هاملت في سوق اللحوم والخضار

مازلت أعتقد أن من لا يجيد الطبخ لا يبدع في أي مجال آخر، حتى لو كان في جلي الطناجر والصحون.
ولأن الأشياء تُعرف بأضدادها، فإن شهر الصيام يأتي كي يذكّرنا بثقافة الطعام إعدادا وطبخا وسكبا وزينة وتذوقا لدى السلاطين والميسورين.
هؤلاء الناس حاوروا أطباق الأكل بحواسهم الأربع، وتنبهوا إلى أن المسامع ظلت شاغرة إلا من أصوات الملاعق بين الأسنان وفوق الصحون، فاستهجنوا ذلك وعوضوه بالطرب والموسيقى المرافقة للموائد في القصور.
منذ القديم، أدرك الملوك والأمراء سحر المطابخ فاقتطعوا وقتا من هيبة جلوسهم على العرش، عوضوا التاج بطربوش الطاهي، الصولجان بملعقة التحريك، ووقفوا عند المواقد يقطعون ويفرمون ويخلطون ويحركون، ويسافرون شرقا وغربا في صولات وجولات مع المذاقات والنكهات.
لم يتوانوا عن قطف الخضراوات والفواكه والمنكهات في البساتين بأنفسهم، دون الاستعانة بالخدم الذين اكتفوا بالمرافقة وتقديم الخدمات الجانبية، تماما كما يفعلون في رحلات الصيد: يصيبون الطريدة ثم يمنحونها لمرافقيهم وقد اغتنوا بمتعة القنص.
كذلك كان يفعل أمراء الأندلس في قرطبة، ينامون على معدة خفيفة، لكنها مدللة بطيب الطعام ثم يمنحون الباقي إلى الخدم كي يأخذوها إلى بيوتهم حيث كانوا يخلطونها ويصنعون منها طبقا بات شهيرا اليوم في إسبانيا ويُعرف بـ”البائية” أي الباقية، وما أدراك ما الباقية.
نعم، هكذا كانت ولا تزال الحاجة أم الاختراع لدى أولئك الخدم الذين يعود لهم الفضل في ابتداع طبق تفاخر به إسبانيا اليوم، ويقدم على موائد السياح الأغنياء، وكأنما فضلات طعامهم قد عادت إليهم بصورة أشهى.. فلمن يعود الفضل يا ترى؟
يعود الفضل إلى أولئك الذين “جاد بهم الغيث أيام الوصل في الأندلس”، ومن بينهم زرياب، العراقي الذي هاجر أوائل القرن التاسع من الموصل إلى الأندلس، وهاجرت معه موسيقاه وعذوبة صوته وأناقته وحسن معشره، وشغفه بالطبخ والملابس والإيتيكيت.
هذا الشحرور المهاجر سافر هربا من تهديدات أستاذه الغيور أبي إسحق الموصلي، وأهدى الكثير إلى الأندلس، إذ أعطى إلى العود وترا خامسا، وإلى المطبخ نكهة أخاذة، وإلى المجالس زهوا وطربا، حتى صار من منادمي الأمراء وعلية القوم بل وعلّم أمراء أهل قرطبة في كتبه كيف يتأنقون ويأكلون ويشربون من أباريق الزجاج الشفاف بدل أواني الذهب والفضة المنفّرة.
الوله بفنون الطبخ والموسيقى جعل الأخ غير الشقيق لهارون الرشيد، إبراهيم بن المهدي، يزهد في الخلافة، ويتوه في عالم النغمات والنكهات والأطباق، ويؤلف فيها كتبا.. وينبغي التذكير بأنه كان صديق زرياب قبل خروجه من العراق، وشريكه في كل هذا الشغف، وحتى في لون البشرة، إذ كان يلقب بـ”التنين الأسود”.
دعوا الطبخ يشعرنا بإنسانيتنا لأن الحيوان لا يطبخ، ولكن ماذا نطبخ؟ هذا هو السؤال يا هاملت المتردد في أسواق اللحوم والخضار.