تشريع برلماني في مصر يفرض رسوما على القبور يثير استفزاز الشارع

القاهرة- أحدث مشروع قانون جديد يناقشه مجلس النواب المصري بشأن أسعار وتراخيص المقابر جدلا سياسيا واجتماعيا لأنه يحدد مبالغ ضخمة نظير الحصول على ترخيص بإنشاء مقبرة بحق الانتفاع، فيما سيكون من الصعب للغاية أن يستطيع البسطاء شراءها إذا تمت الموافقة على القانون بصورة نهائية.
وحدد مشروع القانون رسوم الانتفاع بالمقبرة بأسعار تصل إلى خمسة آلاف جنيه (نحو 175 دولارا) للمتر الواحد، وهو رقم كبير إذا قورن بالإمكانيات المادية للشريحة الأكبر من المصريين، إضافة إلى أن هذه الأسعار لا تتناسب مع الظروف القاسية التي يعيشها غالبية المواطنين جراء الأزمة الاقتصادية.
وما يثير مخاوف المصريين من تمرير مشروع القانون أن أكثر من 10 في المئة من نواب البرلمان وافقوا على تقديمه ومناقشته بشكل مبدئي، أي أنه محصّن من الطعن بعدم مشروعية فتح المداولات حول بنوده، ولا يحق للحكومة التدخل لسحبه أو تجميده، لأنها لم تشارك في إعداده أو تبادر بطرحه على المجلس.
وأصبح الغلاء يطارد المصريين أحياء وأمواتا، فالأغلبية تعاني أزمات معيشية أخفقت كل حلول الحكومة لتخفيفها من خلال مظلة الحماية الاجتماعية التي تستهدف البسطاء ومحدودي الدخل، فيما يواجه الراحلون عن الدنيا مأساة أخرى ترتبط بعجزهم عن توفير مبالغ لشراء مقابر يدفنون فيها بعد وفاتهم.
ويزعم مقدمو مشروع القانون أنهم يستهدفون القضاء على جشع أسعار المقابر واستغلال أهالي المتوفين بالمغالاة في قيمة أماكن الدفن عند البيع أو الصيانة أو عمليات الترميم، ولا بد من تدخل الدولة لتكون لها اليد العليا في تحديد مراحل شراء وترخيص المقابر والدفن.
ويعني وصول المتر الواحد في المقبرة إلى خمسة آلاف جنيه أن مكان الدفن قد يصل إلى 30 ألفا (نحو ألف دولار)، وهو رقم كبير مقارنة بالأحوال الاقتصادية للناس، فيما ترتبط المشكلة بأنه لم يضع استثناءات مرتبطة بظروف البسطاء ومحدودي الدخل وسط مخاوف من عمومية التطبيق.
ويتضمن مشروع القانون إعادة النظر في تحديد قيمة الرسوم المفروضة على كل مقبرة بصفة دورية بعد مرور ثلاث سنوات، ما يشير إلى تحريك الأسعار على فترات متقاربة، وتتولى المجالس المحلية إنشاء الجبانات (المقابر) وصيانتها وإلغاءها أو سحبها من أصحابها، حال ارتكاب مخالفات قانونية.
وترتبط مخاوف البسطاء من تمهيد البرلمان للحكومة أن تحكم قبضتها على المقابر، رغم أن العرف في معظم المناطق السكانية يقضي بإنشاء مقابر في مناطق زراعية أو صحراوية خالية من السكان، وبشكل مجاني أو بمقابل رمزي، مراعاة لأحوال الناس، لكن كل شيء سوف يصبح تحت هيمنة الحكومة.
واعتادت الحكومة فرض جباية (ضرائب) على المصريين في كل أمور حياتهم، كأحد حلول الخروج من الأزمة الاقتصادية دون تفرقة بين البسطاء والمقتدرين، حتى وصل الأمر حد التفكير في فرض جباية جديدة على المقابر، ما أثار التذمر والسخرية بين قطاعات واسعة بسبب الإصرار على تحميل الناس فوق طاقاتهم أحياء وأمواتا.
ويعتقد متابعون أن تحرك البرلمان لفرض جباية جديدة على أهالي الموتى يتناغم مع توجهات الحكومة التي صارت تعول على صمت الشارع لمضاعفة الأعباء المالية الواقعة عليهم، إذ يصعب سن تشريع جديد بفرض رسوما كبيرة من دون تنسيق مسبق مع بعض الدوائر الرسمية، كي تبدو الحكومة بعيدة عن المشهد.
وقال سعيد صادق أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة إن مناقشة مشروعات قوانين برسوم جديدة على المصريين يعكس افتقاد البرلمان للحس السياسي لأن الناس أصبحوا يعيشون حالة تذمر غير مسبوقة، والتوجه نحو إقرار رسوم جديدة مبالغ فيها حاليا توجه مستفز للشريحة السكانية الأكبر.
وأضاف لـ”العرب” أن اللعب على وتر صمت المصريين وصبرهم مجازفة سياسية، لأنهم يتحملون الكثير من المتاعب من أجل استمرار الاستقرار، لكن فرض المزيد من الضغوط في توقيت بالغ الحساسية يغذّي الاحتقان ويزيد من تعقيد المشهد العام، لأنّ غياب الكياسة التشريعية ليس في صالح أيّ طرف.
والمفارقة أن مجلس الشيوخ وافق على مقترح إنشاء مقابر للعظماء (كبار المشاهير من الأدباء والمثقفين ونجوم الفن..) بالعاصمة الإدارية الجديدة في شمال شرق القاهرة التي سوف تصبح المقر الرئيس للحكم بمصر، ما يعكس ازدواجية الحكومة بين تعظيم شخصيات بعينها وتكريمها بعد وفاتها وتحميل باقي الفئات مبالغ ضخمة نظير دفنها.
وتحجج النواب بأن إنشاء مقبرة العظماء يعطي صورة إيجابية عن الدولة بأنها تحترم وتقدر الشخصيات المؤثرة التي قدمت إنجازاتها لوطنها وأثرت فيهم، بالتالي من الضروري أن تحافظ لهؤلاء على حقهم الأدبي والمعنوي وتكرمهم بعد الوفاة بلا تحديد هوية الشخصيات العظيمة التي سوف يتم دفنها في هذه المقبرة.
ولا تجد الحكومة غضاضة في هدم مقابر قديمة لها قيمة عند المصريين إذا اعترضوا على إنشاء محاور مرورية جديدة بدعوى أن هذه المناطق ستؤول إلى المنفعة العامة للدولة، ما جعل الكثير من رافضي رسوم المقابر يقارنون بين تصرف الحكومة في العبث برفات الموتى وعقوبات البرلمان لنبش القبور.
ويتضمن مشروع القانون عقوبات مالية كبيرة لنبش المقابر لدرجة بلغت فرض رسوم على القائمين بعمليات الدفن (التربي) وإصدار تراخيص لهم، مع أن الكثير من المصريين يقومون بدفن موتاهم مع الأقارب بنفس المقبرة لحل أزمة نقص الأماكن المخصصة للدفن.
ويبدو التحرّك البرلماني المرتبط بتنظيم الدفن محاولة غير تقليدية من مجلس النواب لتحصيل مبالغ مالية من بند جماهيري لم يتمّ الاقتراب منه لاستنفاد كل طرق الجباية على الخدمات الحكومية التقليدية، لأنّ بنود مشروع القانون حوت غرامات ورسوما ضخمة، وبدلا من وجود دخلاء يتاجرون بمعاناة الناس الراغبين في الدفن أصبحت الحكومة هي التاجر الحقيقي.