ألكسندر ريستوفيتش.. شاعر صربي يفتح قصائده للمظلومين والطبيعة والتاريخ

قصائد بلورية تجسد تجربة ملهمة للشعراء أينما كانوا.
الأربعاء 2023/04/19
شخص وحيد في مسرح صامت ومتنقل

ذات الشاعر ليست ذاته ولا الزمن الذي يكتبه زمنه الخاص، إن ذوات الشعراء الحقيقيين ذوات مصهورة لكل البشر المتألمين والمسفوك وجودهم في رحى التراجيديات، بينما زمنه أزمان من الماضي والحاضر والمستقبل تتجاوز حدود حياته الضيقة إلى اتساع تجربة الإنسان الوجودية، هكذا كان الشاعر الصربي ألكسندر ريستوفيتش.

يعد الشاعر ألكسندر ريستوفيتش (1933 – 1994) واحدا من كبار الشعراء الصرب، فهو من أوائل الشعراء المجددين في الشعر الصربي، والسلافي كذلك، وقد أثر في أجيال شعرية عديدة، بعد تخرجه من الجامعة ونيله شهادة عليا في الآداب، عمل مدرسا في مدينته كاكيك، وخلال تلك السنوات كتب الشاعر العديد من المقالات والدراسات والأبحاث الأدبية وأنتج العديد من الدواوين الشعرية في تلك المرحلة الغنية من عمره الذي يعد قصيرا نسبيا قياسا إلى العمر في هذه الأزمنة.

أما السنوات الأخيرة من حياته فكانت من نصيب دار نشر للأطفال، عمل فيها محررا ومشرفا على نشر كتب مختصة بأدب الطفل اليوغسلافي حينذاك. وفي ظل هذا النشاط المتزايد، وانتشار شعره على نطاق واسع، نال الشاعر جوائز تقديرية وتكريمية ومادية عديدة، ونال جوائز رفيعة أخرى، تمنح لقلائل من الكتاب في عموم صربيا، وللسان الناطق بالسلافية.

ضد البراءة

المترجم هاشم شفيق اختار وترجم وقدم لمجموعة من القصائد الكاشفة عن ثراء تجربة ريستوفيتش الذي أصدر خلال حياته سبعة عشر عملا شعريا، حملت عنوانا “قلب كعكة الزنجبيل” والتي صدرت عن مؤسسة أروقة للنشر. القصائد/المختارات التي تترجم للمرة الأولى إلى العربية تتخذ مناحي فنية مختلفة، وزوايا تناول جوهرية وتعبيرية وجمالية متنوعة ومتباينة.

يقول شفيق إن تجربة ريستوفيتش كانت ملهمة ومؤثرة في الكثير من الشعراء الناطقين بالسلافية، وتقع ضمن منظومة الشعر الأوروبي المنطوي على أساليب وتشكيلات ومدارس شعرية مختلفة، متطورة وحديثة، وتعكس اتجاهات ومناهج وطرق الحداثة الشعرية، وتنوعها في جل المعمورة الأوروبية والعالمية. من هنا نلمس في شعر ريستوفيتش ذلك الاتساع، والشمولية، والتعددية الفنية، والتعددية الجمالية والصُّورية، والتحولات المعنوية في البنية الشعرية، لقصيدته، الغامضة والملغزة من جهة، والمتسمة أحيانا بالوضوح، وباللغة البلورية من جهة أخرى.

ريستوفيتش يكتب عن حياته الشخصية، ويخبر في قصائده عن أعماقه وروحه المثقلة بتاريخ طويل للحياة الصربية والإنسانية
ريستوفيتش يكتب عن حياته الشخصية، ويخبر في قصائده عن أعماقه وروحه المثقلة بتاريخ طويل للحياة الصربية والإنسانية

ويضيف أن ريستوفيتش يكتب عن حياته الشخصية، ويخبر في قصائده عن أعماقه وروحه المثقلة بتاريخ طويل للحياة الصربية والإنسانية، يكتب عن الريفيين، ويعرف معرفة الخبير بالعوالم النفسية، الروح الصربية، يعرف ناسه جيدا ويعرف تاريخه جيدا، وهو ملم بالحوادث الماضية، وبالخطوب والكوارث التي مرت بالشعب والشعوب والأقوام التي سكنت هذه الأرض السلافية.

