عزالدين علية نحات خطوط الجسد ووريث معماريي الأزياء

المصمم التونسي الريفي الخجول والمتكتم أحدث بتصاميمه ثورة في عالم الموضة الباريسية في الثمانينات والتسعينات.
الأربعاء 2023/05/31
مصمم أزياء أم معماري أم نحات.. هو الثلاثة معا

حدثان في أقل من أسبوع واحد عادا بالذاكرة إلى الوراء 35 سنة؛ الحدث الأول وفاة نجمة الروك تينا ترنر في الولايات المتحدة. والثاني أيام قرطاج للفن المعاصر في تونس.

الرابط بين الحدثين نحات خطوط الجسد وإمبراطور الموضة ابن الريف التونسي عزالدين علية. في بداية التسعينات كانت تينا ترنر في قمة تألقها، وكان علية في قمة تألقه، تجمع بينهما علاقة ساهم كل طرف فيها بصناعة مجد الطرف الآخر.

في الثمانينات التقى علية بتينا ترنر وسرعان ما أصبح صديقا لها ومصمما لأزيائها. كان يصمم لها فساتين لجولاتها الموسيقية مستخدما قماشا مطاطيا ومستخدما الجلد والشبك لإضفاء لمسة من الجرأة والأنوثة على مظهرها. وكثيرا ما رددت تينا أنها تحب أزياء علية فهي تمنحها شعورا بـ”الثقة والحرية”.

المجهول في بلاده

علية كان آخر المصممين الكبار الباقين على قيد الحياة، والوحيد الذي ظل يتقن كل مراحل تصميم الملابس

في عام 1986، عرضت قناة “آي إن إيه” الفرنسية جلسة تجربة ملابس في مشغل علية بباريس، في الفيلم الوثائقي يمكن رؤية ترنر تستعرض فساتين علية المذهلة بحماس، مغنية وراقصة وضاحكة. كان علية يشاركها المرح مظهرا إعجابه الشديد بها. كان المشهد الموثق دليلا على صداقة حميمة تجمعهما.

وفي عام 2021، أصدرت دار نشر ألمانية كتابا فوتوغرافيا يحتفل بصداقة علية مع المصور الألماني بيتر ليندبرغ، يحتوي الكتاب صورا التقطها ليندبرغ لملكة الروك مرتدية أزياء علية في مواقع تصوير مختلفة، مثل باريس وكاليفورنيا وفي عمق الصحراء. هي صور تبرز جمال ترنر وأنوثتها وروعة أزياء علية ورؤية ليندبرغ الفوتوغرافية.

عام 2017 توفي عزالدين علية، وبعد وفاته تعرفت عليه تونس. في أبريل 2019 نشر الإعلامي التونسي سمير الوافي تدوينة تناولت تدشين وزير الشؤون الثقافية لساحة الفنون عزالدين علية بمدينة سليانة قال فيها “لم يكن أحد يعلم قبل وفاته أن الراحل ابن سليانة” (محافظة شمال غرب تونس)، مضيفا “إن المصمم العالمي لم يذكر أبدا اسم مدينته ولم يوظف شهرته لصالحها بل انصرف لنجاحه العالمي ونسي الطريق التي جاء منها”.

ما قاله الوافي لم يجانب الصواب في نصفه الأول. لم يكن التونسيون يعرفون عزالدين علية قبل وفاته؛ حفنة من التونسيين فقط عرفت أن إمبراطور الموضة عزالدين علية هو ابن سليانة، وسمعت باسمه. القسم الآخر من كلام الوافي فيه الكثير من التجني.

الإعلامية سيماء المزوغي نشرت ردا على الوافي، وكانت حينها مديرة مكتب الإعلام والاتصال في وزارة الثقافة، جاء في الرد: “لمن يجهل عزالدين علية، الذي آمن ببلده وأحب سليانة ولم

غغ

يقرأ حواراته باللغة الفرنسية، أجيب من لا يعرف، أو من يجهل.. عزالدين علية كان يعود إلى تونس كثيرا قبل الثورة إلى أن هُرسل (تعرض لمضايقات) في المطار، وتعرض للإهانة في منزله بسيدي بوسعيد، وأذاقوه الأمرين لا لشيء إلا لأنه رفض دعوة سيدة قرطاج السابقة، وامتنع عن تصميم ملابس لها. ولم يعد لتونس إلا بعد الثورة، وفي السنة التي رجع فيها وجد بيته قد تعرض للسرقة. ولكنه بقي يحب تونس ويذكرها بخير”. وتؤكد المزوغي أن هناك تفاصيل أخرى تترفع عن ذكرها، وأنها تكتفي بوضعها تحت عنوان “تونس أهملته وقست عليه لكنه أحبها”.

