المؤسسات الثقافية العربية كثيرة فلماذا لا تقوم بدورها

المثقفون العرب: المؤسسات الثقافية صوت للسياسة وواجهة لتلميع صورتها.
الخميس 2023/01/26
مؤسسات الثقافة ليست مجرد مبان

لا أحد ينكر تعدد المؤسسات الثقافية العربية من المحيط إلى الخليج، كثير منها مرتبط بالدولة ومؤسساتها وبعضها خاص أو أهلي وآخر له صبغة دولية وهناك حتى المؤسسات الأجنبية، ورغم هذا التعدد والتنوع فإن الدور الثقافي لهذه المؤسسات منقوص في مقاومة خطابات الكراهية والعنف وبث خطاب تنويري، علاوة على دعم المنتجات الثقافية العربية، وهذا ما تطرقت إليه “العرب” مع عدد من المثقفين العرب.

يبدو أن اضطراب المشهد العربي في الكثير من مستوياته خاصة السياسية يلقي بظلال قاتمة على فعالية وتأثير دور المؤسسات الثقافية في تحقيق التواصل المطلوب بين مثقفي ومبدعي ومتلقي المجتمعات العربية، وهو الأمر الذي يتجلى واضحا في المشهد الثقافي العربي، حيث الانحيازات والمواقف المتشددة والاتهامات العشوائية التي قادت بافتقارها إلى المسؤولية اختلالات عميقة تحول دون استفادة المجتمعات العربية بحراك مثقفيها وفنانيها.

وفي هذا التحقيق طرحت الـ”العرب” على عدد من المثقفين العرب سؤالا حول الدور الراهن للمؤسسات الثقافية العربية بشكل عام وفي مجال تحقيق التواصل الثقافي بين مجتمعاتنا العربية بشكل خاص، بحثا عن إضاءة كاشفة عما يحدث لهذا الدور.

أدوار متعثرة

يقول الروائي والناقد السوري نبيل سليمان “عند أدنى تأمل في دور المؤسسات الثقافية العربية يسوطك أن هذا الدور ما فتئ يتآكل وينقلب رأسا على عقب، جيلا بعد جيل، منذ أخذت السلطة تبلع الأدوار جميعا في سياق ابتلاع المجتمع والدولة. وأحسب أن الأمر بدأ منذ دشن الانقلاب العسكري الأول في سوريا عام 1949 المرحلة التالية من الانقلابات العسكرية التي تسمى بالثورة زورا وبهتانا غالبا، كما في ثورة الثامن من فبراير في العراق أو الثامن من مارس في سوريا أو الأول من سبتمبر في ليبيا”.

ويضيف “بالطبع، توازى الابتلاع مع ابتداع المؤسسات الثقافية لهذا الانقلاب أو تلك الثورة فمن تأميم الصحافة إلى الصحف الجديدة، ومن المثقف التنويري إلى المثقف الثوري، أعني المثقف التابع لمغتصب بعد مغتصب لكلمة الثورة. وليس أمر روابط أو اتحادات الكتاب أو الفنانين بأفضل، وقس على ذلك ما شئت من المؤسسات الثقافية العربية”.

بوكس

ويتابع “بين المثقفين من هو بمثابة مؤسسة: إدوارد سعيد أو أدونيس أو محمد عبدالجابري مثلا. والأمر يختلف غالبا، أو كثيرا، مع مثل هذا المثقف/ المؤسسة، حتى في زماننا العجيب والرهيب. فمثل هؤلاء، أو مثل مجلة الآداب أو مركز الوحدة العربية أو مجلة علامات المغربية، كانت، ومنها الذي لا يزال، ترسل شعاعا مهما يكن من محدوديته أمام كتامة الظلام العربي. إنه شعاع العقل، شعاع التنوير، شعاع الفكر النقدي والكتابة النقدية، شعاع الاستقلالية والنزاهة الذي يتأبى على ما تقيم الأنظمة البيروقراطية الدكتاتورية الأوليغارشية والمتبرقعة بالحداثة وما بعدها، ومن السدود بين بلد وآخر، كما بصدد توزيع الكتاب العربي، حيث الاتجار بالمخدرات والسلاح أسهل. على مثل ذلك الشعاع يقوم رهان المستقبل، وبعون ما بلغته وسائل التواصل والميديا وما شاكل ذلك، مهما يكن من قدرة وسطوة من يطورون وسائل المنع والقمع القديمة، والانتقال بها إلى زمن العولمة والحداثة”.

