الناقدة المسرحية المغربية نوال بنبراهيم: طبقات العمل الفني غير متجانسة

كثيرا ما نتساءل كيف يتشكل العمل الفني؟ نحن مقتنعون ربما بأنه بناء محكم، لكن ممَّ يبنى العمل الفني أيا كان نوعه؟ وكيف يبنى؟ ومن أي عناصر؟ أسئلة تبحث فيها الناقدة والأكاديمية المغربية نوال بنبراهيم بدقة مستكشفة أغوار الأعمال الفنية وعناصرها.
ترى الناقدة المغربية وأستاذة التعليم العالي بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي نوال بنبراهيم أن الإنتاج الفني ينطوي على بناء طبقي محكم يتكون من خمسة عويلمات غير متجانسة، لكنها منسجمة في ما بينها تكون وحدة عضوية متماسكة.
وفي رأيها فإن هذه العويلمات تشكل ماهية العمل الفني وهي: عويلم الكامن، وعويلم الباطن، وعويلم الاحتمال، وعويلم المغيب، ثم عويلم الافتراض. ونعرف أن كل عويلم يتألف من عناصر جوهرية خاصة تخالف مثيلاتها في العويلم الآخر سواء من حيث الطبيعة أو التكوين أو الوظيفة داخل الأثر الفني. ومع ذلك، تكون هذه العويلمات متراصة ترتبط فيما بينها بشكل تسلسلي، حيث يؤدي كل واحد إلى الآخر أو بتعبير آخر يكون العويلم السابق أساسا للعويلم التالي.
عويلمات الفن
في سياق مفهومي شمولي وواسع جعل الافتراض أساسا جوهريا لنشأة الإبداع. انطلقت في كتابيها الأول “جمالية الافتراض من أجل نظرية جديدة للإبداع المسرحي” لتدرس انبثاق آلية الافتراض في ذهن الإنسان، ومعالجة طبيعتيه السالبة والموجبة، ثم تناولت الجمال الذي يخلقه، وإبراز كيفية انتقاله من الذاتي إلى الموضوعي، حيث إنه لا يستبعد وعي المبدع والمتلقي للافتراض الجمالي، كما لا يستبعد وعي ماهية الجميل داخل الإبداع ذاته وطريقة حدوثه فيه.
أما في كتابها الثاني “في ثنايا النص.. مقاربة تحليلية للإبداع المسرحي” الصادر عن وزارة الثقافة المغربية، فإنها تتساءل لماذا نفتتح هذا الكتاب بدراسة الأثر الفني؟ وما غايتنا في ذلك؟ لنكشف بنية المؤلَّف، ونتعرف على مكوناته ومادته، ثم لنقف على الأماكن التي ينطلق منها الافتراض، غير أننا لن نتتبع تفصيلات مكونات كل عويلم بشكل دقيق.
تتوقف بنبراهيم عند العويلمات أو مجموعة العمل الفني موضحة، أولا عويلم الكائن (الجامع): إذا كان هذا العويلم يشكل الطبقة الأساسية في العمل الفني، فلأنه يتأسس على مستويين ضروريين هما: مستوى التجلي الذي يتكون من صياغات صوتية، ومستوى الفهم الذي يتكون من وحدات دلالية، ولأن عناصر هذين المستويين المحسوسة (المسموعة والمرئية والملموسة) توفر المادة الطبيعية لخلق الاتصال بين الذات المبدعة والذات المتلقية، ولتحقيق خطاب منفتح ينشغل بالدلالة الأولية، ويتعقب الوظيفة التمثيلية للغة.
ثانيا عويلم الباطن (الشاهدة) هو طبقة ثانية تمثل مستوى الموضوعات الموجودة داخل العمل الفني مثل: الأحداث والحكاية والشخصيات والمكان والزمان التي لا تتشابه مع موضوعات العالم الواقعي لأنها لا تملك وجودا واقعيا، بل تتهيكل في ذهن المفترض. وصفوة ما يقال في تفسير ما ذكرناه ثلاث حقائق: الأولى: أن عويلم الباطن يحتضن محتوى العمل الفني المباشر. الثانية: أن عويلم الباطن يسطر ملامح الموضوع على شكل بناء متداخل، ويقدم طريقة عينية خيالية للنظر إلى الأشياء. الثالثة: أن عويلم الباطن يحتضن مساحة افتراضية مراقبة من قبل المؤلف يتوجه المفترض إليها بتوجيه صيغتي قدرة الفعل وقدرة الوجود النصيتين.
