المتصوفة اليهود منحوا الصوت أهمية أعمق من رؤى النور

جرشوم شوليم: العالم السري للألوهية هو عالم من اللغة.
الأحد 2023/02/05
اللغة أهم شيء عند المتصوفة اليهود

قدمت التيارات الصوفية في مختلف الأديان قراءات متعددة للدين وفهما مختلفا له يتجاوز التصورات التقليدية. هي تصورات تنفذ إلى العمق الوجودي من طرق أكثر تناسبا مع تجربة الإنسان الفكرية والروحية في آن واحد. وهذا ما جعلها تدخل في صراعات مريرة مع التقليديين، ولعل القبّاليين، وهم الصوفيون اليهود، من أبرز هذه الحركات الصوفية لكنها تبقى، على عكس الصوفية الإسلامية، مجهولة بشكل كبير.

القبّالة “التقليد” حرفيا، أي تقليد الأشياء الإلهية، وهي مجموع التصوف اليهودي، وقد كان لها تاريخ طويل، ومارست تأثيرا عميقا لمدة قرون، على أولئك الذين كانوا حريصين، من بين الشعب اليهودي، على اكتساب فهم أعمق للأشكال والمفاهيم التقليدية اليهودية. وتم تخزين إنتاج القباليين الأدبي الذي كان أكثر غزارة في فترات زمنية، منه في مراحل أخرى، تم تخزينه في كم هائل من الكتب التي يعود الكثير منها إلى أواخر العصور الوسطى.

وهذا الكتاب “في القبّالة ورمزيتها” للفيلسوف والمؤرخ الإسرائيلي الألماني المولد جرشوم شوليم، والذي ترجمه الأكاديمي عبدالقادر مرزاق وراجعه أحمد مرزاق، وصدر عن منشورات الجمل، يسلط الضوء على تاريخ التصوف اليهودي وعلاقته بالتوراة والأسطورة والسلطة الدينية التقليدية، والاتجاهات الرئيسية، وتقليد وإبداع طقوس القباليين وفكرة الجوليم، موضحا أن التصوف اليهودي هو مجموع المحاولات التي بذلت لوضع تأويل صوفي لمضمون اليهودية الحاخامية كما تبلور في فترة الهيكل الثاني وبعدها.

الصوفية والنبوة

"في القبّالة ورمزيتها" كتاب يسلط الضوء على تاريخ التصوف اليهودي وعلاقته بالتوراة والأسطورة والسلطة الدينية التقليدية
"في القبّالة ورمزيتها" كتاب يسلط الضوء على تاريخ التصوف اليهودي وعلاقته بالتوراة والأسطورة والسلطة الدينية التقليدية

يكشف شوليم الذي يعتبر على نطاق واسع مؤسس الدراسة الأكاديمية الحديثة للقبالة، وأول أستاذ للتصوف اليهودي بالجامعة العبرية في القدس، عن أن العمل الأدبي للقبّالة، “الزوهار”، أو “كتاب الإشراق”، قد تم تبجيله على نطاق واسع باعتباره نصا مقدسا ذا قيمة لا ريب فيها، ومازال يتمتع بهذا التقدير لدى الجماعات اليهودية إلى يومنا هذا. وعندما أصبحت إسرائيل دولة مستقلة، هاجر إليها يهود اليمن، وقد اضطر هؤلاء إلى التخلي عن جميع ممتلكاتهم تقريبا إلا شيئا واحدا لازمت رغبة اصطحابه العديد منهم، ذلك هو نسختهم من “الزوهار”.

ويرى شوليم أن هذا العالم قد ضاع بالنسبة إلى يهود أوروبا، وإلى حدود جيلنا، لم يظهر طلبة التاريخ اليهودي إلا قليلا من الفهم لوثائق القبّالة، وتجاهلوها تجاهلا يكاد يكون تماما. وفي أواخر القرن الثامن عشر، حينما تحول اليهود في أوروبا بحزم إلى الثقافة الأوروبية، كانت القبّالة أول عناصر تراثهم وأهمها، هو الذي تمت التضحية به. فالتصوف اليهودي برمزيته المعقدة والمنطوية قد أصبح يعتقد أنه غريب ومزعج، وسرعان ما نسي. وقد حاول القبّاليون اختراق سر العالم ووصفه باعتباره انعكاسا لأسرار الحياة الإلهية.

