كوثر الجهمي: الأقلام الليبية الشابة تحمل حلما وطموحات كبيرة

يوجد الكثير من الأقلام الشابة في ليبيا والتي تكتب أدبا مختلفا، وأحدها توج مؤخرا بالبوكر العربية بأهم جائزة روائية في العالم العربي، لكن هذه الأجيال الشابة تواجه الكثير من التحديات، وهو ما يجعل مهمة الكتابة بحرية وجرأة أمرا صعبا. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائية الليبية كوثر الجهمي حول عملها الروائي وتفاصيل أخرى حول الكتابة والثقافة في ليبيا.
كوثر الجهمي روائية وقاصة ليبية فازت روايتها الأولى “عايدون” بجائزة مي غصوب للرواية في دورتها الأولى 2019. والرواية مزيج من الواقعية والفانتازيا، تعالج مشكلة إنسانية من الواقع الليبي وهي “عايدون المهجر”، وما ينالهم من نظرة عنصرية.
وربما أثر عملها ككاتبة ومحرّرة في منصة “فاصلة” للكتّاب الليبيين في ما تكتبه من أدب، إذ لها نظرة خاصة دقيقة وراصدة للقضايا من زوايا مختلفة.
استنطاق الماضي

الرواية تعتبر كذبة صغيرة تقدم حقيقة الإنسان الكبيرة، حقيقة المجتمع وموروثه الفكري والخلطة السحرية التي شكلته
عن أكثر كتبها قربا لها، تقول بلهجة ليبية “كلّها ربيت عليها كبد”، دون استثناء، وهي ثلاثة حتى الآن، والرابع تحت التعديل.
في هذا الحوار تتحدث عن روايتها” العقيد”، الصادرة حديثا عن دار الفرجاني، وتكشف لنا تفاصيل عن بطلها علي المرابط، المعارض الليبي وأحد أسرى حرب تشاد، الذي اغتيل في أميركا. ليقرر ابنه الأميركي زيارة ليبيا بعد الثورة للتقصي في مقتل والده فيتعرف أثناء ذلك على عائلة عمه للمرة الأولى، وأيضاً على زوجة والده الأولى قبل حرب تشاد (غزالة الكريتلي) وعلى أخته غير الشقيقة (حسناء).
في روايتها “العقيد” تستدعي الجهمي جزءا من تاريخ ليبيا في فترة الثمانينات وما رافق ذلك التاريخ من صراعات وتحوّلات. وهنا نسألها، كيف عاشت كتابة هذا العمل؟ وكيف جمعت المادة التي استندت عليها في صياغة النص؟ فتقول “تصعب الكتابة عن الأحداث الجدلية متعددة الأوجه، وليبيا السبعينات والثمانينات شهدت تحولات خطيرة في عقلية المواطن الليبي البسيط، الذي يؤمن بمبادئ لا جدال فيها كالحرية والسيادة والاستقلال والعدالة الاجتماعية وغيرها. ولكنه يكتشف بمرور الوقت ومع توالي الخيبات أن البديهيات أيضا تملك عدة أوجه حسب زاوية مقعد الناظر إليها”.
وتلفت الجهمي إلى أنها حاولت جاهدة ألا تتبنى وجهة نظر أحادية، فاستمعت إلى شهادات معاصرين، سواء معارف مقربين أو من الوثائقيات والفيديوهات المنتشرة في الفضاء الرقمي، واعتمدت بالطبع على بعض الكتب التي تناولت الحديث عن حرب تشاد، هناك كتب تقر بمشروعية هذه الحرب، وأخرى معارضة لها، وكتب من نوع ثالث تقف على الحياد ربما لأن الكاتب غير عربي. مضيفة “هذا الكتاب قد يستفز جميع التوجهات السياسية والوطنية في بلادنا، ولكن العزاء هنا أنه لا ينحاز إلى أحد، فهذا الكتاب يشبهني، هو محاولة للفهم”.
