محمد عيسى المؤدب: الكتابة موقف ومقاومة وهدف نحو التغيير

الروائي الذي يخشى القارئ.. عليه أن يتوقف عن الكتابة.
السبت 2023/02/25
قارئ هذا العصر ذكي وشرس

لمع اسم الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب بشكل خاص بعد الثورة التونسية، إذ أعادته الأحداث المتلاحقة التي عاشتها البلاد إلى الكتابة بجرأة أكبر محاولا أن ينقذ البلاد وتاريخها روائيا من موجات الظلام التي باغتت البلاد لحظة انتشائها بضوء الحرية. “العرب” التقت الكاتب حول مشروعه الروائي ورؤاه الأدبية والثقافية الأخرى.

ينتصر الروائي والقاص والناقد التونسي محمد عيسى المؤدب (1966)، في أعماله للإنسانية، ورغم أنه انقطع عن النشر فترة طويلة تجاوزت العشر سنوات، فإنه عاد ليقدم العديد من الأعمال البارزة والتي لاقت نجاحا كبيرا في تونس وخارجها.

وحول ما تغير في تجربته الروائية طوال تلك المدة يقول المؤدب “ما تغيّر هو قناعاتي في عملية الكتابة، كان لا بد أن أفكر في مشروع روائي متكامل أواكب فيه المُتغيرات المُتسارعة في الرواية الحديثة، وأنتصر فيه للإنسانية في زمن العولمة المُتوحش وفي عصر الذئاب المنفردة التي عمقت معاناة البشرية، وأعني بالذئاب موجات التطرف والإرهاب المتناسلة والمُتهافتة على الجريمة والخراب”.

مشروع أدبي

ب

يؤمن المؤدب أن الكتابة موقف ومقاومة وهدف نحو التغيير لذلك هو مشغول بالكتابة عن الهوية التونسية وتوضيح للعالم أجمع أن تونس بلد التسامح وليس التطرف. وذلك من خلال مشروع “الأديان والمكان” المتضمن لثلاث روايات: “جهاد ناعم”، و”حمام الذهب”، و”حذاء إسباني”.

ويصف المؤدب قارئ هذا العصر بـ”الذكي والشرس”. أما المرأة في حياة المؤدب فهي حقيقة ورمز. قطب رئيس في حياته وكتاباته، هي الأم بقداستها ونبلها، وهي الحبيبة بحنانها وجنونها، المرأة وطن وحرية ومخيال وإدهاش.

تحصل محمد عيسى المؤدب على جائزة الكومار الذهبي للرواية التونسية عام 2017، عن روايته “جهاد ناعم”. وحصدت رواية “حمام الذهب” جائزة معرض تونس الدولي للكتاب عام2021. ووصلت هذه الرواية أيضا إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2020.

ينطلق المؤدب في مشروعه الروائي “المكان والأديان” من وطنه تونس، ويلفت إلى أنه بعد روايته الأولى “في المُعتقل” الصادرة سنة 2013 عن دار الأطلسية، فكّر في مشروع روائي مُلتزم بهُوية تونس، وكان مشروع الأديان والمكان الذي اشتمل على ثلاثية.

ففي رواية “جهاد ناعم” (2017) كانت الثيمة المركز تحول دين الإسلام في تونس بعد الثورة إلى دين تطرف وإرهاب وكذب ونفاق وتجارة بمشاعر الشباب والفقراء وعقلية جهاد نكاح وتسفير الشباب للجهاد في سوريا وليبيا، والحال أنه دين محبة وتسامح وعمل وتعايش كما دأب عليه التونسيون لقرون طويلة.

وفي رواية “حمام الذهب” (2019) اشتغل على تاريخ الأقلية اليهودية أو يهود القرانة، وما كان يُميّز مدينة تونس العتيقة من حياة جميلة وتعايش بين اليهود والمسلمين وحتى المسيحيين، وطرح السؤال الأهم: لماذا كانت تونس في الماضي متعددة ومتنوعة ومتعايشة بمختلف الحضارات والثقافات والديانات ثم صارت بعد ثورة يناير 2011 حلبة للكراهية والحقد وإقصاء الآخر المختلف؟ أليس اليهودي تونسيا مثله مثل المسلم ومثل المسيحي؟ وبمعنى آخر فإن التطرف في تونس هو تطرف أقلية متعصبة لا تمثل شعب تونس الذي عُرف عبر تاريخه بالانفتاح على الثقافات والتعايش بين الأديان.