إن الصور التي تبلورت تجاربهم داخلها كانت معنية بعمق بالتجربة التاريخية للشعب اليهودي، والتي بدا أنها فقدت أهميتها في القرن الـ19، فقد كانت القبّالة على مدى قرون حيوية في فهم اليهود أنفسهم. أما الآن فقد اختفت تحت صخب الحياة الحديثة إلى درجة أن أجيالا كاملة تكاد لا تفهم منها شيئا. فما تبقى يشبه ميدانا متراكم الأنقاض، حيث يفاجأ أحيانا متعلم عابر، أو يصدم، ببعض صور غريبة من المقدس، مطاردة، أو منفرة، للفكرة.

يبدو إذن أن المفتاح لفهم الكتب القبالة قد فقد، فكان العلماء حيارى ومحرجين من هذا العالم، فبدل أن يضعوا بين يديه مفاهيم بسيطة وواضحة يمكن تطويرها، قد قدموا له رموزا شديدة الخصوصية، حيث كانت التجربة الروحية للمتصوفة متشابكة بشكل معقد مع التجربة التاريخية للشعب اليهودي.

ويقول شوليم “عندما برز القباليون الأول على مسرح التاريخ اليهودي، في ‘لانغدوك’ ـ مقاطعة فرنسية سابقة ـ في نهاية القرن الـ12، لم يزعموا أنهم تحدثوا إلى الإله مباشرة، وقد اتخذوا موقفا وسطا. فمن ناحية، كانوا يرغبون في توصيل شيء من الواضح أنه لم يأتهم عبر القنوات التقليدية والمقبولة عموما. ولكن، من ناحية ثانية، لم يستطيعوا أن يطالبوا، لكنهم يهود أرثوذوكس، لتجربتهم الصوفية الخاصة بالمنزل نفسها التي يضمرونها للسلطة الدينية لليهودية. فكل الديانات التوحيدية تمتلك تصورا متميزا، يمكن للمرء أن يسميه فلسفة تاريخها الخاص”.

شوليم يرى أن التصورات القبالية عن الطبيعة تستند إلى حقيقة أن التوراة على ثلاثة مبادئ أساسية وليست مرتبطة بالضرورة

ويرى أن وفق هذا الرأي، فإن الوحي المعبر عن مضامين الدين الأساسية، هو الأعظم، وهو الأعلى منزلة، وكل شيء يعقبه هو دونه منزلة وأقل منه حجية. ويحول هذا التصور بين أي مؤمن حقيقي، وبين أن يجعل أي كشف جديد في المستوى نفسه مع الوحي الأعظم من الماضي، وواضح أن هذا ما يخلق مشكلة حقيقية أمام الصوفي، ذلك أنه ينسب إلى تجربته الغضة الحية قيمة هائلة. وقد اقتضت هذه الوضعية الحلول التوفيقية المرددة في المصطلحية الدينية حتما.

ويتابع “في اليهودية الحاخامية، ومنها تنامى التصوف القبّالي، تم الاعتراف بأعداد مختلفة من الوحي بأنها أصيلة، وبأن كل واحد منها ذو سلطة بطريقته الخاصة، وتلك هي: وحي موسى، والأنبياء، والروح القدس (الذي تحدث في مؤلفي المزامير وأجزاء أخرى من الكتاب المقدس)، ومستقبلو ‘الصوت السماوي’ (الصوت يعتقد أنه كان مسموعا في العصر التلمودي)، وأخيرا ‘وحي النبي إيليا’. وتمثل كل مرحلة من هذه المراحل درجة أقل من السلطة من المرحلة السابقة عليها”.

ويذكر شوليم أن “المبدأ لا يزال ساري المفعول، فكل جيل لا يدعي سوى مستوى معين من الخبرة، ولكن الصوفيين لا يزالون قادرين على خلق مكان لتجربتهم داخل الإطار التقليدي، بشرط أن يجعلوا حده وفقا لهذا السلم التنازلي للقيم. لهذا السبب، لم يدع القباليون لأنفسهم منزلة تبدو متواضعة جدا (قياسا إلى منزلة) ‘مستقبلي وحي النبي إيليا’. وينبغي أن يوضع في الاعتبار أن عامل التدقيق كان في غاية الأهمية في هذه التجربة وأن العامل البصري ثانوي فحسب، منح المتصوفة اليهودية سماع الصوت أهمية أكثر بكثير من رؤى النور، وذلك بسبب أنهم في المقام الأول، تحت تأثير النظرية الصوفية عن النبوة”.