يكتب الشاعر الماضي والبدايات الأولى للتكوين، كما يكتب عن عناصر الحياة اليومية، وعن الزمن الحالي الذي يمرّ به هو، وتمرّ به البشرية، فهو شبيه بالشاعر الأميركي روبرت فروست الذي كتب عن الطبيعة، وحياها وحيا ناسها وسكانها العائشين بين الأشجار والأوراق والغصون والأنهر والحقول والسماوات الزرقاء والبراري الواسعة، وهو يبدو في ذلك كله كعامل في مصهر، يصهر الأشكال والأساليب والرؤى، في مختبره العجيب الذي يدعو إلى التأمل والدهشة في هذا الصنيع الجمالي والخلق الإبداعي المتميز، من شاعر مخلص لفنه وعالمه الشعري، ومخلص للروح البشرية، من رجال ونساء وحيوانات وعناصر الحياة والطبيعة والكوكب الأرضي.

ويتابع شفيق أن الشاعر تشارلز سيميك، يصف ريستوفيتش أنه مثل شخص وحيد في مسرح صامت ومتنقل، يدور ويبحث عن شيء ما والضوء مسلط عليه، أو هو يبدو مثل ممثل من الأفلام الصامتة، يترك لنا مساحات من الصمت في حواره الداخلي، هذا فضلا عن وجود الكثير من صور العنف، والمعاناة، والمآسي التي تلم ببعض القصائد وتشحنها بالأفكار والتصورات والبنى الرؤيوية، فهو يجد في الضعف قوة، ولذلك تخللت قصائده البشاعة والجمال معا.

هو مثلا يختلف عن غيره، من عشرات الشعراء الذين مروا في القرن العشرين، وكانوا يؤمنون بالملاك والبراءة والعفاف، بينما هو رافق الشيطان وتأمله وعده شخصا منافسا للملاك، مثل أيّ شخص يعادي شخصا آخر، وحين عاشر الشاعر الجمال، سار أيضا مع البشاعة وصاحبها، وحين رأى الحمل ووزنه بعينيه، عاصر كذلك عالم الذئبنة المتخم بالعواء، ورافق تصوراته للمحيط والعالم.

براعة فنية

يلفت شفيق إلى ما قاله الناقد راسل أديسون عن الشاعر إذ كتب “إن المشاهد الساخرة والدعابة السوداء، في شعر ريستوفيتش، المرحة والجميلة، مستمدة من عالم تراجيدي، يشي بالمأساة والملهاة معا”. وبذا يكون كبار شعراء العالم، وأبرزهم أسيري التجارب الإنسانية، مضافا إليها وهذا الأهم تراجيديا تجاربهم الشخصية، محنهم اليومية، فالشاعر عموما تتضاعف لديه مرامي الحياة وأهدافها، فكل خطب ومأساة وجائحة، تنعكس مباشرة على الشاعر والفنان عموما، ولهذا نجد الشاعر يمزج الخاص بالعام، والذات بالموضوع، ويدمج ببراعته الفنية واللغوية والتعبيرية المراحل والأزمنة والأوقات، لكي ينتج زمنه الجمالي، متوجا بالإكليل البشري.

 كل ما يمر في الزمان والوجود سيظهر لدى الشاعر في صورة أخرى، صورة مغايرة، هي صورته المتمرئية في صورة الجميع، صورة التماهي مع الآخر، والذوبان في الغيْرية، في المقابل والمحاذي والقريب الذي هو مثلك، الذي سيكون في النهاية هو أنت، فهو لم يكن سوى الملامح الأخرى لا غير، ولكن الروح هي هي، والنفس هي هي، فالكائن البشري يسعى في كل مكان إلى التآخي، والتآدم مع الآدمي الآخر، أو الشبيه به، ذاك الذي يحمل القلب والدم والعين، فكل تجربة شخصية للآخر هي الشبه لتجربته الذاتية، بينما الاختلاف يكمن في المروي والسرد والمحكي، ولكن الطبيعة الآدمية هي هي لا تتغير، قد يتغير السلوك والمنحى والملمح، ولكن اللقاء سيغدو واحدا والخواتيم والبدايات تشمل الجميع، بدء المحط والبزوغ والولادة، وخاتمة الكائن، ثم تصالحه البشري مع التراب كمهد نهائي، ليكون الرمز الجماعي لا محيد عن ذلك.

f

 ومن هنا تأتي الأسطورة التي تخص الشاعر، في خلق عالمه، عالم الإنسان الواحد مع تجاربه ويومياته ومناسكه، عالم التشظيات المجموعة في الشاعر، الموسوعة الكائناتية التي تسكن الشاعر، الشاعر الخلاق المعطي والمانح على مر الأزمنة والتواريخ، وهنا الحياة ستكون الشاهد الأول للشاعر، ستكون عشيقة الشاعر، والفنان دائما ودون تردد.