ثالثا عويلم الاحتمال (الأسرار) يهتم ببدائل النص التي تعود إلى نسبيات السياق والمرجع والمكون البلاغي، وتشكل محتواه غير المباشر. لكن يجب ألا ننسى أن عويلم الاحتمال لا يتجاوز نشاط المؤلف القصدي الذي يحكم احتمالات جمل النص. رابعا عويلم المغيب (العالم): تقوم العويلمات سالفة الذكر على تخطيط عويلم المغيب الذي لا يكون معروضا بشكل مباشر أوسطحي، وإنما بطريقة مضمرة وبواسطة مجموعة من الأدوات هي: البؤرة، والعقلنة والحجاج والبرنامج النصي، والسنن، والأساس المعرفي، ثم الخطاب، وبعبارة أخرى إنه يحدد هوية العمل الفني الروائية أو المسرحية أو الشعرية. ومن ثم يمكن القول إن الأجناس الأدبية والفنية المختلفة ليست إلا تنظيمات خاصة لمظاهره التخطيطية العقلية.
وتؤكد أنه يحق لمن يتبع تقسيم هذه العويلمات، ولمن يبحث في مكوناتها أن يسأل: ألا يطرح الانتقال من عويلم إلى آخر مشكلا؟ بتاتا، لأن كل عويلم يقود إلى الآخر بشكل تسلسلي حيث تجمعها علاقتا المثول والاستلزام.
وتنبه بنبراهيم إلى أن العقل البشري جهاز يستطيع أن يقوم بأنشطة غير محدودة مبدئيا، إنه مزود بخزان من إجراءات الافتراض التي تشكل جزءا من النظام الإبداعي المتوفر في الدماغ البشري الذي يستطيع أن يبدع الأفكار والتراكيب، وأن يفترض المقبول واللا مقبول.
إن الجمل غير المقبولة لا تعود في الواقع إلى النحو الذي لم يستطع أن يدرسها باصطلاحات نحوية، وإنما تتصل بمحدودية الإنسان مرحليا في استحضار إجراءات الافتراض والتحليل اللازمة من جهازه العقلي وتستصيغ الجمل اللامقبولة بقواعد نحوية ودلالات اصطلاحية تجعلها مقبولة، وتخلق أوضاعا تواصلية جديدة. وعليه، يمكن القول إن الافتراض ملكة باطنية تلازم اللسان والكلام، لأنه فعل جماعي وفردي يتعلق بالقدرة والإنجاز معا، بل إنه الآلية التي تربط القدرة بالإنجاز.
وتقول “هناك صلة وثيقة بين مفهوم الباطن وافتراض الباطن لأن ما يقع ظهوره سلبا هو من تقاسيم المفهوم، ولأن الافتراض يخص المفهوم بافتراض مناسب ينفث الحياة فيه ويجعله متجليا. وقد يكون تخصيص الافترض مشابها للواقع لأن الكثير من القراء يستمسكون بافتراضات تنهل من صور الواقع، أو تكون مطابقة صوريا لها، وقد يكون مخالفا حيث ينحت مسالك منفردة تخرج عن مجرى صور الواقع.
وتلفت بنبراهيم إلى أن الافتراض يتجلى سلبا وإيجابا، وهذا يعني أننا أمام نوعين من الافتراض يمضيان في طريقين مختلفين: فأحدهما، السالب ينحصر في عويلمي الباطن والاحتمال يفترض منظورات سالبة تجوب فضاء المؤلف ونماذج الشخصيات بهيئاتها ولباسها وسلوكها. والآخر، الموجب، يعود إلى العرض المسرحي، يحيل إلى عوالم المؤلف وصانعي العرض، ويكون وسيلة لرؤية عالم درامي فوق الخشبة في زمن حاضر. وتختلف طرق إنجازهما، حيث يرفض الافتراض السالب الانحباس في خشبة أو شاشة ضيقة تفحص مخزونه الكامن، ويفضل التطور الذاتي مراعيا عالم المؤلف.
ويظهر الافتراض الموجب على شاشة أو مسافة ضيقة تعيد تنظيم الفضاء والزمان المفترضين سلبا ليتأقلما مع فضاء العرض المرئي، ويقيم انفتاحات ممكنة ترفع إنتاجية المؤلف. على أي حال، يتضح أن النص العمل الفني لا يكون محددا إلا بنشاط الافتراض السالب الذي لا يوجد كإنتاج ملموس إلا بنشاط الافتراض الموجب الذي يلعب دور الوساطة بين المرئيين السلبي والموجب، الماضي والحاضر لينقل غايات تعبير الوسائل الركحية المختلفة فوق الخشبة.
قيمة المعنى
توضح أن عويلم الاحتمال طبقة ثالثة داخل العمل الفني تكون محتملة مطلوبة من قبل الأثر الفني، وممكنة مفترضة من قبل المتلقي المفترض. لذلك ينقسم الوجود الاحتمالي إلى واجب لأن له اعتبارا وجوديا نصيا خفيا، وممكن لأن له اعتبارا وجوديا عقليا في ذهن المتلقي المفترض. وينقسم المحتمل إلى محتمل لذاته لأنه جوهر يوجد في العمل الفني، ومحتمل لا بذاته لأنه محتمل بغيره (المؤلف والمفترض) وليس بذاته.