بغض النظر عن التفاصيل التي لم تفصح عنها سيماء، هل نحن مطالبون أن نقرأ بالفرنسية لنعرف عن إمبراطور الموضة ونحاتها الذي لا يضاهيه مصمم آخر؟ ما كتب عن الإمبراطور باللغة العربية قليل، وقليل جدا.

من هو عزالدين علية؟

طرحت السؤال على مجموعة من الأصدقاء الإعلاميين والصحافيين في نادي الصحفيين بالعاصمة تونس، وكما توقعت لم أتلق أيّ جواب شاف.

كنت أتوقع ذلك، غادرت نادي الصحافيين متوجها إلى مدينة الثقافة الشاذلي القليبي في شارع محمد الخامس، حيث تقام أيام قرطاج للفن المعاصر وكان القائمون على الحدث قد أعلنوا أن الدورة تكرم الفنان عزالدين علية، باحثا عن الإجابة التي لم أجدها هناك أيضا.

من هو هذا المصمم التونسي الريفي، الخجول والمتكتم؟ وكيف أحدث ثورة في عالم الموضة الباريسية في الثمانينات والتسعينات؟ هناك القليل من المعلومات التي يمكن جمعها لتكتمل الصورة.

بطل العزلة

 أزياء منحوتة بروح أخرى
أزياء منحوتة بروح أخرى

ولد عزالدين علية في أسرة من المزارعين في محافظة سليانة في تونس عام 1940 (هناك مصادر تقول إن تاريخ ميلاده هو 1939). منذ طفولته اهتم علية بالرسم؛ الموهبة التي حاول والداه تنميتها، وتأثر بالسينما، ولطالما تردد على صالات العرض لمشاهدة الأفلام الأجنبية. بحسب ما يروي في كتاب جمع فيه مواقف من حياته.

وفي مقابلة أجرتها معه إحدى الأسبوعيات في باريس، قال علية، إن للسينما أكبر تأثير على عمله وفنه.في عام 1954، في سن الخامسة عشرة، التحق بكلية الفنون الجميلة، حيث درس النحت. وفي نفس الوقت مارس مهنة الخياطة في محل خياطة تدعى ليلى منشاري، كانت متخصصة بنسخ وتقليد تصميمات مصمم الأزياء الشهير بيير بالمين، لتوفير مصاريف الدراسة.

ومعروف أن بالمين، وهو مصمم أزياء فرنسي، أسس دار أزياء باسمه عام 1945، وكان يتميز بتصاميمه الراقية، التي ارتدتها نجمات مثل مارلين مونرو وبريجيت باردو وإيفا غاردنر. وكان يعتبر من كبار المعلمين، يمكن تتبع تأثيره الطاغي في أعمال الكثير من المصممين أمثال كريستيان ديور، وعزالدين علية نفسه. وبعد وفاته عام 1982، خلفه في إدارة دار الأزياء إريك مورتنسن وأوسكار دي لا رنتا.

من هذه الخلفية انطلق علية في مسيرته الاحترافية وبسن مبكرة جدا، لم يكن عمره قد تجاوز العشرين عاما. وبعد أن عمل لدى دار ديور ودار موغلر، استقل ليفتتح مشغلا خاصا به، ما لبث أن ذاع صيته حين أطلق موضة السحابات والفساتين المنحوتة اللاصقة بالجسم.