ويؤكد شفيق أنه وفق هذا الأفق المرآوي يتجزأ الشاعر في المرايا، يرى ويخلق ويجترح التكاوين والتشكيلات والأنسقة، مثل هوميروس، ومثل شكسبير ومثل المتنبي ومثل ت. س. إليوت، ومثل ريتسوس ونيرودا ورامبو وغوتة وطاغور ودانتي وصولا إلى السياب، ومن ضمن كوكبة كبيرة ستمتد إلى بلدان وعواصم كثيرة، سنجد بين هذه الدفائن الضوئية، الكنزية، أسماء لشعراء قد نسمع بهم للمرة الأولى، ولكنهم شعراء كبار ومتميزون ونادرون واستثنائيون، من أمثال نينا كيسيان، وأدريان ميتشيل، ودانييل هوز، وروزيه فيتش، وتشارلز سيميك وشاعرنا الذي نقدمه لكم في هذه المختارات، الشاعر الصربي الكبير ألكسندر ريستوفيتش.

ويتابع أن قصائد ريستوفيتش تشي في أغلبها بالمصائر والمتاهات والحيرات الإنسانية، هذا ما يتأكد ولو ألقينا نظرة على بعضها كمثل هذه القصيدة التي فيها يقول “دانتون ينتظر الموت،/لكن اليوم لا يريد/أنْ ينتهي،/ فانيلته امتلأتْ بالقمل،/أما وجهه/فإنه يظهر دلائل/قدره الاستثنائي…/هو يراقبني من مسافته الفريدة،/ماشيا تحت الأشجار،/جامعا الأوراق الميتة”.

وللذي لا يعرف دانتون، أحد القادة البارزين للثورة الفرنسية، قائد دعا إلى الوسطية والاعتدال والمسامحة مع الحاشية الملكية والعهد القديم، لكن بعض قادة الثورة المتشددين، لم يرق لهم تفكير دانتون ورؤيته الجديدة، هذه الرؤية التي تحمل قدرا من السماحة والرأفة بالآخرين، ممن كانوا تحت هيمنة الجناح الملكي في فرنسا، لذا تم استجوابه ومحاكمته ومن ثم إعدامه على أفكاره وأفعاله التي رأى فيها الآخرون من الثوار، نوعا من التراضي والخنوع والخضوع لمن حكموا فرنسا طويلا، واستأثروا بالمال والسلطة والجاه، على حساب حياة الشعب الفرنسي ومعاناته.

شاعرنا في هذه القصيدة يستحضر دانتون القتيل، وهو في سجنه ينتظر لحظة إعدامه، ينتظر ساعة الرحيل، وهو القائد للثورة وللجمهورية الجديدة، ينتظر مصيره الذي لم يكن يتوقعه، فالشاعر يسلط عليه عينه وذاكرته ورؤاه الشاعرية، فيرى فانلته المليئة بالقمل، وحذاءه المبلل بالماء، ووجهه الذي يعكس قدره الاستثنائي، صورة الموت تلاحق الشاعر، فدانتون ثائر وشبيه بالشاعر، ثائر ضد الظلم وضد الطغيان والعسف، ولكنه يقع ضحية لثورته، ولأفكاره ورؤاه الفلسفية، تلك التي ترتدي طابعا إنسانيا، عادلا مع العدو الذي يرى عليه حين تبوأ السلطة أن يرأف بالعدو الأسير، عدالته جرته إلى الموت والمحق، في ثورة هائجة لم تستقر بعد، يقودها ثوار حالمون، يتصفون بالهياج والمثالية القاسية التي لا تتسامح وتغض الطرف، وتتناسى أو تتغافل قليلا عن لحظتها الدموية، المصحوبة بمقصلة الثائر الآخر مثله روبسبير، تلك المقصلة الدائرة على رؤوس الحاشية الملكية وأتباعها.

