كيف بات فقراء مصريون مقتنعين بأن الموت أهون من العيش وسط ظروف قاتلة

التشاؤم وغياب الثقة يعرقلان سعي الحكومة لإزالة "رهاب الزلازل" عند المصريين.
الخميس 2023/03/02
خطر محدق

تبني شريحة كبيرة من المصريين مخاوفها من الزلازل على ما حصل في عام 1992 حين ضرب زلزالٌ العاصمةَ المصرية. وقد زادت مخاوفهم أخيرا بعد ما حصل في تركيا. ورغم محاولات الحكومة المصرية طمأنة الشارع فإن جهودها تبوء بالفشل لتغلغل “رهاب الزلازل” في المجتمع مع غياب التفاؤل.

القاهرة - استقبل المصري محروس محمد نفي المعهد القومي للبحوث الفلكية في مصر حدوث زلزال بالبلاد الجمعة الماضية باستنكار واستهجان شديدين لأنه وأفراد أسرته شعروا به، وعندما اطلع على ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي وجد الكثير من المواطنين يتحدثون عنه تصديقا لكلام العالم الهولندي فرانك هوغربيتس الذي توقع حدوث سلسلة من الزلازل في مصر يومي 25 و26 فبراير الماضي وأخرى مطلع مارس الجاري.

ويعيش الأب وأسرته حالة من الخوف جراء توقع تكرار الزلزال الذي ضرب العاصمة المصرية عام 1992، حيث كان آنذاك يقيم في منطقة شعبية بالقاهرة، وشاهد آثار الدمار الذي ضرب المئات من المباني ويخشى تكرار المشهد أمام تضارب المعلومات الصادرة عن مؤسسات حكومية معنية بتتبع نشاط الزلازل في بلاده، رغم صدق تنبؤات العالم الهولندي الذي توقع زلازل مدمرة في سوريا وتركيا.

محروس من الشريحة المصرية التي تثق بتوقعات المنجمين عموما، وهذه ليست قليلة في مصر، وعددها حسب بعض التقديرات يتجاوز 40 في المئة من تعداد السكان، وفق دراسة صادرة قبل عام عن مركز الأزهر للفلك.

وهؤلاء لا يعنيهم ماذا تقول الحكومة ولا تشغل بالهم الأحاديث والمعلومات الرسمية، حيث يصدقون تفسيرات المنجمين حول المستقبل لاعتقادهم أن الحكومة لن تكشف الحقيقة.

ويعاني الكثير من المواطنين انخفاضا في منسوب التفاؤل، في ظل الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة، والشعور بأن خيبة الأمل في الماضي يمكن أن تتكرر لاحقا، ما يدفع البعض من السكان نحو الخرافة على سبيل التفاؤل أو الاستعداد لما هو قادم من أوضاع صعبة، لإيمانهم بأن من يقرأ الطالع ليس بالضرورة كاذبا، فقد يكون أسطورة ولديه قدرة على قراءة المستقبل أو التحذير من مخاطر مرتقبة مطلوب تلافيها.

رهاب الزلازل

المدن الآمنة يسكنها الأغنياء فقط
المدن الآمنة يسكنها الأغنياء فقط

تعامل قطاع كبير من المصريين مع كلام العالم الهولندي بإيجابية، فهو الذي صدق كلامه تجاه زلزال سوريا وتركيا، رغم تقليل العديد من علماء الفلك والجيولوجيا منه، والتعامل معه باعتباره صدفة، لكن ما إن ثبتت صحة توقعاته حتى تحول لدى المصريين إلى مصدر للثقة، يتحدث عن فهم وعلم، مهما حاولت بعض المؤسسات الرسمية التشكيك في توقعاته والتعاطي مع تفسيراته على أنها مجرد خرافات.

ويعتقد متخصصون في علم النفس الاجتماعي أن إصابة أي مجتمع بـ”رهاب الزلازل” تعكس الخوف المفرط الذي يصعب السيطرة عليه، ما يجعله يخطط لبناء حياته على حالة مستمرة من عدم الاطمئنان على المستقبل، وهي المشكلة التي ضربت المجتمع المصري عند وقوع زلزال 1992 جراء الحالة النفسية السيئة للناس من هول الكارثة، لكن المعضلة مركبة الآن، فالمواطن محبط بسبب ظروفه القاسية، والتي تتزامن مع خوفه من خطر الزلازل.