الرواية الحديثة عمل فني واع يستند إلى خطاب حجاجي متعدد وغزير المعارف يتجاوز خطاب الوجدان والسطحية

ويستطرد “أما رواية ‘حذاء إسباني‘ (2020) فاهتمت بموضوع الأقليات، وأعني الإسبان الذين فروا من جحيم فرانكو وجحيم الموت سنة 1939 لتحتضنهم أرض تونس بتراثها وثقافتها ومجتمعها الباحث بدوره عن الحرية زمن الاستعمار الفرنسي، فقد انقلبتْ حياة الضابط مانويل قريقوري المسيحي من الخوف والرهبة إلى الطمأنينة والسلام، كما تحول حذاء التعذيب إلى حذاء الحب. في الواقع، كل عمل روائي داخل المشروع له خصوصيته واستقلاليته الفنية والمضمونية، وكل رواية هي مدينة ضاجة بالنصوص والقضايا والأسئلة وهذه الروايات الثلاث توثق لهوية بلد”.

وعن شكل الوطن الذي يبحث عنه في كتاباته يقول “في رواية ‘حمام الذهب‘ نقلت الأمكنة في مدينة تونس العتيقة والمدينة الحديثة نبض الحياة الجميلة في تونس، الحياة التي تنتصر للجمال والفن والحوار مع الآخر المختلف. حضرت الأمكنة بوصف طوبوغرافي ونفسي وبرمزية مجسمة لجمال المعمار مثل مقام سيدي محرز وحمام الذهب ومقهى الشواشين والأحياء الشعبية وشارع الحبيب بورقيبة وتمثال ابن خلدون الذي يظل رمزا للعقل والمعرفة والعدل. تونس تظل حارسة على مر العصور لهُويتها المجبولة على التسامح والتعايش والطبائع المعتدلة التي كنست لقرون طويلة المتطرفين والإرهابيين. تونس في ‘حمام الذهب‘ بأمكنتها وشخصياتها ليست تلك الصورة القاتمة التي تُروّجها بعض وسائل الإعلام العالمية من كونها بلاد تطرف، إنها بلد الحب والحرية والجمال وستبقى كذلك. سافرت الرواية طويلا في هذا المنحى لتكشف للعالم حقيقة الهُوية التونسية”.

ي

سوق القراءة وصناعة الكتاب، وبخاصة الروائي، وسع هامش التلقي وبالتالي دخل القارئ في هذه المعادلة. وهنا نسأل المؤدب، إلى أيّ مدى أصبح القارئ مؤثرا في نجاح الأعمال الأدبية أو فشلها؟ فيقول “الرواية الحديثة تخترق كل ما هو مُغيّب ومهمّش ومسكوت عنه، هي مدينة النصوص والفنون، تنشئ معمارها من أطباق إنسانية مختلفة ومتنوعة ومتناقضة، وعلى الروائي أن يكون باحثا وصيادا ومتسكعا، عليه أن يلتصق بكل المدونات ويحفر في دهاليزها ليكتب نص الإنسان لأن قارئ هذا العصر قارئ ذكي ومُطلع وشرس وبمزاج مُتقلب لن يرحم أيّ عمل غير حرفي وجدّي. الرواية الحديثة تستند إلى خطاب حجاجي متعدد وغزير المعارف يتجاوز خطاب الوجدان وسطحية الموقف. تسلحت الرواية بكل ذلك لأن القارئ الذي تحدثنا عنه أخطر جهة في عملية التلقي، فهو مؤثر في النجاح والفشل وهو من يقود قاطرة القراءة ومن خلفه الإعلام والنقد الأدبي”.

في رواياته يصف التأريخ الاجتماعي لتحولات حياة الإنسان التونسي منذ عقود وحتى هذه اللحظة، ويضيف “هذا صحيح، ودقيق فعلا، فروايات ‘جهاد ناعم’، ‘حمام الذهب’، ‘حذاء إسباني’، بشكل خاص كان رهانها تسريد التحولات الحضارية والاجتماعية والنفسية للإنسان التونسي مع التأكيد على هُويته الأصل ودحض الهوية الدخيلة. لم أكتفِ بجماليات السرد فقد شغلني التوثيق أيضًا لمختلف التحولات المصيرية التي شهدتها البلاد التونسية في علاقتها بجيرانها أيضًا وأعني ليبيا والجزائر بشكل خاص”.

