الدبلوماسية التونسية: من خطاب لإقناع الذات إلى مواجهة الأزمة

قيس سعيد نجح إلى حد الآن في أن يحد من تأثيرات اتهام الموقف الرسمي التونسي بالعنصرية من خلال حملة اتصال بقادة أفارقة وبمنظمات تابعة للمفوضية الأفريقية. ويحتاج الأمر إلى تحرك أوسع لوزارة الخارجية لحشد الدعم لتونس والتأثير في الرأي العام الأفريقي بدل تركه يستقي المعلومة من الحملة المضادة.
تحركت تونس في الأيام الأخيرة بشكل أكثر فاعلية لتطويق الحملة التي ربطت خطابها الرسمي بالعنصرية تجاه اللاجئين الأفارقة. هناك شيء تغير بشكل واضح جعل تونس تقترب أكثر من تجاوز هذه الأزمة الخطيرة على مصالحها وعلاقاتها الخارجية، وهو أن الخطاب الرسمي التونسي غادر مربع الحديث إلى الداخل بكلام عن المؤامرة وتبرئة النفس من العنصرية إلى خطاب خارجي مسنود بتحركات مباشرة لإقناع الأطراف المعنية بالقضية، أي الأفارقة، بالموقف التونسي.
وكان لافتا تحرك الرئيس قيس سعيد على أكثر من مستوى لتبديد الصورة السلبية التي تم رسمها سريعا وتغذيتها بالتأويلات والإشاعات في سياق صراع سياسي داخلي. منذ يومين كان للرئيس سعيد لقاء برئيس غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). وقال الرئيس التونسي إنه أفريقي ويفتخر، وإن في محيطه زيجات من أفارقة. ولقي كلاما إيجابيا من الضيف الأفريقي مفاده أن الجميع يعرف أن تونس ليست كذلك.
اتصال الرئيس التونسي بالمؤسسات الأفريقية العليا خطوة مهمة لقطع الطريق على أي تصعيد غير محسوب
وأبلغ ما قاله رئيس غينيا بيساو “لا يمكن أن أصدّق أن يكون رئيس تونس، بلد بورقيبة، كارهاً للأجانب أو عنصرياً، فأنت نفسك أفريقي”، وهي رسالة واضحة مفادها أن صورة تونس لا يمكن أن تهزها حملة عابرة، وأن بلدا رأسه الحبيب بورقيبة الذي حارب فرنسا وفرض عليها الاستقلال لا يمكن أن يكون عنصريا.
وفتحت هذه المقابلة الطريق أمام لقاءات واتصالات أخرى، كان أبرزها الاتصال الذي جرى بين قيس سعيد وماكي سال، رئيس جمهورية السينغال، الذي هو حاليا رئيس الاتحاد الأفريقي.
وأوضح الرئيس التونسي أن بلاده تعتز بانتمائها الأفريقي وهي حريصة على تعزيز علاقاتها مع سائر الدول الأفريقية في إطار ثنائي ومتعدد الأطراف. كما جدّد التأكيد على أن تكون الحلول لمشاكل القارة نابعة من إرادة شعوبها.
ولا شك أن الاتصال برئيس الاتحاد الأفريقي وقبله رئيس إيكواس هدفه اتباع الطرق الدبلوماسية والاتصال بالجهات العليا وتقديم صورة لها عن حقيقة الموقف حتى تندفع تحت وقع الحملة لاتخاذ موقف في غير صالح تونس. وعرف الاتحاد الأفريقي في السنوات الأخيرة بموقفه الصارم تجاه أيّ تجاوز لقيم الاتحاد وهياكله، وهو ما ظهر بشكل واضح في موقفه من الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو.
يمثل الاتصال بالمؤسسات الأفريقية العليا خطوة مهمة لقطع الطريق على أيّ تصعيد غير محسوب، خاصة أن الحملة أخذت بعدا أوسع حين دفعت دولا أفريقية لإجلاء مواطنيها من تونس وأغلبهم في وضع قانوني سليم، وراجت فيديوهات وروايات تتحدث عن استهداف الأفارقة، وقوبلت بردود فعل أفريقية ودولية سلبية تجاه تونس.
صحيح أن الموقف الرسمي تم تطويعه بشكل يوحي بالعنصرية ضمن صراع تونسي داخلي، ولكن الأكيد أن تجاوزات قد حصلت، وأن خطابا شعبويا عنصريا قد راج على مواقع التواصل الاجتماعي محرضا على الأفارقة، ما يجعل مهمة إقناع الأفارقة بوجود “حملة غير بريئة” أمرا بالغ التعقيد بسبب تلك الفيديوهات.