عدد المباني المخالفة من عام 2000 إلى 2017 حوالي 2.8 مليون من إجمالي 13 مليون مبنى، وهو ما ينذر بكارثة

قال عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا بجامعة القاهرة، إن مخاوف المواطنين من إمكانية حدوث زلازل مشروعة في أي مجتمع، لكن لا يعني ذلك تسليم العقول إلى المنجمين، بل الحصول على المعلومات من المتخصصين، لأن هناك من يلعب على وتر هلع الناس ويسعى لأن يؤثر فيهم بشكل سلبي، وهنا يبرز دور التوعية وسرعة الرد على كل ما يثار، مع حتمية التعاطي مع الكلام الرسمي بمصداقية.

وأضاف لـ”العرب” أن “تصديق البعض للعالم الهولندي أكثر من خبراء الفلك والجيولوجيا غير منطقي، ولا يجب أن يتم التعامل مع المنجمين أو أصحاب التنبؤات العلمية بقدسية شديدة، لأن ذلك يكرس حالة الهلع والخوف عند الناس حتى لو كانت مصر آمنة من المخاطر المحيطة في دول أخرى”.

ولفت إلى أن الحكومة المصرية لا تخفي شيئا، والمعلومات المرتبطة بالزلازل لها أبعاد دولية، ويفترض على المواطن أن يلتزم بما يقدم له من معلومات رسمية.

وأصبح كلام مسؤولي المعهد القومي للبحوث الفلكية في مصر بالنسبة إلى شريحة كبيرة من المواطنين مجرد تصريحات موجهة لعدم بث الرعب في نفوس الناس بحجة أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لا تسمح باستقبالهم المزيد من رسائل اليأس، وحتى لو تم نفي وقوع زلزال لا يتعامل هؤلاء مع الأحاديث الرسمية بمصداقية لتنامي الشعور بأن الحكومة لديها رغبة في طمأنة الشارع بأي وسيلة.

وأكد المصري محروس لـ”العرب” أنه “على الرغم من وجود كثيرين لديهم مخاوف من تكرار زلزال 1992 المدمر، إلا أن هناك من يتمنى حدوثه في القريب العاجل للخلاص من الحياة البائسة، فثمة من يعيشون الفقر وقلة الحيلة ويتمنون الموت وشريحة أخرى تشعر بأن حياتها بلا معنى أو هدف لأنها فئة تفتقد إلى الحد الأدنى من مقومات السعادة، لذلك لا يعنيها استمرار الحياة على هوامش الإنسانية وقد ترى أن الموت أرحم لها”.

الأسئلة الصعبة

ظروف بائسة
ظروف بائسة

مشكلة البعض من المصريين مع الحكومة أنها، في نظرهم، تتعمد التطرق إلى نفي وقوع البلاد ضمن حزام الزلازل دون أن تتحدث إليهم بصراحة وتجيب عن السؤال الصعب: ماذا لو صدقت تنبؤات العالم الهولندي وشهدت مصر زلزالا مدمرا، هل الدولة مستعدة لذلك أم لا، وإلى أي درجة يمكن أن تتحمل البنايات المخالفة لمعايير البناء السليم هزات أرضية متوسطة الخطورة؟

وتبني شريحة كبيرة من المصريين مخاوفها من الزلازل على ما جرى في تركيا بعدما طالت أصابع الاتهام 134 مقاولا لمبان دمرها الزلزال، وتم توقيف البعض منهم في المطارات، كما أرسلت وزارة العدل خطابا إلى النائب العام لإنشاء مكاتب للتحقيق في قضية عرفت بجرائم الزلازل.

أما على مستوى مصر فإلى جانب الظروف المعيشية البائسة هناك مئات الآلاف من الأشخاص يعيشون في بيوت متهالكة، تفتقد إلى الحد الأدنى من مقومات الأمن والسلامة، وإذا تعرضت البلاد لزلزال متوسط القوة قد تنهار تلك البنايات بسهولة، أمام وقائع الفساد التي تحدث من بعض موظفي الأحياء والإسكان في منح تراخيص لإنشاء منازل غير مطابقة للمواصفات، وهناك أرقام مرعبة من مخالفات البناء لا تجد لها الحكومة حلا.

وَوِفق إحصاء رسمي صادر عن وزارة التنمية المحلية في مصر، يبلغ إجمالي عدد المباني المخالفة من عام 2000 إلى 2017 حوالي 2.8 مليون من إجمالي 13 مليونا و466 ألف مبنى في عموم البلاد، ما يعني أن نسبة المباني المخالفة وصلت إلى 21 في المئة، وهو واقع ينذر بكارثة تتجنب دوائر حكومية التطرق إليها، على اعتبار أن ذلك يزيد من الرعب لدى الناس بالتزامن مع الإحباط المنتشر في الشارع.