في الرواية هناك العقيد المعارض علي المرابط، حرب تشاد، وادي الدوم، آدم المرابط. الرواية تسلط الضوء على الجوانب الخفية من ذلك التاريخ. وهنا توضح الكاتبة “ليست جوانب خفية، ولكنها مهملة، نعرفها ونتجاهلها، أو ربما مقدار اهتمامنا بها ينحصر في الكيفية التي نريد توظيفها بها”.

رواية "عايدون" مزيج من الواقعية والفانتازيا، تعالج مشكلة إنسانية من الواقع الليبي
وتتابع “الرواية تقدم لأبناء الجيل المولود بعد حرب تشاد: لِمَ كانت هذه الحرب، وكيف انتهت، وما الذي فعلته بالذين أُقحموا فيها. هكذا بتجرد وبوجهات نظر متعددة. هذا الجيل يفكر بشكل مستقل وفق ما رأيت، وهو على خلاف جيلنا، يكره أن يلقمه أحدهم فكرة ما بالملعقة، جيل يسأل وينتقد، نحن نتذمر لأنهم كذلك، ولكن هذه العقلية في اعتقادي هي ما ستحملنا نحو التغيير الحقيقي، التغيير الجذري الذي ظننا - أو ظن كثير منا - أنه لا يأتي إلا بانتفاضة الشارع. آدم المرابط؛ الراوي الرئيسي في هذا العمل ينتمي إلى هذا الجيل”.
تؤمن كوثر الجهمي بأن الفن الروائي يتمثل فيما معناه أن الروائي يكذب ليقول الحقيقة، أي أن الرواية كذبة صغيرة تقدم حقيقة الإنسان الكبيرة، حقيقة المجتمع وموروثه الفكري والخلطة السحرية التي شكلته. تركز الرواية على زاوية بعينها، وهي بهذا لا تقول هذا هو مجتمعنا، ولكنها تقول انظروا، هذا ركن مظلم علينا التعرف عليه عن قرب.
تقول صاحبة كتاب “حي القطط السمان” حول مواصفات القارئ المثالي “لا يمكنني الجزم. لا يمكن حتى ادّعاء اقتنائي مسطرة قياس تكشف القارئ المثالي من الرديء إن صح التعبير. ولكني أعتقد بأن القراءة تمنح القارئ بقدر ما يعطيها من وقت وذهن وقلب متفتحين. وهذا لا يمكننا قياسه بعدد الكتب، هذا أمر بين القارئ وكتابه، وحده يعرف كم منح هذا الكتاب أو ذاك، وهل أعطاه الفرصة التي يستحقها بالفهم والتفكير والنقد والتحليل؟ أم أن شغله الشاغل اقتصر على إنهائه لضمه إلى قائمة المقروء. وهل قرأ الكتاب بدافع الفضول والاكتشاف أم بدافع مواكبة لموضة ما. لا أحد هنا إلا قلب القارئ، يعرف ما يجري بينه وبين الكتاب”.
وتبين الجهمي، أن الأقلام الليبية الشابة تحمل حلما وطموحات كبيرة، والأهم من ذلك أنها تناضل كي تنتصر للكلمة في زمن أصبح فيه الإمساك بالسلاح أسهل من التمسك بالكلمة. وحجم المعرفة لا يقترن بالضرورة بصلاح الأخلاق أو سلامة الفكر. ينبغي أن تأخذنا المعرفة نحو الفهم الأعمق، وأن يقودنا هذا نحو السلام. أدعو المثقفين للنظر دوما باتجاه المستقبل والدعوة إلى ذلك، إما باستنطاق الماضي والحاضر وإطلاق صفارات الإنذار، أو – على الأقل – بنبذ تعميق الفجوات ورفض الخوض في الوحول.