صراع مع السلطة التقليدية

جرشوم شوليم: القبّاليون حاولوا اختراق سر العالم
جرشوم شوليم: القبّاليون حاولوا اختراق سر العالم

يرى شوليم أن منذ بدايات اليهودية الحاخامية، فإن النبي إيليا كان شخصية محددة بعمق مع الانشغالات المركزية لليهود: فهو الذي يحمل الرسالة الإلهية من جيل إلى جيل، وهو من سيوفق، في آخر الزمان، بين جميع الآراء المتضاربة، والتقاليد، والعقائد المتجلية في اليهودية، فالرجال الأتقياء حقا الذين يلتقون به في السوق، ليسوا بأقل من أصحاب الرؤى. ولأنه كان ينظر إليه على أنه حارس المثل الديني اليهودي الأمين، والوصي وضامن التقاليد، كان من المستحيل أن نفترض أنه أفصح يوما ما عن أي شيء كان في تناقض جوهري مع التقاليد، أو بلغه.

وهكذا فإن تفسير التجربة الصوفية بطبيعتها نفسها، باعتبارها كشفا حصل من وحي النبي إيليا، يميل إلى تأكيد السلطة التقليدية أكثر من التشكيك فيها. ومن المهم للغاية أن أول قبالي قال إنه قد بلغ هذه المنزلة، هو الحاخام إبراهيم بن داود من بوسكيريس، وابنه إسحاق المكفوف. كان إبراهيم بن داود السلطة الحاخامية الأعظم من جيله في جنوب فرنسا، رجل متأصل بعمق في التعلم والثقافة التلمودية. ولكنه كان متصوفا في الوقت نفسه، وصاغ تجربته في عبارات محافظة بشكل بين. وحكى هو نفسه في كتاباته أن الروح القدس ظهر له في حجرة دراسته. ولكن القباليين قالوا إن النبي إيليا هو الذي ظهر له.

ويلفت إلى أن هذا التفسير وحده يمكن أن يكفل عدم نشوء أي صراع بين معارف الحاخام التقليدية، وترجمة تجربته الصوفية إلى مفاهيم جديدة، وعندما واصل الابن المتأمل الصوفي الخالص، طريق أبيه التصوفي دون إدعاء أي تفوق بارز في السلطة الحاخامية، فقد أثير الإدعاء نفسه بالنسبة إليه. وكانت النظريات التي صاغها هو ومدرسته ينظر إليها على أنها الإتمام الشرعي للعقيدة الحاخامية التي كان أتباعها بمنأى عن أي خطر وأي صراع مع السلطة التقليدية. ولكن القوى الهائلة التي كانت تعمل في هذا التصوف، والرموز التي بها تم تبليغ الكشف الجديد، تزيل اللثام عن صراع كثيف مع السلطة التقليدية، إلا أنه غير ضار قطعا.

ويضيف شوليم “كان هذا منذ بدء القبالة، وسيتم تحقيق الظاهرة نفسها مع وجه مركزي من وجوه تطورها اللاحق. ذلك هو إسحاق لوريا في القرن الـ16، فلوريا يمثل كلا جانبي التصوف في تطورهما الأكمل. وكان موقفه كله محافظا تماما، فهو يقبل تماما السلطة الدينية الراهنة التي تعهد بتعزيزها فعلا، وذلك من خلال تحسين أهميتها، وإعطائها معنى أعمق. ومع ذلك فإن الأفكار التي استخدمها في هذه المهمة المحافظة على ما يبدو، كانت جديدة تماما، وتبدو جريئة بشكل مضاعف في سياقها المحافظ، إلا أنها وبكل جدتها الصارخة تلك، لم ينظر إليها على أنها شق لعصا الطاعة على السلطة التقليدية”.

ويتابع “ما جعل ذلك ممكنا، كون سلطة النبي إيليا نسبت لها، وهو إدعاء كان معترفا به بشكل واسع بفضل شخصية لوريا التقية، والمثيرة للإعجاب. وهكذا أصبح مصدر الإلهام لسلطة لوريا سلطة جديدة في ذاتها. ولكن رغم تعريفها ضمن أصناف السلطة التقليدية، فإن السلطة الجديدة، قد أحدثت تغييرات عميقة في اليهودية، حتى عندما ادعى أنصارها أنهم لم يقوموا بشيء من هذا القبيل. ووفقا للرأي السائد بأن أي وحي جديد هو أقل مرتبة من سابقه، فإن لوريا كان متكتما في ما يتعلق بمصدر إلهامه. ولكن هذا التحفظ لا ينبغي أن يضللنا. فالتجربة الصوفية التي كانت مصدره لا تزال أصيلة مثل أي قرينة لها، ولا تزال ذات منزلة عالية مثل أي ظاهرة سابقة في عالم اليهودية الحاخامية”.