ويؤكد الناقد والأكاديمي المغربي إسماعيل البويحياوي أن سؤال الدور الراهن للمؤسسات الثقافية العربية بشكل عام وفي مجال تحقيق التواصل الثقافي بين مجتمعاتنا العربية، يضع الإصبع على قضية جوهرية من قضايا الراهن الثقافي، ويستدعي مفهومين: أولهما العالم والأديب الذي كان، قديما، يعيش على عطاء الحاكم، وتابعا له، أو مهادنا للسلطة اتقاء لشرورها ومضايقاتها، ثانيهما المثقف المعاصر الوافد إلينا من الثقافة الغربية بمعانيه المتعددة.

ويضيف “تتعدد أشكال المؤسسات الثقافية في مجتمعنا العربي وتتنوع، وتقوم بينها وبين النظام السياسي، والطبقة الحاكمة، والحزب علاقة ارتباط وتبعية. وهنا نجد المؤسسة الثقافية صوتا للسياسة، أو واجهة لتلميع صورتها وممارساتها. علاوة على وجود مؤسسات ثقافية غير تابعة وتناضل لخدمة قضايا الأمة الكبرى، وحاجاتها التربوية والعلمية والمعرفية، لكن جلها يعاني العوز المادي وقلة الإمكانيات. وهناك مؤسسات أخرى تستفيد من التمويل الزهيد الذي تقتطعه الدولة من المال العام لصالح المؤسسة الثقافية”.

ويشدد على أنه “يجب الإشارة إلى تمويلات خارجية مصدرها منظمات ومؤسسات وجمعيات تتخذ الثقافي والعلمي مطية لأهداف غير ثقافية وغير علمية بالمعنى الخالص للكلمة. وتهدف إلى خلق صورة جذابة لها في المجتمع أو تهيئته لتقبل ثقافتها، وأفكارها، وسلعتها وهيمنتها في مجتمعنا المعاصر الليبرالي الاستهلاكي والمتوحش. نحن بحاجة إلى مثقفين وطنيين يشكلون ضمير الأمة الحي، بحاجة إلى مؤسسات وطنية ذات إستراتيجيات ثقافية غايتها خدمة الأمة، وتحقيق النمو، ومحاربة الفكر الظلامي الهدام، ونشر الوعي النقدي والإبداع دون الانغماس في أيديولوجيا الخارج والنظام والحزب. علينا محاربة ثقافة الاستهلاك والتفاهة، والتطرف والعمل على تقوية الشرط الإنساني، وقيم الحب والخير والعدالة والمحبة وتنمية الذوق والفنون والجماليات الراقية”.

بوكس

ويرى الناقد السوري عزت عمر أن بالرغم من كثرة المؤسسات الثقافية الحكومية والأهلية الاجتماعية في البلدان العربية، إلا أنها في الغالب تتعثر في أداء الدور المطلوب منها على صعيد التواصل والتفاعل الثقافي العربي، ويظن أن هذا التعثر يعود بالدرجة الأولى إلى الخلافات السياسية بين الحكومات العربية التي تدرك أن الثقافات توحد ولا تتصارع، بمعنى أنها لا تنصاع لرغبات السياسي. ومن جانب ثان إلى العاملين في هذه المؤسسات الذين قد لا يستوعبون إستراتيجية المؤسسة الثقافية التي يعملون بها، لأجل تعزيز التواصل والانفتاح على الثقافات العربية الإنسانية، إذ إن الأمزجة والمواقف والحساسيات الشخصية والشللية تساهم في الغالب في تكريس المكرس والمتاح بالحد الأدنى لتحقيق خطط النشاط التي، مع الأسف، تأخذ صيغا إعلانية استعراضية في وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل.

