مساعدات الأحزاب للبسطاء المصريين تضامن تحركه المصالح السياسية

تحزب المعونات يكرس بقاء الفقر وتواكل الحكومة والمتاجرة بمعاناة المهمشين.
الخميس 2023/03/30
المساعدات ترضي البسطاء لكنها لا تحل مشاكلهم

يؤكد خبراء علم الاجتماع أن تحزب المساعدات يكرس بقاء الفقر وتواكل الحكومة والمتاجرة بمعاناة البسطاء والمهمشين، رغم بحثهم عنها وتلهفهم للحصول عليها، مشيرين إلى أن ذلك حتى لو كان يحدث بحسن نية ويهدف إلى تخفيف الأعباء، فلا يجب أن يكون محور عمل الأحزاب. وقد لجأت الكثير من الأحزاب السياسية القريبة من السلطة إلى المساهمة في رفع المعاناة عن الفئات البسيطة بغاية ترميم شعبيتها المتآكلة.

القاهرة- اعتاد أحمد صفوت، وهو أب مصري لأربعة أبناء، مراقبة منافذ وعربات بيع السلع التي توفرها بعض الأحزاب السياسية في شوارع وميادين القاهرة للحصول على احتياجاته الأساسية بأسعار معقولة أمام ارتفاع معدلات الغلاء إلى مستويات قياسية، ومحدودية منافذ “أهلا رمضان” التابعة لوزارة التموين، واقتراب أسعار السلع فيها من نظيرتها في المتاجر العامة.

ظروف معيشية صعبة

يعيش صفوت في حي الحلمية الشعبي بالقاهرة، وصارت أغلب احتياجاته يتحصل عليها من المنافذ التي أتاحتها بعض الأحزاب للجمهور في الميادين القريبة من مقر سكنه، حيث يتم التركيز على المناطق الشعبية التي يعاني سكانها ظروفا معيشية صعبة، إضافة إلى كون هذه الفئة من الناس الأكثر تضررا من الإجراءات الاقتصادية القاسية التي اتخذتها الحكومة.

سعيد صادق: تحزب المساعدات سيناريو مكرر لما كانت تفعله جماعة الإخوان
سعيد صادق: تحزب المساعدات سيناريو مكرر لما كانت تفعله جماعة الإخوان

لا ينشغل الأب بتبعية عربة السلع لحزب سياسي قريب من الحكومة، أم أنها تخص أحد رجال الأعمال المتناغمين مع السلطة، المهم أن يشتري منها بأقل الأسعار، وما يؤمن غذاء أسرته البسيطة، في ظل ندرة المخصصات التموينية التي أصبح يحصل عليها من الحكومة، حتى باتت المساعدات الحزبية تمثل له جزءا أساسيا من احتياجاته الأساسية.

ولجأت الكثير من الأحزاب السياسية القريبة من السلطة إلى المساهمة في رفع المعاناة عن الفئات البسيطة والمهمشة كدور مجتمعي، بما يرمم شعبيتها المتآكلة في الشارع، ويعود بالنفع أيضا على صورة الحكومة التي تهاوت جراء إخفاقها في رفع المعاناة عن الناس، وفشل برامج الحماية الاجتماعية في تحصين الفقراء من تداعيات الأزمة الاقتصادية الحادة.

وتثار الشكوك حول انغماس الأحزاب المصرية في العمل المجتمعي، ويواجه هذا التحرك بانتقادات كثيرة، لكنها تمضي في طريقها دون اكتراث بما يحاك ضدها من اتهامات بأنها تنافق السلطة، أو تسعى للمزيد من التقارب مع الحكومة من أجل حسابات سياسية ضيقة، وترغب في ترميم شعبيتها مستغلة الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الناس.

وأصبحت هناك نشرات صحافية شبه يومية تصدر عن بعض الأحزاب، مثل “مستقبل وطن”، “الجيل”، “الشعب الجمهوري”، “حماة وطن”، “المصريين”، وتشير إلى جهودها في توزيع السلع المختلفة وتقديم الخدمات للمواطنين، وتتحدث عن أماكن تجمعات العربات والمنافذ التابعة لها، وتتوافر فيها كميات كبيرة من السلع، وكيفية الوصول إليها، والشراء منها.