المجتمع والفن والمرأة
في روايتها “عايدون” طرحت الكاتبة قضية محلية وهي عايدون المهجر. وهو اللقب الذي رافق عائلة الجد الأكبر مصطفى الكريتلي الذي هرب إلى سوريا أيام الاحتلال الإيطالي، ثم عودة العائلة إلى ليبيا بعد سنوات. هنا يمكن القول إن الرواية هي أفضل طريقة لفهم ما يحدث في المجتمعات المختلفة، ونسألها هل الرواية قادرة على كسر الحواجز؟
تجيبنا الجهمي “قد نكون طوباويين إن اعتبرنا أن الرواية وحدها تكسر الحواجز، ولكنها قد تكون - كما ذكرتِ- طريقة مثلى للفهم. أعتقد أن أفضل مسلك لعلاج مشاكل المجتمع وثغراته هو كشفها في قالب فني، أدبي بشكل خاص، قد يكون في شكل رواية. ولا أظنّ أن الرواية العربية تعجّ بمشاكل المجتمعات الشرقية عبثا، فهي صرخة احتجاج لم تجد وسيلة أكثر أمنا من الرواية كي تصل إلى أحدهم. أي أحد، المهم أن تصل”.
وترفض الجهمي أن تصنف أعمالها على أنها روايات تاريخية، وتلفت إلى أنها حين كتبت عن العايدون أو عن حرب تشاد كانت مهتمة بأصل المشكلة وبحيثياتها وبما آلت إليه الأمور بعدها، وهذا حتّم عليها الغوص في كتب التاريخ ووثائقياته لتقديم صورة موضوعية لقضية ما في قالب أدبي يمتع القارئ ويحكي له ربما عن زوايا لا يعرفها أو لا يفهمها عن تاريخ ليبيا المعاصر.
الأقلام الليبية الشابة تحمل حلما وطموحات كبيرة، والأهم من ذلك أنها تناضل كي تنتصر للكلمة في زمن أصبح فيه الإمساك بالسلاح أسهل من التمسك بالكلمة
وتستطرد “أحب الفهم والتحليل، سواء على نطاق اجتماعي أو تاريخي، أو حتى ذاتي، لهذا كتبت، بالكتابة تتضح لي الحكايا أكثر، أكتشف أثناء كتابة النص وشخصيات رواياتي أكثر، وتأخذ الأحداث شكلا غير الذي خططت له، لا أقصد الحبكة في حد ذاتها، بل الدوافع وردود الأفعال، لذا فإن إلمامي بالقالب الزمني للفترة التي تدور خلالها أحداث القصة تشكل غالبًا عمودا فقريا لا يمكنني تجاهله، فالزمن هو ما يصنع الشخصيات ويصنع لها دوافع وتبريرات، وإن تجاهلت الأحداث التاريخية فقد يؤثر هذا في مصداقية العمل، أعني من حيث الإقناع”.
غزالة وحسناء، نساء قوّيات لعبن دورًا في تحريك الأحداث في رواية “عايدون”، نسأل الكاتبة إلى أي مدى المرأة حاضرة في مواقع صناعة القرار في ليبيا؟ لتوضح “سيثور الرجال إن قلت: نعم. سيعتقدون أني نسوية متطرفة، ويأتون بالشهادات والأدلة التي تثبت فساد أمنيتي. أعتقد أن المرأة تجنح إلى السلم وتميل إلى النظام أكثر بحكم ما تربت عليه، كونها المسؤولة دائما عن نظام أسرتها وحل مشكلاتها، أو على الأقل هذا اعتقادي حتى يثبت العكس، أرجو أن نجرب إقحام النخبة الواعية من نسائنا في صناعة القرار، ولا أعني هنا طبعا صناعة القرار في المنصات التي تُمنح لها مجاملة كما نرى في توزيع الحقائب الوزارية، بل أعني مستوى يسمح لها بالمشاركة في رسم مصير هذا البلد، شرط ألا تقع تحت سلطة التخويف أو التهديد من أي طرف”.
وترى كوثر الجهمي، أنه من الضروري ترك الفرصة للقارئ لمعرفة مواطن الإسقاطات في أعمالها الروائية، باعتبار أن القراءة لعبة متعددة الأوجه. قد تكون هناك إشارات إلى الحرب أو إلى التغيرات التي بدلت وجه العاصمة، وقد تكون إشارة إلى الاغتراب، أو الإقصاء، أو غير ذلك. لا تحب إفساد اللعبة على القارئ. فليكتشف وليشبه ويتخيل بقدر ما يحلو له.