والمكون البلاغي في رأيها يحتوي على معنى احتمالي يتطور داخل مساحته وينتظم في ثلاثة مستويات: المعنى، والتداول، والصورة محترما مخطط النص القصدي، ومحددا مستوى الافتراض المطلوب لإنجاز محتمله البلاغي. وأنه إذا كانت احتمالات الجمل أكيدة في الأثر الفني، فإن قيمتها تنقسم إلى محتملة قليلا، ومحتملة كفاية، ومحتملة جدا، ثم محتملة إلى أبعد حد. أما إذا كانت احتمالات الجمل – خاصة المفتوحة منها – غير أكيدة، فإن قيمتها الاحتمالية تكون غير أكيدة كذلك، لهذا يفترض المتلقي احتمالات أخرى تبقى ممكنة أو غير ممكنة.
◙ إذا كان هذا العويلم يشكل الطبقة الأساسية في العمل الفني، فلأنه يتأسس على مستويين ضروريين هما: مستوى التجلي ومستوى الفهم
وتتابع بنبراهيم أن عويلم المغيب طبقة رابعة في العمل الفني تشمل المغيبين المكنون والمصون. أما الأول، فيضم أربعة عناصر: البؤرة التي تنتج مجموع العمل الفني وتوقظ افتراضات المؤلف، فيبتكر حياة جديدة برؤاها وأشكالها ومفاهيمها. وتنقسم إلى نوعين: بؤرة جديدة تأتي بفكرة جديدة يجهلها المتلقي، وتخضع لشروط محددة وروابط موقعية وافتراضية، وبؤرة المقابلة التي تحمل فكرة يعلمها المتلقي اكتسبها من قراءاته أو حياته اليومية، وتخضع لقيود تضبط إسنادها، وقيود تضبط موقعها. العنصر الثاني العقلنة: وهي نظام معماري ينظم العمل الفني في إطار تطبيقي وإجرائي. وتنقسم إلى عقلنة بالقياس، وعقلنة بالتمثيل، وعقلنة بالاستقراء، وعقلنة بالتماسك، وعقلنة بالقوة، وعقلنة بالمماثلة، وعقلنة بالتعدد، وعقلنة بالتدرج، ثم عقلنة بالتحول. أما العنصر الثالث وهو البرنامج النصي، فتعمل العقلنة على تنظيمه داخل العمل الفني، وينجز من قبل ذوات تواصل أو ذوات تمثيل أو بنية فاعلة، ويحكمه عقد ومسار حكائي وبنية سجالية. ومما هو جدير بالذكر هو وجود عدة برامج داخل العمل الفني: الظاهر والضمني، والبسيط والمركب، والتداولي والخطابي تعكف على استكشاف الحكاية.
وأما العنصر الرابع، فهو الحجاج الذي يوجد في العمل الفني على المستويين اللغوي والمنطقي، ويتفرع إلى عدة أنواع تسعى إلى إقناع المتلقي ببناء المؤلف الحجاجي وخطابه، ويستند اشتغاله على تراكيب الحجة والنتيجة هي: المعلل والمعَلل والمتقبل والمنفذ، وعلى أساليبب حجاجية كالعرض والبرهنة والقول والإثبات والنفي والبحث والاستدلال والإقناع والسؤال والجواب والتأكيد والعرض والمعارضة والرد والنقض والصراع والمساجلة والنقاش والحوار والمجادلة والتساؤل.
وتخلص بنبراهيم إلى أن ربيرتوار العمل الفني الذي ينهل من نظم العصر يشمل الدلالية والتقاليد والمعايير الجغرافية والتاريخية وقراءات الإنسان السابقة، وهو سياق افتراضي يوجهنا إليه نظام العقلنة عن طريق تلميحات تحيلنا على وضع الدلالة في الأصناف المقصودة. ثم يشمل خطاب العمل الفني الذي يأخذ بعين الاعتبار ظروف إنتاج العناصر اللسانية: المتحدثين والزمان والمكان وعلاقتهم بالعناصر خارج اللسانية. وبناء على ذلك يختار المؤلف خطابا أو خطابات ينثرها داخل عمله تحفظ قيمة المعنى وحمولته الزائدة بكل درجاتها، وتمكن المتلقي من معالجتها بطريقة نظامية انطلاقا من بنية النص التركيبية والدلالية والتداولية والافتراضية. ويفتحها على مسافات سياسية وخيالية ونفسية وأخلاقية واجتماعية وأيديولوجية.