ويعيش قرابة نصف المصريين تحت خط الفقر، وهؤلاء يمثلون قاعدة شعبية هامة للأحزاب، لذلك ضاعفت جهودها لاحتواء غضب هذه الطبقة، ومحاولة استمالتها من خلال العمل التطوعي والأهلي على أمل الحصول على دعمهم في أي استحقاق انتخابي مستقبلا، مثل انتخابات المحليات أو مجلسي النواب والشيوخ.

يتابع صفوت الدور المجتمعي للأحزاب عن كثب، كحال الكثير من البسطاء القاطنين في نفس المنطقة الشعبية. ويقول لـ”العرب” إن الناس لا ينشغلون بالسياسة، ولا يعنيهم أي شيء مرتبط بها، ولا يهتمون بما يقف وراء المساعدات الحزبية، وما يشغلهم فقط دفع أقل قيمة مالية عند الشراء، وإذا كانت الأحزاب تتاجر بالفقراء، فلا مشكلة، فالحكومة نفسها تتلاعب بهم.

◙ قرابة نصف المصريين يعيشون تحت خط الفقر، وهؤلاء يمثلون قاعدة شعبية هامة للأحزاب، التي سعت لاحتوائهم

لا يعرف أغلب البسطاء هوية الأحزاب المشاركة في تقديم المساعدات، لكن “مستقبل وطن”، الظهير السياسي شبه الرسمي للحكومة، يظل الحزب المحفور في ذاكرتهم من كثرة أنشطته وحملاته الخدمية ومنشوراته التي تملأ الشوارع، وعليها صورة الرئيس عبدالفتاح السيسي، لكن هناك أحزابا أخرى لا يعرفون اسمها ولا مقراتها. “كل هذا في آخر اهتمامات الناس، فالسياسة لا تعنيهم”.

وتعتمد الأحزاب على زيادة تواجدها في الشارع عبر العمل الأهلي لتعويض ضعف تأثيرها السياسي، وهو تحرك يلقى قبولا لدى الحكومة التي تسعى لمحاصرة الأزمة الاقتصادية بمشاركة مجتمعية آمنة عبر مجموعة أحزاب تابعة لها أو قريبة منها، بعيدا عن منظمات المجتمع المدني المتهمة بأنها تقوم بأدوار خفية وتلعب لحساب مصالح سياسية مشكوك فيها.

وتختلف مساعدات الأحزاب للبسطاء، حسب طبيعة المنطقة، فيما يوحي المشهد بأن هناك توزيعا للأدوار، ففي المناطق الريفية تزيد القوافل الطبية التي يرعاها وينظمها حزب بعينه، مع إمكانية التكفل بدفع مصروفات المدارس لطلاب قرى كاملة، ولا مانع من تسيير عربات لسلع غذائية لا غنى عنها، ولا يتاح تقديمها عبر بطاقات التموين المدعومة.

وفي المناطق الشعبية الواقعة على أطراف المدن أو الواقعة في المحافظات الحدودية وصعيد مصر يكون الاهتمام ببيع السلع الضرورية التي لا يقدر البسطاء على شرائها، مع إمكانية توزيع مساعدات أخرى في صورة ملابس ومفروشات منزلية وتجهيزات لعرائس، المهم أن النشاط الحزبي يجلب نتائج إيجابية على مستوى زيادة الجماهيرية.

وكانت الواقعة الغريبة من نوعها والمثيرة للجدل مؤخرا مرتبطة بقيام حزب “حماة وطن”، المؤيد للحكومة باستيراد أطنان اللحوم من دولة تشاد وطرحها في منافذ بيع مخصصة للحزب تنتشر في محافظات مختلفة بأسعار مخفضة، وهي خطوة أثنت عليها وزارة التموين والتجارة الداخلية، وأعربت عن تكرارها من أحزاب أخرى.