اللغة الإلهية

Thumbnail

يلاحظ شوليم أن العملية التي وصفها القباليون بأنها تجلي الطاقة المقدسة، والنور الإلهي تتميز بأنها لغة الإله المتفتحة. وقاد هذا الأمر إلى بزوغ تواز عميق الجذور بين ضربي الرمزية الأكثر أهمية والمستخدمين من لدن القباليين لإيصال أفكارهم. فهم يتحدثون عن الصفات، وعن دوائر النور. ولكنهم يتحدثون، في السياق نفسه عن أسماء الإله، وعن الحروف التي تتألف منها.

ومنذ البدايات الأولى للعقيدة القبالية وهذان الضربان من الكلام يظهران جنبا إلى جنب. فالعالم السري للألوهية هو عالم من اللغة، عالم الأسماء المقدسة التي تنكشف وفقا لقانون خاص بها. إن عناصر اللغة الإلهية تظهر مثل حروف الكتب المقدسة. فالحروف والأسماء ليست مجرد وسائل اتصال تقليدية، وإنما هي أكبر من ذلك بكثير. فكل واحد منها يمثل تجميعا للقوة، ويعبر عن بسطة في المعنى لا يمكن ترجمتها إلى لغة بشرية، أو ترجمتها كاملة على الأقل.

التصوف اليهودي برمزيته المعقدة والمنطوية على نفسها وخصوصياتها قد أصبح يعتقد أنه غريب ومزعج وسرعان ما نسي

ويوضح أن هناك تباينين بين الرمزين. فعندما يتحدث القباليون عن الصفات الإلهية وعن التجليات النورانية العشرة “سفيروث”، فهم يصفون العالم الخفي تحت عشرة جوانب، وعندما يتحدثون من ناحية أخرى عن الأسماء والحروف الإلهية، فإنهم يتعاملون بالضرورة مع الاثنين وعشرين صامتا من الأبجدية العبرية، وهي التي كتبت بها التوراة، أو التي جُعل فيها جوهرها السري قابلا للتبليغ. وقد طرحت عدة طرق لمعالجة هذا التناقض الصارخ. وكان أحد التفسيرات “مادامت الحروف و”سفيروث” تشكيلين مختلفين للقوة الإلهية، فلا يمكن أن يختزلا إلى هوية آلية.

ويضيف “إن ما هو مهم بالنسبة إلى أهدافنا الحالية هو التشبيه بين الخلق والوحي، وهو ناجم عن التوازي بين التجليات النورانية العشرة، واللغة الإلهية. إن عملية الخلق التي تنتقل من مرحلة إلى أخرى، وتنعكس في عوالم خارج إلهية وبالطبع في الطبيعة كذلك، لا تختلف بالضرورة عن العملية التي تجد تعبيرها في الكلمات الإلهية وفي وثائق الوحي، وهي ما يعتقد أن اللغة الإلهية قد انعكست فيها. إن هناك علاقة ضرورية بين المعنى الصوفي للتوراة والافتراضات المتعلقة بجوهرها الإلهي. والقباليون لا يبدأون من فكرة المعنى القابل للتبليغ. فالتوراة تعني شيئا بالنسبة إلينا بالطبع. وهي تبلغ أمرا ما باللغة البشرية، ولكن هذا إن هو إلا الوجه الأكثر سطحية فقط، من بين مختلف الوجوه التي يمكن أن يكون معتبرا من بينها”.

ويرى شوليم أن التصورات القبالية عن الطبيعة تستند إلى حقيقة أن التوراة على ثلاثة مبادئ أساسية وليست مرتبطة بالضرورة، رغم أنها تظهر غالبا ما تظهر سوية في نصوصنا، ولكن ليس من الصعب إمكانية إقامة علاقة بينها، ويمكن تحديد هذه المبادئ في: أولا مبدأ اسم الإله. ثانيا مبدأ التوراة باعتبارها كلا عضويا. ثالثا مبدأ المعنى اللانهائي للكلمة الإلهية. وليس لهذه المبادئ الأصل نفسه، تاريخيا، ويفترض نفسيا أيضا.

10