ويضيف “أظن أن هذا هو الغالب في علاقات العاملين في المؤسسات المعنية مع الحراك الثقافي في المشهد العربي مع استثناءات قليلة، أخشى أن شهادتي فيها مجروحة كما يقال، بطبيعة الحال كان يمكن لهذه الحكومات ومؤسساتها، وبما يخصص لها من ميزانيات، وبما تعززه من مشاعر وقيم رفيعة إزاء ارتقاء الثقافة العربية، أن تجتاز كل هذه المعوقات، فترتقي بذاتها وبمجتمعاتها وبالثقافة العربية إلى ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة المتحضرة بين الأمم المتقدمة الأخرى”.

علاقات منقوصة

يبين الناقد المسرحي السوداني عصام أبوالقاسم أنه لا يمكن الحكم على تجارب جميع المؤسسات الثقافية في البلاد العربية، ويتابع “لكن بالنظر إلى الحال في السودان، وبالتركيز على المؤسسات الثقافية الرسمية فيمكنني القول إنها شبه عاطلة. هناك وزارة ثقافة وهنالك وحدات عدة تابعة لها يفترض فيها أن تخدم قطاعات الموسيقى والتشكيل والمسرح والسرد.. إلخ، ولكنها لا تفعل ذلك. ومن هنا.. تجد أن معظم النشاط الثقافي في الخرطوم حاليا يصدر عن مؤسسات ثقافية أجنبية (المركز الثقافي الفرنسي والمركز الثقافي الألماني.. إلخ) أو يصدر عن مؤسسات ثقافية أهلية مثل مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي ومركز الدراسات السودانية. وهذه المراكز الأهلية برغم حرصها على خلق حالة تواصل مع المجتمع الثقافي، إلا أنها تعاني من ضآلة إمكاناتها المادية ومن القوانين المقيدة”.

بوكس

ويضيف “هذا الحال يعاكس ما كان عليه الأمر في عقود خلت، حين كانت المؤسسات الثقافية الرسمية السودانية تملك الإرادة والخيال للوصول إلى الناس والتواصل مع المجتمعات المحلية في أبعد نقطة من جغرافية البلاد، عبر عروض السينما الجوالة ومن خلال الأعمال المسرحية والأسابيع الثقافية التي تقام في القرى والضواحي ومسابقات المواهب التي تستكشف الطاقات الجديدة وترعاها.. إلخ. صحيح كان ذلك يحصل لأهداف أيديولوجية غالبا، لكنه كان أقل سوءا مما هو الحال الآن”.

ويتمنى أبوالقاسم أن يكون في وسع مؤسسات الثقافة العربية الرسمية والأهلية أن تنتج وترعى وتؤسس لعلاقة حيوية مع مجتمعاتها.. أن تحتفي بالمنجزات الإبداعية لشعوبها وتكرمها وتوثقها وتوسع مساحات انتشارها وتستقطب متلقين لها وتزودها بما يجعلها أكثر تأثيرا. الثقافة هي مفتاح الوعي المتنور وسراج العقل وهي السبيل للتقدم إلى الأمام.

ويؤكد الشاعر والناقد الفلسطيني سامح كعوش أن المؤسسات الثقافية العربية تعاني بشكل عام من ضعف الأداء وغياب الدور، ويعود ذلك في الغالب إلى أسباب موضوعية تضاف إلى الأسباب الذاتية ذات الصلة بهيكلية المؤسسة نفسها، ومواردها المالية والبشرية، وطبيعة صناعة القرار فيها، والتي غالبا ما تكون إدارية بحتة وغير ثقافية قطعا، أما عن الأسباب الموضوعية فتتمثل في غلبة الطابع الاستنسابي على عمل المؤسسات الثقافية وغياب التخطيط الإستراتيجي البعيد، والطبيعة غير الربحية للعمل الثقافي وعلاقتها غير المستدامة مع المجتمع وشريحة المثقفين، واعتمادها على الدعم الحكومي غير المتواصل بالضرورة لأسباب التركيز على أهداف تنموية واقتصادية أكثر إلحاحا من الثقافة نفسها.