أدوار متداخلة

◙ الكثير من الأحزاب السياسية لجأت إلى المساهمة في رفع المعاناة عن الفئات المهمشة كدور مجتمعي بما يرمم شعبيتها المتآكلة
الكثير من الأحزاب السياسية لجأت إلى المساهمة في رفع المعاناة عن الفئات المهمشة كدور مجتمعي بما يرمم شعبيتها المتآكلة

ويعتقد مراقبون للمشهد الاقتصادي أن تداخل الأحزاب مع الشارع والقيام بدور الحكومة في ملف الغذاء والمساعدات، أمر مطلوب، لكن المشكلة أن الكيانات الحزبية تتعاطى مع هذا النهج باعتبار أنه الدور الأساسي للسياسيين، مع أن الدور الأهم يكمن في تقديم الحلول القابلة للتطبيق، للخروج من الأزمة الراهنة.

ويشير هؤلاء إلى أن الاعتماد على الأحزاب في تهدئة غضب الشارع بتوفيرها مساعدات مادية وعينية وغذائية، سيجعل الحكومة تشعر بأن دورها مكمل لدور الأحزاب، لا العكس، ما يكرس بقاء الوضع الراهن دون حلول جذرية، وجعل كل حزب يتعامل مع قضية الفقر من منظور شعبوي، يستهدف منه تحقيق مصالحه، السياسية والانتخابية.

ورأى سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة، أن تحزب المساعدات يكرس بقاء الفقر وتواكل الحكومة والمتاجرة بمعاناة البسطاء، في سيناريو مكرر لما كانت تفعله جماعة الإخوان وقت وجودها في الحكم، وخلال فترة حكم حسني مبارك، وحتى لو كان ذلك يحدث بحسن نية ويهدف إلى تخفيف الأعباء، فلا يجب أن يكون هذا محور عمل الأحزاب.

لا يروق هذا الرأي للأم عبير حمدي، التي توفى زوجها قبل عامين وتعول أربعة أبناء. فهي تعتمد بنسبة كبيرة في توفير احتياجاتها على المساعدات التي تصل إليها بشكل شهري من أحد الأحزاب، كما أنها لا تمانع قطع بضعة كيلومترات أسبوعيا للوصول إلى منفذ لبيع السلع تابع لحزب آخر، ويقام كل يوم جمعة في ميدان يقع بالقرب من منطقتها السكنية.

تتذكر الأم في حديثها لـ”العرب”، وقت أن كان الإخوان والسلفيون والحزب الوطني المنحل يفعلون ذلك في سنوات مضت، ويبحثون عن مصالحهم في الانتخابات، لكن بالنسبة لها “كل هذا ليس مهما، ولا يعني الناس. ليس مهما من يعطي، ولا عن أي شيء يبحث. المهم أنه يعطي في وقت صعب، ولا يجد الناس بديلا عن قبول الهدية”.

يتمسك سعيد صادق برأيه في أن قيام الأحزاب بدور الحكومة أمر خاطئ، لأنها ستفاجأ بتيارات إسلامية تفعل ذلك دون أن تدري، وقد تعود إلى المشهد، لأنها تجيد اللعب على وتر الفقر واستقطاب المحتاجين، المهم إعادة ترميم الشعبية، وهي نفس أهداف بعض الأحزاب السياسية، وليس مقبولا أن تبارك الدولة لأي طرف، فرصة استمالة الشارع عبر المساعدات.

ومن النادر أن تختار عربات ومنافذ الأحزاب الخدمية مكانا حضريا لتقديم المساعدات فيه، لأنها تستهدف المهمشين الذين يمكن شراء ودهم بأشياء بسيطة، حتى لو كانت السلعة المقدمة إليهم أقل في السعر عن الأسواق الأخرى.

ويقود الحديث مع بعض البسطاء الذين يصطفون أمام منافذ السلع الغذائية التابعة لأيّ حزب إلى اكتشاف وعيهم السياسي والفكري، حتى لو كانوا غير منخرطين في السياسة ولا يعرفون شيئا عن دهاليزها، لكنهم يتمتعون بحنكة ملفتة للانتباه، إذ يفسر كل منهم أن المساعدات الحزبية تقف وراءها دوافع سياسية، إما من أجل الانتخابات أو لإظهار الولاء للحكومة، وهو الميراث الذي تركه الإسلاميون في أذهان الناس وقت أن كانوا يشترون ولاءهم في الانتخابات بالسلع الغذائية.