وأقر رئيس معهد الفلك في مصر، ضمنيا، بأن الكارثة الأكبر على البلاد وقت زلزال 1992 كانت بسبب المباني المخالفة لشروط السلامة، نافيا ما وصفه بتنجيم العالم الهولندي، وأن “مصر لن تشهد زلازل مدمرة خلال السنوات المقبلة”.

الخوف من المستقبل

Thumbnail

استقر الحال بأسرة الطالبة الجامعية أميرة حمدي للإقامة منذ سنوات في حي المطرية الشعبي بالقاهرة، لكن ظروف والدها لم تكن تسمح له بشراء عقار في برج سكني جديد، فحصل على وحدة سكنية قديمة بمبنى تأسس قبل خمسين عاما بنظام الإيجار، ما جعلها تعيش الآن في حالة رعب يومية جراء المعلومات التي تتابعها بشكل دوري عن مستقبل الزلازل في مصر، ومدى ارتباط ذلك بما حدث في دول مجاورة.

وأبلغ موظفو الحي والد أميرة قبل عام بأن العقار الذي تعيش فيه الأسرة مخالف لاشتراطات البناء، ودخل ضمن نطاق الإزالات التي تقوم بها الحكومة للقضاء على المناطق العشوائية بسبب خطورتها على حياة الناس، لكن نتيجةً للظروف الاقتصادية السيئة وترشيد الإنفاق الحكومي وتجميد بعض المشروعات القومية تعطّلت إجراءات إزالة المنطقة ونقل قاطنيها إلى مدينة جديدة.

قالت الفتاة لـ”العرب” إنها تتوقع الموت في أي لحظة، فالخطر يحاصر المبنى الذي يحتضن أسرتها، وظروف والدها لا تتيح له شراء وحدة سكنية جديدة، ما جعلها تنتظر الهلاك في أي وقت، وعندما تحدثت إلى أبيها عن ضرورة الانتقال إلى مكان آمن بعيدا عن منطقتها السكنية الخطرة لم يعبأ بكلامها، على اعتبار أن الموت ربما يكون أهون للفقراء من العيش وسط هذه الظروف القاتلة.

الشريحة المصرية التي تثق بتوقعات المنجمين عموما تتجاوز 40 في المئة من السكان، وفق دراسة صادرة قبل عام عن مركز الأزهر للفلك

وما يثير رعب أميرة وأخواتها أنها تطالع تصريحات خبراء الهندسة حول المخاطر المتوقعة من حدوث زلزال في مصر، ولا تنسى ما ذكره مدير مركز بحوث الهندسة المدنية عندما تحدث عن أنه حال وقوع هزة أرضية كبيرة لن تبقى الأبنية العشوائية أو القديمة - المتهالكة التي لا يتوافر فيها الكود المصري في البناء، ولا بد أن يكون هناك تدخل عاجل لمراجعة سلامة كل هذه المباني من أجل استباق الخطر الذي قد يطالها.

ويرى جمال فرويز استشاري الصحة النفسية بالقاهرة أن حالة الخوف من المستقبل سمة عند البعض من المصريين بشكل غير مبرر، وهذا يتسبب في تكرار الشعور بالمصير المجهول لأسباب متشعبة تخص كل حالة بعينها، فمن يراودهم الإحساس بالإحباط باستمرار يشعرون بالخطر يحيطهم دائما، وهؤلاء يفتقدون الأمان لعوامل ذاتية وأخرى خارجية مرتبطة بالأجواء العامة، وهم موجودون في أي مجتمع.

وأوضح لـ”العرب” أن اللجوء إلى المنجمين للتنبؤ بالمستقبل حول الزلازل يعكس اليأس في نفوس بعض الناس، وليس بالضرورة أن يكون ذلك برهانا على وجود حالة من التهميش الاجتماعي والاقتصادي بدليل أن هناك مستثمرين يبنون حياتهم وفق كلام عرافين، ومشاهير يتعاملون مع نفس الفئة، ولذلك فالموضوع برمته قائم على الوعي وتثبيت المصداقية الرسمية في مخاطبة الناس وبث الطمأنينة في نفوسهم بتحركات عملية.

ولم تشكل الحكومة المصرية لجانا هندسية للمرور على المناطق المصنفة بأنها خطرة لدراسة حالة المباني بها حتى لو كانت جيدة وتتحمل قوة الهزات الأرضية، فالمشكلة الأكثر تعقيدا والمثيرة للخوف والهلع ترتبط بعدم التخطيط العمراني الملائم للمناطق، حيث زاد السكان وتكدست المناطق بالبنايات الملاصقة لبعضها البعض وضاقت الشوارع أمام عجز الناس عن الانتقال إلى مدن جديدة أكثر أمانا، لا يسكنها سوى الأغنياء.

16