الفعل الإبداعي في أزمنة الحرية.. دعونا نتفرج دعونا نحكم

الرقابة على المصنفات الأدبية والفكرية في تونس بات حضورها خفيفا وفي حدود بعض الأساسيات المتعلقة بأمن الدولة وعدم التشهير بالشخصيات كما هو الحال في الديمقراطيات العريقة.
الجمعة 2023/03/31
ربيع تونس الثقافي بدأ قبل "ربيعها السياسي"

بات من الواضح أن الفعل الإبداعي في أزمنة الحرية، وفي غياب الرقيب، أكثر ندرة وأقل لمعانا وتألقا من مرحلة المشي في حقول الألغام ومخاتلة السلطات الأمنية والسياسية والدينية.

هذا ما نشهده على الأقل، في بلد مثل تونس، وإن لم تكن ـ وللأمانة ـ على تلك الحالة من القمع الرهيب لحريات التعبير في المجالات الأدبية والفنية زمني بورقيبة وبن علي، من بعده.

نعم، لقد بدأ ربيع تونس الثقافي قبل “ربيعها السياسي”.. هذه المفردة الأخيرة التي تصر الأغلبية على وضعها بين معقّفين أو هلالين أو ظفرين كما يقول التونسيون.. المهم أن الجميع يتفق على أن الحركة الفنية والإبداعية لم تكن على تلك الصورة المرعبة من التشدد الرقابي.

ومهما يكن من أمر، فإن الرقابة على المصنفات الأدبية والفكرية في تونس بات حضورها خفيفا، وفي حدود بعض الأساسيات المتعلقة بأمن الدولة وعدم التشهير بالشخصيات، كما هو الحال في الديمقراطيات العريقة.

◙ الذي اعتاد الخفة والمهارة والإبهار وهو يمشي في حقل ألغام، سوف يكون أكثر إبهارا وإدهاشا إن مُنح الفضاء كله دون حواجز وقيود

أما في الأسابيع والأيام الأخيرة، فقد بدأ الحديث في تونس عن نوع من التضييق على الحريات، لا على المستوى السياسي الذي اقترن بحراك وتحركات معارضة للحكومة والرئيس ـ وهو مجال يتشعب ويختلط باختلاط المستجدات الداخلية والخارجية ـ وإنما على المستوى الثقافي والإبداعي.

هذا التضييق ـ إن كان قد حصل فعلا ـ فإنه يُخشى أن تتحالف فيه رقابتا سلطتين: الأولى سياسية حكومية، والثانية شعبية اجتماعية.. وهو أمر في غاية الخطورة، وينذر بنسف ما حققته تونس من إنجازات وانتعاشات ثقافية وفنية.

ليس أصعب على المبدع عبر التاريخ، من أن يتحالف ضده الرقيب السياسي مع الرقيب الاجتماعي، وتحل عندئذ الكارثة، يُحكم على الحركة الثقافية بالجفاف والإعدام، وتستحيل أرض البلاد إلى يباب.

إن كان المرء في هذا الشأن قد بادر بالتوجس والمبالغة في قرع جرس الإنذار من تهديد الحريات الثقافية، فذلك على سبيل الحرص والاستباق لأن البلاد التي استجابت فيها السلطات السياسية لأصوات الرقابة الاجتماعية والدينية مغازلة أو مجاملة أو طلبا للشعبوية، كانت قد حكمت على نفسها بالجمود والتقهقر.

وفي هذا الإطار، وبالعودة إلى تونس التي يفخر بها العرب كنموذج ناجح وواعد على صعيد الحريات، فإن ما أثير وقيل مؤخرا حول تدخل جهات حكومية لصالح ادعاء جهات اجتماعية فيما يخص عمل درامي يعرض على قناة تلفزيونية خاصة، لهو أمر يشكل سابقة خطيرة ويهدد الحريات الإبداعية إن حصل فعلا.

الحكاية تتعلق بمسلسل تونسي يحمل عنوان “الفلوجة” ويناقش الحياة المدرسية وما قد يسودها من عنف واستهلاك وترويج للمخدرات وقضايا أخرى في مشاهد وصفها الكثير بالصادمة، فيما رآها آخرون بأنها انعكاس لما يحدث فعلا، وينبغي عرضها لأخذ العبرة والمسارعة لمعالجة الأزمة.. وهذه مهمة الدراما.