ويذهب المؤدب إلى أن الرواية دفعته إلى “الانشغال بالإنسان، الإنسان في جوهره، في محنه وأزماته، في انفلاته وأحلامه. لم تزد العولمة الإنسانية إلا خوفًا ورعبًا، ولم تزد الوسائط الحديثة الإنسانية إلا اغترابًا. أفكر في الإنسان التونسي وهو يُواجه الفقر والبطالة والأزمات الاجتماعية والاقتصادية ويُطارد لقمة العيش، الإنسان التونسي الذي نهشه فساد الساسة وجشعهم وأنانيتهم تماما كما نهشته الحيتان في البحار والمحيطات. أفكر في الإنسان العربي الذي مزقته الطائفية وموجات التطرف والإرهاب، وأسألُ: لماذا تزدادُ الأمة تخلفًا وتصدّعًا كل يوم؟ أضيفُ أيضًا أن الإنسانية تمر بمرحلة حرجة بسبب كوفيد – 19 والحرب الروسية – الأوكرانية، وهي مرحلة الكآبة بلا شك، وأنا مُنشغلٌ بتسريد هذه المرحلة، وأخشى أن تتعقد وضعية البشرية في هذه المرحلة فتعم حالة اكتئاب مُتوحشة”.

من ناحية أخرى يرى المؤدب أن المشهد النقدي العربي المُعاصر مُحيرٌ ومُخيب للآمال، فقد تقدم عليه الإبداع الروائي بمئات الأميال، وليس ثمة إلا محاولات فردية تُواكب المنجز السردي باحتشام. يحتاجُ النقدُ حقيقة إلى مؤسسة تُراهن على الإبداع والمعرفة وتتجاوز الفوضى المنجرة عن النقد تحت الطلب، أو ظاهرة هذا على الحساب حتى أقرأ الكتاب. أقولُ هذا رغم أن النقد التونسي والعربي أنصف أعمالي، تمامًا كما أنصفتها الجوائز، وهذا مُهم طبعا، كما تعرفين صديقتي.

التاريخ ظلم تونس

ي

في روايته “حمام الذهب” تناول حياة أقلية يهودية – تونسية في منطقة باب سويقة وما تعرضت له من تهجير نحو فرنسا ومجازر نازية أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942، وأسئلة مربكة تتعلق بقضايا الهوية والانتماء والتطرف تجسدت بين هيلين وسعد. هذه الأسئلة وما يحيل إليها من إشكاليات قد تبدو قادرة على اختزال ما يحدث في حياة البشر المهمشين.

وهنا يوضح المؤدب أن رواية “حمام الذهب” طرحتْ روائيا التاريخ المشترك بين المسلمين واليهود، الاشتراك في الكثير من العادات والطبائع والمآسي وغيرها. قد يحدثُ أن نتباعد أو نتباغض لكن الحب يُذوّب كل الاختلافات أو الصراعات. في الحقيقة، التاريخ لم يهتم بالمُهمشين وما حدث في حياتهم من تفاصيل كان يمكن أن تكون دروسًا وعبرًا، لذلك تأتي الرواية لتتفادى هذا النقص فتسرد التفاصيل المنسية أو المُهملة، ومنها قصة هيلين اليهودية وسعد المُسلم، فقد استطاع الحب أن يلغي الفوارق والمسافات بين الأديان والثقافات، واستطاع أن يلعن الكراهية والظلام والتطرف ويؤصّل الانتماء إلى هوية واحدة.

الكتابة عن الإسلام والمسيحية واليهودية من خلال أعماله “حمام الذهب” و”حذاء إسباني” و”جهاد ناعم” قد تؤدي إلى وقوع الكتابة الروائية في مسألة التجاذبات الطائفية.

 وهنا يقول الروائي التونسي “انتظرتُ فعلا أن تُثير رواية ‘جهاد ناعم‘ غضب الإخوان في تونس بحكم أن الرواية تفضح ممارساتهم بعد الثورة في ما يتعلق بتجار الدين وتسفير الشباب نحو سوريا وليبيا وتفشي الفساد وغيرها من الأزمات التي تعرضت لها تونس وهذا ما حدث فعلا، أما رواية ‘حمام الذهب‘ فقد تلقاها البعض بين الاتهام بتبييض ظاهرة اليهودية في تونس وبين التكفير، واللافت في الأمر أن هؤلاء لم يقرؤوا الرواية لأنهم ببساطة من جماعة ‘هذا على الحساب حتى أقرأ الكتاب‘”.

