الحلول الأمنية لن توقف مراكب "الحرقة".. إيطاليا تدرك ذلك

الأوروبيون يطلقون عليها هجرة غير شرعية، وهجرة سرية. وفي تونس يطلق عليها اسم “حرقة”.
هي مواجهة بطولية، وملحمة تشارك فيها نساء وفتيات وأطفال وطاعنون في السن وشباب ضاقت بهم سبل الحياة.
يموت المهاجر وقلبه مدفون في بلده الأم. كل ما في الأمر أنه أجبر على اختيار المر، هربا من الأمر منه. لا تصدقوا مهاجرا يقول إنه سعيد بغربته، حتى لو حقق النجاح.
“الحرقة” ظاهرة متعددة الأبعاد تتطلب تعاونا دوليا لمواجهتها. لا يمكن إلقاء المسؤولية على دولة واحدة دون غيرها، بل يجب أن تتشارك كل الدول؛ المنشأ والعبور والوجهة، معا للبحث عن حلول، خاصة دول الوجهة، التي عليها أن تتعامل بإيجابية مع الأسباب التي تقف خلف ظاهرة الهجرة غير الشرعية، ومنها الفقر والبطالة والصراعات. وتتحمل نصيبها من اللوم لما وصل إليه الحال في القارة السمراء.
للدول الأوروبية الحق في إظهار القلق والتعبير عن مخاوفها من توجه مراكب الحرقة إلى شواطئها بالمئات، ومن حقها أن تحمي حدودها. وبالمقابل من حق المهاجرين أن يركبوا الصعاب ويتحدوا الموت ويستخدموا كل الوسائل المتاحة لهم لاختراق تلك الحدود.
◙ وحدها إيطاليا، وهي المتضرر الأكبر من الهجرة غير الشرعية، كسرت حالة الانتظار والتردد التي اتسم بها موقف الأوروبيين من الوضع في تونس، وطالبت بوقف منطق إعطاء الدروس لـ"الشعب التونسي الصديق"
ما ليس من حق الأوروبيين أن يقصروا المواجهة على الخيار الأمني.
وفي هذا السياق تأتي الدعوة التي وجهها الرئيس التونسي قيس سعيد إلى تنظيم اجتماع على مستوى القمة بمشاركة كل الدول المعنية بهذا الموضوع سواء جنوب البحر المتوسط أو شماله.
واضعا النقاط على الحروف قال قيس سعيد: “يجب العمل من أجل القضاء على التنظيمات التي تعتبر المهاجرين بضاعة (…) الحل لا يمكن أن يكون أمنيا لأن الأمن موكول له محاربة الجرائم بكل أنواعها ولكنه ليس الأداة للقضاء على البؤس والفاقة والحرمان”.
عندما تذهب الدول الأوروبية لمثل هذا الاجتماع، في حال انعقاده، عليها أن تتذكر ماضيها الاستعماري، والدين الذي عليها للدول الأفريقية.
الاستعمار الأوروبي لأفريقيا لم يبدأ من نهاية القرن التاسع عشر، بل بدأ في القرن الخامس عشر مع تدافع دول أوروبية مثل البرتغال وإسبانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا لاستكشاف سواحل أفريقيا وإقامة مستعمرات تجارية وعسكرية.
مطلوب من القائمين على تنظيم الاجتماع استقبال الوفود الأوروبية بمعرض، بالصوت والصورة، يذكرهم بماضيهم الاستعماري وتجارة العبيد عبر المحيط الأطلسي، وتم خلالها نقل ملايين الأفارقة، عبيدا، إلى شواطئ الأميركيتين.
هذه بعض الأرقام الصادمة..
في القرن السابع عشر تم شحن 60 مليون أفريقي في سفن شراعية، في رحلة تقطع فيها مسافة 7500 كيلومتر تقريبا خلال شهرين أو أكثر، تواجه خلالها مخاطر بحرية وهجمات قراصنة.
ثلثي الأفارقة الذين تم شحنهم ماتوا (40 مليونا) بسبب المرض والتعذيب وحوادث الغرق والانتحار. وإذا عرفنا أن عدد سكان أفريقيا في عام 1650 كان 100 مليون نسمة وليس مليار نسمة كما هو الآن، ندرك حجم الجريمة التي ارتكبها “العالم الحر” بحق سكان القارة السمراء.
إلى جانب هذا المعرض يمكن تخصيص قسم للأضرار البيئية التي تتحمل مسؤولية القسم الأكبر منها الدول الصناعية.
كانت مساحة الغابات في أفريقيا تغطي ما يقارب 75 في المئة من إجمالي مساحة القارة. تقلصت هذه المساحة اليوم لتبلغ 17 في المئة. كل ذلك بسبب تجارة العبيد وسياسة المستعمر الزراعية وبسبب الحروب والتغيرات المناخية.
◙ عندما تذهب الدول الأوروبية لمثل هذا الاجتماع، في حال انعقاده، عليها أن تتذكر ماضيها الاستعماري، والدين الذي عليها للدول الأفريقية
ليس مطلوبا من الدول الأوروبية أن تفتح حدودها أمام فيضان المهاجرين، ولكن المطلوب منها أن تتحمل مسؤوليتها عما ألحقته بشعوب القارة من أضرار واستنزاف أرضها بعد استنزاف سكانها. أقل ما يمكنها عمله أن تخصص نسبة من مواردها لتنمية اقتصادات الدول الأفريقية وخلق فرص عمل دون شروط مذلة.