◙ في تونس بدأ الحديث عن نوع من التضييق على الحريات، لا على المستوى السياسي الذي اقترن بحراك وتحركات معارضة للحكومة والرئيس وإنما على المستوى الثقافي والإبداعي

ثارت ثائرة البعض من الحلقة الأولى لعرض المسلسل، ورأوا بأن العمل يروّج للانحطاط الأخلاقي والبذاءة ويضرب مؤسسة المدرسة التونسية ونادوا بإيقاف بثه.

وكان وزير التربية التونسي محمد علي البوغديري قد قال في مقابلة إذاعية إنه أجرى اتصالات حول المسلسل المذكور مع رئيسة الحكومة وأن الوزارة ستتخذ كل الإجراءات اللازمة لمنع بث المسلسل واصفًا إياه بـ”السيء والمتدني والمنافي للأخلاق والمبادئ والقيم ولا يعكس ما تقوم به الأسرة التربوية من عمل جاد”.

وبالمقابل، اعتبر عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري “الهايكا”، هشام السنوسي، بخصوص المطالب المنادية بإيقاف بث المسلسل أن في ذلك “تعسّفًا”، بغضّ النظر عمّا إذا كان المسلسل جيدًا أم سيئًا، مضيفا أنه من المستحيل اتخاذ قرار في مسلسل منذ الحلقة الأولى، وعقّب السنوسي أن “المسلسلات هي عبارة عن بناء درامي، وبالتالي لا للتسرع”.

ومن المراقبين من يقول إنه إذا انزلقت الحكومة التونسية لمثل هذه الزوابع التي تثيرها بعض الجهات في المجتمع وأوقفت بث المسلسل، فإنها سوف تكون سابقة من شأنها أن تهدّد الحريات الإبداعية وتحدّ منها، لا بل تشلّها وتكرّس ما يُعرف بالرقابة الذاتية التي فيها مقتل كل فعل إبداعي.

كل ما يتمناه أي منشغل بالحقل الفني والإبداعي في تونس وغيرها من البلدان العربية، أن تنأى الحكومات بنفسها عن مثل هذه القضايا، وتترك للقضاء وحده أن يقول كلمته، وبذلك تكون قد تنزّهت عن أن تقحم نفسها في النزاعات الكيدية.

وفي هذا الصدد، يمكن الحديث هنا عن شيء اسمه “رقابة الفكر والضمير”، ليس من باب الطوباوية والمثاليات، وإنما يمكن أن تتحقق مثل هذه الرقابة لمن أخلص للإبداع وحده بعيدا عن المصالح والمحسوبيات.

ليس أخطر على الديمقراطيات الناشئة من مثل هذه التجاذبات التي يزايد فيها كل طرف على الآخر، ويحاول أن يزج بالدولة للاستقواء على الخصم متذرعا بمقولة فضفاضة ومطاطة اسمها “الحفاظ على قيم المجتمع”.

◙ الرقابة على المصنفات الأدبية والفكرية في تونس بات حضورها خفيفا، وفي حدود بعض الأساسيات المتعلقة بأمن الدولة وعدم التشهير بالشخصيات

ومنذ محاكمة “غاليلي” إلى يومنا هذا، ومظلة التحجج بالدفاع عن القيم الأخلاقية والاجتماعية، هي السبب في قتل الإبداع والمبدعين.

أما عن مسألة “جفاف المواهب في أزمنة الحرية” فليست في حقيقة الأمر سوى عملية تصفية وفلترة للحقيقي من المزيف، فالذي يجد في طرق المحظور الاجتماعي والأخلاقي والسياسي بوابة يدخل منها إلى عالم الشهرة سوف تخف موازينه، وينفضّ المعجبون من حوله إن دخل سباقا حرا ونزيها.

بالمقابل فإن الذي اعتاد الخفة والمهارة والإبهار وهو يمشي في حقل ألغام، سوف يكون أكثر إبهارا وإدهاشا إن مُنح الفضاء كله دون حواجز وقيود، وقديما قالت العرب “الغزّالة تغزل ولو على ذيل الكلب”.

الذين ينادون بالعودة إلى الرقيب ويستقوون على صناع الفن بسلطة الحكومة تحت ذرائع واهية ووسط وصاية على المجتمع هم واهمون لأن المجتمع في تونس أصبح يتقن الاختلاف ويفرّق بين المبدع الحقيقي والمشعوذ والاستعراضي والمثير للغبار.. دعونا نتفرج، دعونا نكمل الحلقات، ودعونا نحكم فلسنا قاصرين ولا فاقدي الأهلية.

8