الوعاء النقابي في الجزائر.. بركان قد يخمد لكنه لا يموت

إلى غاية الحكومة الأخيرة من حكومات الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، التي كان يقودها رئيس الوزراء المسجون أحمد أويحيى، كان التقليد السائد هو إجراء حوار موسمي، ولو شكليا، مع الشركاء الاجتماعيين يسبق كل إجراء اجتماعي بغية امتصاص المطالب المرفوعة من طرف الطبقة العاملة وتطويقها، لكن التوجه الجديد للسلطة حاليا يعمل على تجاوز هؤلاء الوسطاء والإعلان من طرف واحد عن مختلف الإجراءات الاجتماعية والمهنية.
ومنذ تنصيبه في قصر المرادية نهاية العام 2019، لم يحدث أن التقى الرئيس عبدالمجيد تبون بالشركاء الاجتماعيين ورموز الجبهة الاجتماعية بغرض التشاور حول الوضع الذي تعيشه الجبهة الاجتماعية، خاصة وأن البلاد مرت خلال السنوات الأخيرة بظروف صعبة ومعقدة نتيجة عدم الاستقرار السياسي والأزمة الاقتصادية ثم تداعيات جائحة كورونا وقرار الإغلاق الوقائي الشامل لعدة شهور.
ويبدو أن السلطة الجديدة التي بنت أضلاعها على المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني بصدد مراجعة التقاليد السياسية الموروثة وتصميم مشهد جديد بعيدا عن الطبقة السياسية والنقابات العمالية الموروثة، حتى ولو كانت من المعسكر الذي لا يغرّد خارج سربها، وهو ما تأكد من خلال توجه الحزمة الاجتماعية للرئيس تبون إلى الفئات العمالية والاجتماعية دون المرور عبر الشركاء الاجتماعيين.
ومنذ تنصيبه توجّه خطاب تبون بشكل مباشر إلى الجبهة الاجتماعية، فأعلن تدريجيا عن زيادات في الرواتب ومنحة للعاطلين عن العمل، وتحسين معاشات المتقاعدين، وهي قرارات كانت تتخذ في الغالب في حوارات موسمية بين الحكومة والشركاء الاجتماعيين، وهي خطوة تنمّ أيضا عن نية السلطة التخلص من الإرث السياسي والاجتماعي الذي كان ينازع الرجل الأول في الدولة صلاحياته ومهامه.
لكن إذا كانت السلطة قد وفّقت إلى حد الآن في تحييد الطبقة السياسية، فحتى ما يعرف بأحزاب الموالاة لم تعد تؤدي دور ورسالة الولاء للسلطة رغم المحطات والمواعيد التي تمر بها البلاد واكتفت بدور ملء فراغ المؤسسات المنتخبة، فإن تجاهل الشركاء الاجتماعيين طيلة السنوات الأخيرة، وإلغاء ما كان يعرف باجتماعات “الثلاثية”، التي كانت تجمع الحكومة والنقابات وتنظيمات رجال الأعمال، قد حيد جبهة أخرى، لكن ليس للأبد على ما يبدو.
يبدو الرأي الداعي إلى إحالة مشروع قانون حق الإضراب والعمل النقابي، على المزيد من التشاور مع الشركاء الاجتماعيين، مقاربة حكيمة تدرك مخاطر المجازفة التي بادرت بها الحكومة
وجاءت فرصة مشروع قانون حق الإضراب والنقابات الجديد، ليؤكد أن الرماد لم يخمد تماما كما قد تعتقد السلطة، فقد رفع نقابيون وسياسيون أصواتهم عاليا لكسر الصمت والدفاع عن آخر معاقل الديمقراطية والحقوق المكتسبة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وهو ما تكون قد استشرفته السلطة بإرجاء طرح القانون إلى موعد لاحق.
ويبدو أن الحكومة التي تريد تحييد الجبهات التقليدية، بالتخطيط للقضاء على آخر معاقل الصداع الاجتماعي والسياسي عبر توسيع خارطة حظر الإضراب وإفراغ العمل النقابي من أبعاده النضالية والسياسية، لا تريد المجازفة باستفزاز بركان ظهر أنه خامد ولم يمت تماما، لأنها تعلم أنه يمكن احتواء ذرائع الطبقة الحزبية، لكنها لا تستطيع ذلك مع الجبهة الاجتماعية، فالغالب أن التعاطف الشعبي يكون دائما مع الطبقات المتوسطة والضعيفة مهما كانت وجاهة الطروحات الحكومية.
ورغم أن الأصوات المرتفعة تبقى معزولة قياسا بالزخم الشعبي الذي كانت النقابات قادرة على تعبئته، إلا أنه يعتبر جرس إنذار للحكومة من مغبة الاستمرار في تحييد الأضلع الطبيعية لأي نظام ديمقراطي على غرار المعارضة السياسية والنقابات والجمعيات والإعلام.
ومازالت الذاكرة الجزائرية تحتفظ بدور الفروع النقابية بالمنطقة الصناعية الواقعة شرق العاصمة في تعبئة الطبقة العمالية للقيام بإضرابات واحتجاجات ساهمت في اندلاع الانتفاضة الشعبية (أكتوبر 1988)، رغم أن البلاد كانت تحت قبضة الأحادية السياسية والنقابية والإعلامية، ورغم ذلك كان الصوت النقابي فاعلا أساسيا في صياغة الرأي العام العمالي والمساهمة في قيادة البلاد إلى مسارات معينة.
ولذلك يبدو الرأي الداعي إلى إحالة مشروع قانون حق الإضراب والعمل النقابي، على المزيد من التشاور مع الشركاء الاجتماعيين، مقاربة حكيمة تدرك مخاطر المجازفة التي بادرت بها الحكومة، وتقدر التداعيات التي يمكن أن تثيرها أي صياغة للجبهة الاجتماعية، لأن الطبقات الوسطى والضعيفة عادة ما تكون وعاء لثورات أطاحت بأعتى الأنظمة السياسية، حتى في ذروة عزلة اليسار التقليدي.
صحيح أن السلطة ورثت وضعا موبوءا انصهر فيه الفساد المالي بالسياسي، وشاعت الرشوة السياسية في المجتمع أفقيا وعموديا، مما انعكس على أداء المؤسسات الرسمية والسلطة بشكل عام، لكن ذلك لا يمكن أن يكون ذريعة لإرساء مناخ اختنقت فيه حتى الأحزاب المجبولة على الوفاء والولاء للسلطة، والأجدر كان وضع الآليات الحقيقية لغربلة وتصفية المناخ المذكور والسماح بظهور طبقة سياسية ونقابية وإعلامية وأهلية، مهما كانت مواقفها ومشاربها فإنها ستكون إضافة حقيقية للدولة.