المهم أن التحرك الدبلوماسي نجح إلى حد الآن في الإقناع بأن ما جرى لا يعبّر عن موقف رسمي، وأن توظيف كلام قيس سعيد أمام مجلس الأمن القومي يوم 21 فبراير الماضي كدليل على خطاب عنصري فيه تلبيس واضح.
لم يكن الرئيس التونسي يحكي وفق عقدة عنصرية حين تحدث عن رفضه فكرة توطين اللاجئين الأفارقة، أو في تمسّكه بمواجهة الهجرة غير النظامية وارتفاع أعداد اللاجئين في تونس. هناك فرق بين أن تستهدف الناس على اللون أو العرق وبين أن تقول إن تونس لا تتحمل هذه الموجات من اللاجئين الأفارقة. ليس هناك لاجئون من دول أخرى حتى يتهم الرئيس التونسي بالتمييز أو بالعنصرية، فهناك لاجئون أفارقة فقط، ورفض بقاء غير النظاميين منهم حق مشروع، وهذا ما تقوم به دول أوروبا وتحارب من خلاله وصول اللاجئين إليها، وتعد خططا أمنية لمواجهتهم. فلماذا إيطاليا على حق وتونس لا؟
وبعد التواصل مع الجهات العليا في المؤسسات الأفريقية، عمل الرئيس التونسي على التواصل مع المنظمات المدنية الأفريقية لإعطائها صورة عن حقيقة الوضع، خاصة أن منظمات حقوقية ومدنية تونسية وأوروبية عملت على ركوب موجة استهداف قيس سعيد بسبب الاتهامات بالعنصرية. وجزء من هذا التحرك المدني لديه حسابات أخرى، ووجد في موضوع العنصرية فرصته لاستهداف قيس سعيد، الذي سبق أن لوّح بمواجهة الجمعيات المدعومة من الخارج ومساءلتها حول التمويل والأجندات.
التقى الرئيس سعيّد، الجمعة، بمفوضة الصحة والشؤون الإنسانية والتنمية الاجتماعية بالاتحاد الأفريقي، وكذلك بمفوض الشؤون السياسية والسلم والأمن بالاتحاد الأفريقي.
وذكّر قيس سعيد بأن من يتحدّث عن الميز العنصري في تونس لا يعرف أو يتناسى مواقف شعبها من كل القضايا التي عانت منها الشعوب الأفريقية، موضحا أن الاتهامات والحملات المسعورة تهدف إلى تحريض الرأي العام وتأليبه ضدّ تونس، وأن لتونس قوانينها التي تنطبق على الجميع ولها تقاليدها وثوابتها في التعاون والتآزر مع الشعوب الأفريقية.
وعبّر المفوضان عن تفهّم مفوضية الاتحاد الأفريقي للموقف التونسي، وأثنيا على الإجراءات التي تم اتخاذها لحماية المهاجرين من جنوب الصحراء لتيسير إقامتهم وحمايتهم من أيّ اعتداء.
موقف المفوضية مهم لأنه سيكون المعادل المقابل لخطاب التشويه الذي تتعرض له تونس. وأيّ بيان إيجابي من هذه المؤسسات الأفريقية سيقطع الطريق أمام محاولات إثارة الأفارقة وشحنهم ضد تونس.
وسيكون مهمّا لو أن الرئيس سعيد يستقبل بصفة خاصة ممثلي الطلبة الأفارقة الذين يدرسون في تونس لطمأنتهم ولبناء الثقة معهم، فأغلبهم كوادر المستقبل في بلادهم، ويمكن أن يتولّوا إطفاء الحريق الحالي، وبناء علاقات ثقة وتعاون على المستوى البعيد، تماما مثلما كانوا يفعلون في فترات سابقة.
الرئيس سعيد إلى حدّ الآن قام بما عليه في هذه الحملة الهادفة إلى إظهار الموقف الرسمي وتبديد المخاوف التي زرعتها حملة مركزة متعددة الأطراف ضد تونس. والآن على وزارة الخارجية أن تبتكر أدوات تواصل أخرى غير الندوات الصحفية والبيانات من أجل الوصول إلى الرأي العام الأفريقي.
ومثلما أن المنظمات والجمعيات المساندة للأفارقة، وبينها جمعيات تونسية، تنشر أشرطة فيديو تصور الاستهداف أو تروي قصص المعاناة، فإن تحركا اتصاليا رسميا يمكن أن يقوم بنفس الخطوات ولكن باتجاه عكسي بتقديم أفارقة يتحدثون بإيجابية عن تونس.