بدلا من ذلك اختارت الحكومات الأوروبية أن تستمر في استنزاف الدول الأفريقية، باستقطاب مهاجرين حسب الطلب. فهي تغلق الحدود أمام قوارب الحرقة، لتنتقي مهاجرين يحملون كفاءات علمية ومهنية هي بحاجة إليها.
في ألمانيا وحدها، توجد آلاف الوظائف الشاغرة لمهندسين وأطباء وفي مجال التمريض، ومهن حرفية أخرى، وهو ما دفع الحكومة الألمانية إلى سن قانون هجرة العمالة المتخصصة (عمالة حسب الطلب) لتسهيل جلب أصحاب المؤهلات والاختصاصات من خارج الاتحاد الأوروبي إلى سوق العمل الألماني.
وفقا لرابطة غرف الصناعة والتجارة الألمانية، هناك أكثر من 1.5 مليون وظيفة ستجد ألمانيا صعوبة انتداب عمال مهرة يشغلونها على المدى الطويل.
هذا في ألمانيا، تخيل ماذا سيكون الرقم عندما نضيف كندا وإيطاليا وأستراليا والولايات المتحدة وفرنسا..
قد يجادل البعض، ما الضرر في ذلك، هجرة الكفاءات للعمل في دول أوروبية ستعود بالفائدة على دولهم العاجزة عن خلق فرص عمل لهم.
هذه قراءة متسرعة إن لم نقل سطحية، دعونا نتوقف قليلا ونتساءل: كم تنفق الدولة على إعداد طبيب أو مهندس منذ المراحل الأولى للتعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي وصولا إلى التعليم الجامعي والتخرج؟
في تونس لم أحصل على جواب لهذا السؤال، ولكن، في دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا، تبلغ كلفة تعليم الطالب الواحد في المدارس والكليات التي تديرها الدولة بين 6000 و8000 يورو سنويا بحسب المرحلة التعليمية. وبالتالي، يمكن تقدير تكلفة تعليم الطالب الواحد على الدولة في فرنسا حتى سن الثامنة عشرة بحوالي 72000 يورو.
الرقم بالطبع لا يشمل مرحلة التعليم الجامعي، الذي قد يفوق، في الاختصاصات العلمية، الرقم السابق.
رغم ذلك تشترط الحكومة الإيطالية والألمانية على المتقدم لوظيفة تعلم اللغة الألمانية أو الإيطالية في بلده قبل منحه التأشيرة، وتدفع له كلفة تعلم اللغة. والغريب هناك من يشكر سخاء الحكومتين، بينما ما تسعيا إليه هو توفير مبالغ كبيرة تنفق على الطالب في حال جرى تعلم اللغة في ألمانيا أو إيطاليا.
◙ يموت المهاجر وقلبه مدفون في بلده الأم. كل ما في الأمر أنه أجبر على اختيار المر، هربا من الأمر منه. لا تصدقوا مهاجرا يقول إنه سعيد بغربته، حتى لو حقق النجاح
هل هناك التباس في معرفة من هو الطرف الرابح ومن هو الطرف الخاسر؟
تجارة العبيد التي بدأت في القرن السابع عشر مازالت مستمرة، مع فارق واحد، في القرن السابع عشر كانت أميركا تحتاج إلى القوة العضلية للعمل في المزارع والمناجم ومد قضبان سكك الحديد. اليوم الغرب الذي يعاني من الهرم ونقص عدد من هم في سن العمل، يحتاج إلى مهندسين وأطباء وخبراء في المعلوماتية والتكنولوجيا.
ما لم يجلس الجميع لوضع خطط جادة لوقف “الحرقة”، أفضل رد للتعامل مع الغرب هو إلغاء الرقابة على الحدود في دول المنشأ والعبور.
وحدها إيطاليا، وهي المتضرر الأكبر من الهجرة غير الشرعية، كسرت حالة الانتظار والتردد التي اتسم بها موقف الأوروبيين من الوضع في تونس، وطالبت بوقف منطق إعطاء الدروس لـ”الشعب التونسي الصديق”، مشددة على أن التمويل الممنوح لتونس لا يمكن أن يكون مشروطا بإصلاحات، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة مالية واقتصادية صعبة.
رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني أعلنت خلال زيارتها إلى تونس الثلاثاء عن رصد بلادها لتمويلات بقيمة 700 مليون يورو لمساعدة القطاعات الحيوية في تونس. كما أعلنت عن عقد مؤتمر دولي للهجرة يتماشى مع المبادرة التي أعلن عنها الرئيس التونسي قيس سعيد.
نأمل أن تشكل الخطوة الإيطالية بداية صحوة تدرك بعدها الدول الأوروبية أن “الحلول لا يمكن أن تكون أمنية فقط بعد أن أثبتت التجربة أنها غير ناجعة”.
تشييد الأبراج لن يوقف مراكب “الحرقة”.