التونسيون كانوا يجهلون عزالدين علية قبل وفاته، وقليلون فقط عرفوا أن إمبراطور الموضة هو ابن سليانة التونسية

العلاقة الأبرز التي تركت أثرا عميقا في مسيرة علية لقاء لم يتم على أرض الواقع مع كريستوبال بالنسياغا مصمم الأزياء الإسباني الذي اشتهر بتصاميمه المبتكرة.كان بالنسياغا الذي عرف بسيد القصات، قد انتقل إلى باريس في عام 1937 واعتزل الموضة في عام 1968 تاركا بصمته على الكثير من المصممين اللاحقين.

في عام 1968، وفي مواجهة الارتفاع الهائل في الطلب على الأزياء الجاهزة، اتخذ كريستوبال بالنسياغا قرارا بإغلاق الدار. ومن إعلان بسيط على الراديو، ومهيب كإعلان عن وفاة شخص عزيز. أبلغ العملاء المخلصين والأصدقاء والصحافيين وجميع النساء اللائي يزرن متجره بانتظام في شارع جورج الخامس أنه لن يكون هناك المزيد من المجموعات.

بعد فترة وجيزة، بدأت مادموزيل رينيه، التي أمضت عدة عقود في خدمته كنائب للمدير العام، تشعر بالقلق حول مصير المخزون المتبقي من الأقمشة والفساتين، وقررت أن تتصل بشخص من قائمة أسماء طويلة تقافزت إلى ذهنها؛ رجل صغير، ولكنه رائع اسمه على شفاه عملاء الأزياء الراقية جميعا.

إنه عزالدين علية الذي دعته للحضور ليختار بحرية من مجموعة إبداعات مميزة لسيد الموضة، وأن يعمل يديه الماهرتين ومقصه فيها ويمنحها مظهرا جديدا.

وقف علية مذهولا أمام رشاقة التصميم وهندسة القصات وبراعة التقنية. وكان رد فعله الفوري أنه لن يشارك في الإساءة لتلك الروائع، ولن يجرؤ على تعديلها. ولكن هذا لم يمنعه من أن يستوحي أسلوبه الفني والهندسي في تصاميمه الخاصة. كان المصممان يشتركان في حب اللون الأسود والقصات المعقدة والأنثوية.

يقول علية لاحقا “عدت إلى المنزل مع حقيبتين كبيرتين ممتلئتين حتى الحواف. وهكذا بدأت رحلتي في جمع روائع الموضة”.

في المنزل، وضع علية الـ”كنز” أمامه وراح يفرد محتواه بعناية فائقة على أسرة مفروشة بالحرير، آخذا عهدا على نفسه أن يحافظ على أعمال سيد الموضة الإسباني بالنسياغا.

قبل بضعة أشهر فقط من وفاته، روى عزالدين علية القصة واصفا اللقاء مع بالنسياغا بـ”أول صحوة حقيقية” له. ما تلا ذلك يؤكد الاهتمام الذي أظهره المصمم التونسي بجمع ما سماه “ذاكرة الموضة”. ورغم موارده المحدودة في ذلك الوقت المبكر من حياته المهنية، تحول علية إلى مقتن متعطش يحافظ على كل قطعة تقع يده عليها.

في بداية السبعينات، عندما كان العديد من معاصريه يستثمرون في الفن المعاصر والحديث، كان اهتمام علية منصبا على الملابس. كان شغوفا خاصة بفساتين فترة الثلاثينات والخمسينات، وراح وجمع قطعا صمّمها معلمون كبار مقتفيا خطواتهم.

yy

سرعان ما أحاط علية نفسه بفساتين من تصميم غريس، وفيونيت، وشياباريلي، ومرة أخرى بالنسياغا، من بين آخرين كثر. مع مرور الوقت، أصبح علية معروفا بأنه آخر المصممين الكبار الباقين على قيد الحياة، والوحيد الذي ظل يتقن كل مرحلة من مراحل تصميم الملابس وتصنيعها.

أصبح “بطل العزلة” وريث نحاتي ومعماريي الأزياء الكبار. كثيرا ما جلب له العملاء مشاهير فساتين بالنسياغا طالبين منه إجراء تعديلات طفيفة مثل تقصير الحاشية، وكان يسألهم إن كان بإمكانه الاحتفاظ بالفساتين وصنع شيء جديد عوضا عنها.