الشاعر يمزج الخاص بالعام، والذات بالموضوع، ويدمج ببراعته الفنية واللغوية المراحل والأزمنة والأوقات لينتج زمنه الجمالي

ويشير شفيق إلى تناول ريستوفيتش في قصيدة أخرى لشخصية شهيرة ومعروفة ومغدورة أخرى أيضا، ولكنه شاعر هذه المرة، إنه الشاعر الروسي سيرجي يسينين، الريفي الذي غنى الريف الروسي طويلا في شعره، وأصبح أيقونة بعد رحيله منتحرا، وغير راض عن تصرفات نظام شمولي، يكتم حرية الرأي والتعبير، كالنظام الشيوعي في عهد ستالين، الطاغية والمتجبر، والذي خان النظرية الماركسية والوصايا العادلة، وجنح باتجاه المزايا النازية والطبيعة الدموية، ولقد انتحر في عهده شعراء عديدون أبرزهم الشاعر الشهير مايكوفسكي.

يسعى ريستوفيتش، في هذه القصيدة المدروسة بعناية من ناحية التصوير، ودقة المعنى، والتأني الشاعري إلى رسم التفاصيل اليومية، لحياة شاعر راحل مثل يسينين كقوله “في غرفة ذات مصباح منضدي/وثريا تحفة،/جلس الشاعر سيرجي يسينين/يكتب الشعر”.

قدم الشاعر في استهلاله هذا، الذي يعد عتبة القصيدة مشهدا شعريا لحالة الشاعر، مصحوبا بفعل الحركة، إنها حركة الزمن الدائرية، تبدأ بفعل متحرك جلس، يسترسل في الجملة الفعلية المستمرة في حركتها الزمنية لـ “يكتب” بعدها ينتقل المشهد الصوري، إلى سيدة المنزل ليتلو عليها القصيدة، السيدة تبدو في اللقطة التصويرية ترتدي معطفا من حرير، ميزتها الجمالية الضحكة الكتيمة، مع التناغم الرغبوي المتناغم مع الجوارب الحمراء.

 في هذه الأثناء بالضبط تنتقل اللقطة التصويرية إلى الخارج، حيث الثلج يتساقط على شكل حبات متلألئة، ثم العودة إلى الداخل، لتتحرك الكاميرا التي هي عين الشاعر، باتجاه وجه يسينين الشبيه بوجه طفل، والمتورد بفعل شراب النبيذ، هنا تألق الشاعر ريستوفيتش في رسم التضاد بين الذات والموضوع، بين الداخل والخارج، في رسم المشهد الشاعري، الثلج الأبيض المتلألئ ووجه الشاعر الوردي، المتورد بسبب النبيذ الذي كان يشربه الشاعر، في لحظة اكتئاب وأثناء لحظة سقوط الثلج، وبما أن الشاعر ريستوفيتش ينحاز لشاعره الراحل قسرا، كبطله السابق دانتون، ولكن هذه المرة النهاية تكاد تكون واحدة، لبطلين من زمن ومكان مختلفين، حيث فعل الموت القسري، يحمل طابع القتل العمد والنهاية القسرية لكليهما.

نماذج من المختارات

بلا عنوان

زمن المجانين قد أتى،

زمن خيمة العرض،

زمن وجه المهرج المصحوب بلعنة الإله،

زمن ريشة الطاووس التي تتزحلق يمينا ويسارا،

مع ورق الزينة المعلق في الأعلى،

الزمن الذي لا تريد أنْ تغمس إصبعك الصغير في شيء ما،

مبتعدا عن الكلام البذيء،

زمن المجانين قد أتى، الزمن الذي تعرف فيه اللاشيء،

أيها البروفسور

لا تستطيع فتح

ذاك الكتاب الذي تخشخش

أوراقه حتى نهايته.

***

من الجلد والعظام

الكاهن والنادبون

اعتلوا التل،

بينما الميت

تمدد مبتسما

في تابوته،

ذي الخشب الأصفر،

الكاهن ذو الوجه الأحمر

كان يقرأ

من كتاب الصلاة الأسود،

في تلك الأثناء

الفتاة الشابة المتذمرة،

تلك التي كانت إلى جانبه انسلتْ،

لكن مصليها

أحضر لعينيها دموعا،

حتى خيل لها

أن يده

امتدتْ إلى نهديها،

الميت بدا مستندا

إلى كوعه،

وكان مطر الربيع

قد نال

من صدره،

ووجهه غدا

كمنْ كان ينصت

لما كان يقول الكاهن،

فيما بعد،

هز كتفيه

لامباليا،

واستلقى في الأسفل.

 

12