◙ الأحزاب تستغل عوز الأسر لتضمن بقاءها
الأحزاب تستغل عوز الأسر لتضمن بقاءها 

وإذا كانت الأحزاب تقدم المساعدات كمسؤولية اجتماعية واقعة عليها أو طمعا في التملق للسلطة ونفاقها، فهناك بسطاء أيضا يجيدون التملق لأجل الحصول على المزيد من تلك المساعدات. فإذا كانت الأحزاب تبحث عن شعبية، والفقير ينشد لقمة العيش زهيدة الثمن، والحكومة ترغب في تخفيف العبء عنها، فالنتيجة أن الفقر في مصر صار مسيّسا بامتياز.

ما يلفت الانتباه أن عند النبش مع البسطاء الذين يلتفون حول عربات أو منافذ السلع زهيدة الثمن، بشأن أي شيء يرتبط بالحكومة، تأتي الردود عنيفة وترتسم على وجوه الناس علامات الغضب لكونها السبب في ما آلت إليه ظروفهم المعيشية، وجعلتهم يهرولون ناحية المساعدات، ما يعكس إلى أي درجة لم يفلح الدور التطوعي للأحزاب في امتصاص غضب الفقراء.

وبالعودة إلى فترة انتشار جائحة كورونا، ركزت بعض الأحزاب السياسية نشاطها خلال تلك الفترة على مساندة الفئات الأكثر احتياجا والتفاعل مع المواطنين على أرض الواقع وتلبية متطلبات الكثير من الفئات التي تضررت من الجائحة، التي خلفت وراءها عددا من المصابين والوفيات. وكثفت تلك الأحزاب من نزولها إلى الشارع وتقديم العديد من الأنشطة الخدمية للمواطنين، من بينها توزيع سلع وكراتين غذائية بمناسبة شهر رمضان الكريم، ومساندة العمالة غير المنتظمة المتضررة من فايروس كورونا، الذي نجم عنه توقف للعديد من الأنشطة الاقتصادية.

◙ الاعتماد على الأحزاب في تهدئة غضب الشارع بتوفيرها مساعدات مادية وعينية وغذائية، سيجعل الحكومة تشعر بأن دورها مكمل لدور الأحزاب، لا العكس

كما لجأت بعض الأحزاب إلى مساندة الدولة وأجهزتها التنفيذية في توزيع مطهرات وأدوات تعقيم على المواطنين في إطار دورها المجتمعي لخدمة المواطنين.

وعملت تلك الأحزاب على مساندة الدولة في الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها لتلافي الآثار الاقتصادية لأزمة فايروس كورونا، وإيقاف نزيف خسائر العديد من الأنشطة الاقتصادية التي تضررت جراء انتشار الفايروس.

وكان لحزبي “مستقبل وطن” و”الوفد” ظهور لافت وبارز في تلك الأنشطة الحزبية والخدمية مقارنة بباقي الأحزاب الأخرى.

وتعد الأحزاب من أهم التنظيمات السياسية التي تؤثر بشكل مباشر على سير وحركة النظام السياسي وضمان استمراره واستقراره، فهي تؤدي دورا مهما في تنشيط الحياة السياسية وصارت تشكل ركنا أساسيا من أركان النظم الديمقراطية، فأداء الأحزاب ينعكس سلبا أو إيجابا على نوعية الحياة السياسية وعلى مستوى التطور الديمقراطي والتحديث السياسي وفاعلية النظام السياسي الذي يعدّ انعكاسا للنظام الحزبي السائد في الدولة.

كما تعد الأحزاب إحدى قنوات المشاركة السياسية للمواطن، وكذلك إحدى قنوات الاتصال السياسي المنظم في المجتمع، فهي تقوم بالتعبير عن اهتمامات الأفراد وحاجاتهم العامة والعمل على تحقيقها من قبل الحكومة، بفضل الضغط الذي تمارسه الأحزاب على صنّاع السياسة العامة الرسميين، وكذلك نقل رغبات وسياسات الحكومة إلى المواطنين والعمل على تعبئة الجهود والمواقف المتباينة إزاءها، إما دعما وإما رفضا.

16