في ذلك الوقت يقول علية “بدأت أدرك حقيقة أن الموضة تراث ثقافي”. ومن بينها جميعا، “كانت أزياء بالنسياغا هي أكثر ما أطمع باقتنائه وأعتز به”.

يشترك المعلمان التونسي والإسباني بتوازن مثالي في التصميم، وميل للألوان الهادئة وخصوصا الأسود الفخم، وفي انسيابية فساتين السهرة وفي الهندسة المعمارية لمعاطفهم وقصاتهم. وسواء كانت فساتينهم مصممة للمساء أو للنهار، قصيرة أو طويلة، كانت دائما نموذجا للهندسة المعمارية.

وسيذكر تاريخ الموضة مستقبلا أن كليهما طور مناعة تحميه من الاتجاهات العابرة في عالم الأزياء.

ما جمع بين سيدي الأزياء اللذين لم يتقابلا أبدا كان محور معرض باريسي أقيم في قصر غاليرا مطع عام 2020، لاكتشاف التشابه والاختلاف بين مصممين يعتبران من أبرز النحاتين المتمردين في عالم الموضة. ضم المعرض أكثر من 50 قطعة من تصاميم بانسياغا وعلية، تم اختيارها من مجموعة علية الخاصة.

في مطلع الألفية الثالثة، ازدادت شهرة علية وتوسع كثيرا في عمله، وبدأت مجموعة دور الأزياء الإيطالية برادا تشتري جميع إنتاجه، وتم الاتفاق على إنشاء مؤسسة علية، وسرعان ما بنى مقرا رئيسيا في أرقى شوارع باريس (18 شارع دو لا فير) على مساحة 750 ألف قدم مربع، ضم متجرا وورشات عمل وشقة خاصة به.

تحقيق العالمية

uu
ابن الريف التونسي الذي غزا عالم الأزياء

اليوم، يحتضن المبنى متحفا خاصا يعرض أعماله للحفاظ على إرث المصمم. ويضم المتحف مجموعة يتجاوز عددها 35 ألف قطعة من تصميم علية، بالإضافة إلى مجموعات من الفن والأثاث والكتب. وينظم المتحف معارض مؤقتة ودائمة لإبراز جوانب مختلفة من عمل علية وحياته، ويستقبل الزوار بشكل مجاني.

الاهتمام بعلية لا يقتصر على أوروبا، على الجهة المقابلة للمحيط، في حي سوهو بنيويورك، خصص متحف “غوغنهايم” جناحا خاصا بعلية يروي قصته مع عالم الموضة.

لا يمكن إنهاء الحديث عن ابن سليانة التونسية دون أن نتوقف ولو قليلا ونذكر نساء شهيرات ارتدين ملابسه. كنا قد بدأنا القصة بالحديث عن ملكة الروك تينا ترنر وعن العلاقة الاستثنائية التي جمعت بينهما.

ولا تقل علاقة علية بالعارضة البريطانية نعومي كامبل أهمية عن علاقته بتينا ترنر، فقد كانت ملهمته وصديقته المقربة، وارتدت العديد من تصاميمه في مناسبات مختلفة، وكانت حاضرة في مراسم دفنه في ضاحية تونس العاصمة سيدي بوسعيد.

وكانت زوجة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من أكثر المعجبات بتصاميم علية، إذ ظهرت أكثر من مرة وهي ترتدي زيا من تصاميمه أثناء حضورها قمة حلف الناتو مع زوجها في بادن بادن بألمانيا، كما ارتدت زيا آخر في حفل افتتاح المهرجان الليلي الذي أقيم على مسرح الباليه في نيويورك.

وتعاون علية مع المغنية العالمية مادونا التي ظهرت بزي من تصميمه في كليب “باد غيرل” عام 1993. وظهرت ليدي غاغا بالعديد من تصاميمه المميزة في إطلالاتها المختلفة. وتعاونت معه الفنانة اللبنانية نانسي عجرم في فستان تسلمت به جائزة “وورد ميوزك أورد” 2014 في موناكو.

ومن بين القائمة الطويلة جدا سنكتفي بذكر ريهانا وبينلوبي كروز وديان كروغر وبليندا إفانغيلستا وغرايس جونس وصوفيا كوبولا.

12