ويضيف “أنا على يقين أن الروائي الذي يخشى القارئ، كان من كان، عليه أن يتوقف عن الكتابة، الكتابة ليست مزحة ولا فسحة، الكتابة مُقاومة وموقف وحرية تفكير وتعبير”.

روايات الكاتب تطرح روائيا التاريخ المشترك بين المسلمين واليهود وحتى المسيحيين من خلال الغوص في التاريخ المنسي والمهمش

بين إسبانيا والمدن التونسية بنزرت وقليبية تدور أحداث رواية “حذاء إسباني”، من خلال شخصية ضابط المشاة في البحرية الإسبانية مانويل قريقوري الذي فر هاربا من جحيم الحرب الأهلية في وطنه ومعه عدد من المدنيين. نسأله كيف يجمع مواد رواياته؟ وإلى أيّ مدى هو مشغول بسؤال التاريخ؟

يجيبنا المؤدب “رواية ‘حذاء إسباني‘ تسرد ذاكرة المنافي والمنفيين التي عرفتها تونس وبشكل خاص البحارة الإسبان الذين هربوا من فرانكو في نهاية الحرب الأهلية الإسبانية سنة 1939 ليتشردوا في بر تونس، لكن أحد الضباط سيعرف مغامرة غريبة ستُحوّل الموت والخوف إلى انتصار. وفي الحقيقة فإن دقة الأحداث التاريخية تطلبت مني رحلة بحث لأكثر من سنة، بحث في الكتب والأمكنة بالإضافة إلى جمع شهادات حية. لا أنسى المساعدة الثمينة التي قدمتها لي الدكتورة فكتوريا فرننداز دياز التي سلمتني كتابًا يوثق رحلة هروب البحارة الإسبان إلى تونس سنة 1939 وما عاشوه من محن وآلام”.

ويتابع “أما بالنسبة إلى المسألة التقنية فقد وظفتُ المذكرات واليوميات وفن الرسالة في الكتابة وهي من ضرورات معمار هذه الرواية التي انشغلت بحدث تاريخي أهمله التاريخ التونسي. وفي الواقع وأنا أعود إلى التاريخ بحثًا وكتابة فإني أبحث عن جذور هوية تونس التي يسعى الظلاميون في هذا العصر إلى طمسها. لا يشغلني التاريخ بقدر ما تشغلني الهوية، هذا مشروعي في الثلاثية الروائية”.

كانت تونس مسرحا لروايات “حذاء إسباني”، و”حمام الذهب”، نسأل المؤدب هل سؤال المدينة بمثابة هاجس شخصي له؟ يقول “جسّمت الحمولات التاريخية والتراثية والدينية والاجتماعية لبلدي تونس الحوار والتعايش بين الأديان وبين ثقافات تحملُ نفس الهموم والانتظارات، فمثلما حضر جامع الزيتونة والكتاتيب ومقام سيدي محرز وغيرها حضر الكنيس اليهودي في الحفصية والمدرسة اليهودية وكاتدرائية القديس فنسون دو بول بتونس العاصمة وغيرها من الأماكن الرمزية، وهو ما يبرز حضور المدينة كفضاء إنساني حي متقد بالمشاعر والأحداث والتجارب والذكريات ومُفعم برغبات استعادة ذلك الماضي والانتصار لما يحمله  ذاك التراث الإنساني من دلالات إنسانية رغم ما صاحب ذلك الماضي من تجارب مؤلمة وقاسية من  قبل النازيين والمتعصبين دينيا واجتماعيا في رواية “حمام الذهب” ومن قبل فرانكو وحذاء التعذيب في رواية “حذاء إسباني”.

 ويتابع “فقد مثلت المدينة (تونس العاصمة – القصرين – بنزرت – قليبية- حلق الوادي وغيرها) بحمولاتها الإنسانية هاجسًا مُتكررًا في أعمالي الروائية، نظرًا إلى أن التاريخ ظلم المدينة التونسية ولم ينصف الكثير من الوقائع والملاحم التي حضنتها”.

12