والأعمال الفنية التي شكلت لديه هاجسا فنيا ولغة واضحة في مساره الفني.
ويقول عبدلكي "منذ خطوات حياتي الأولى كنت أتبع هذا الشكل الفني، وحققت فيه خطوات، خرجت عنه لفترة محددة، رسمت فيها في اللون وبعدة أشكال وطرق، لكنني عدت إلى الأسود والأبيض، أكون في هذا الشكل قادرا على تقديم رؤايا بشكل قوي وأحقق الأفكار التي أريدها بوضوح، الأفكار تقدم هنا بطريقة مختلفة وفيها كثير من الإبداع".
وعبدلكي فنان يرسم تاريخا فنيا عريقا، وهو يمثل أحد أهم ركائز فن التشكيل في سوريا في الوقت الحاضر، ينتمي إلى شريحة من الفنانين السوريين الذين أوجدوا حالة فنية متناغمة، كانت مثالا للتوقد الفكري السياسي، ودفعت من أجله آلاما وتضحيات.
أسود وأبيض
جاء من مدينة القامشلي في الشمال الشرقي من سوريا، حيث التنوع العرقي واللغوي والديني، والذي أوجد فيه جينات حضارية تحمل خصوصية الوطن السوري بكامل طيفه، كما حمل منذ طفولته راية الفن المناهض للخوف والقسوة، فكان فنانا مطالبا بالحرية والعدالة والمساواة بين الناس، وهي الأمور التي تعلمها منذ طفولته، من خلال مسار حياة والده السياسي الذي سجن بسببه اثنتي عشرة مرة.
غادر عبدلكي وطنه سوريا في بدايات عام 1980 إلى باريس، وأقام فيها مدة ربع قرن، لم ينقطع خلالها عن الوجود الفني في سوريا، لكنه غاب روحا وجسدا عنها.
◙ روح الريف الجزراوي الذي جاء منه عبدلكي لم تغب عن تفاصيل المعرض، فكانت موجودة في لوحات المرأة بشكل واضح
في باريس التي عاش فيها طويلا لم يرتهن لإيقاعها الحضاري، وكان يرى أنها محطة استثنائية لا يمكن أن تؤثر فيه إبداعيا بالشكل الذي كانت عليه القامشلي وبيئة الجزيرة السورية وتاليا دمشق. فحضرت هذه الأماكن وغابت باريس.
كل لوحات المعرض كانت تضج بالمكان، سواء بالتصريح أو بالرمز، ولم تحضر باريس في أي منها. كانت اللوحات مرتبطة عضويا بمكان أو لحظة ألم أو حكاية وجع لأناس ينتمون إلى بيئة محددة هي وطنه سوريا، فحملت اللوحات آلام هؤلاء وأحلامهم وآفاق مستقبلهم.
كذلك غاب رسم الكاريكاتير، وهو فن برع فيه عبدلكي، وقدم فيه خطوات كبيرة، سواء تعلق الأمر بلوحات أو دراسات عنه قدمت للعديد من المراكز البحثية في مراكز فنية عربية وعالمية.