ويضيف “هذا الأمر لا ينطبق على حالات استثنائية في الوطن العربي، كما في حالة الإمارات خاصة، تمثل بؤر ضوء وتبعث الأمل بأن تصبح الصناعات الثقافية والإبداعية مصدر دخل ومورد استدامة يفيد المجتمعات وشرائح المثقفين والمبدعين على حد سواء”.

ويتابع كعوش “في الشق الثاني من السؤال، لا يمكن أن نتغافل عن تقصير المؤسسات الثقافية في مجال تحقيق التواصل الثقافي بين مجتمعاتنا العربية، وهي أصلا لا تحقق التواصل والتنسيق في ما بينها، بل تعمل على تكريس الخلاف والاختلاف دون تركيز على الأهداف الإستراتيجية الجامعة لكل الوطن العربي على المستوى الثقافي، لأسباب ربما تقع في إطار التنافسية غير الإيجابية حتى على مستوى الدولة الواحدة، اللهم مع وجود استثناءات قليلة تتمثل في التجمعات الثقافية الإقليمية مثل الأمانة العامة لدول مجلس التعاون والمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم ‘الألكسو'”.

وتشير الروائية والفنانة التشكيلية المصرية منال السيد إلى أن المؤسسات الثقافية العربية رغم توفرها ووفرة الإمكانات لدى بعضها، إلا أنها مازالت بحاجة إلى توفر الجهد المنهجي والعلمي والتنظيمي، والقائم على توفر المعلومات والتواصل الجاد مع كل مفردات المنظومة الثقافية العربية من مبدعين ومتلقين وقنوات تواصل.

وتقول “ربما مازال بعضها يعمل بنظام قديم قائم على تلخيص التواصل في كل بلد على بعض الأسماء بعينها دون مراعاة للمبدعين الجدد أو القدامى الذين لم تلحظهم الأضواء بعد. أعتقد أنه ربما تحتاج هذه المؤسسات إلى توفر جاد لتحديث المعلومة. تحتاج إلى مساعدة أصيلة من الهيئات الثقافية وبعض الجامعات التي تدرس الفنون والآداب بشكل نوعي والأكاديميات الفنية العريقة والمتخصصة. كل هذا ربما يساعد المؤسسات الثقافية على عمل أكثر حقيقية ويساعد على تواصل أفضل بين المبدع والمتلقي من جهة، وبين المبدع ونظيره في البلدان العربية من جهة أخرى. أما الوضع الحالي فمازال غير مرض لطموح المبدعين والمهتمين بالفنون”.

الكوني والخاص

◙ بالرغم من كثرة المؤسسات الثقافية العربية إلا أنها تتعثر في أداء دورها على صعيد التواصل والتفاعل الثقافي العربي
بالرغم من كثرة المؤسسات الثقافية العربية إلا أنها تتعثر في أداء دورها على صعيد التواصل والتفاعل الثقافي العربي

يرى الروائي التشادي محمد طاهر النور أن “في جل الدول تلعب المؤسسات الثقافية حلقة وصل بينها وبين مؤسسات تقع ضمن ثقافة مختلفة أو متقاربة من حيث الطرح والتبادل العلمي أو الثقافي. وكان لدينا هذا النوع من التقارب الثقافي العربي، تضاءل بسبب التصدع السياسي وتشرذم الأوضاع الأمنية. ولعل المركز الثقافي الليبي، والنادي السوداني، ومركز المنى الثقافي، الذي ظل يعمل دون سائر المراكز العربية، أهم تلك الجسور”.

ويضيف “بالمحصلة، إن المؤسسات الثقافية العربية لم تلعب ذلك الدور المحوري الذي يمكن أن تقوم به في إطار دعم الكتاب العربي وكشف محطات عربية، تقع خارج الخارطة العربية، أو بالأحرى مجهولة تماما للمؤسسات الثقافية العربية، لأن العديد من الهويات العربية تتمركز في دول جنوب الصحراء الكبرى، وتحمل هذه الملامح لسنوات طويلة دون أن تحظى باهتمام عربي، شأنها شأن المؤسسات الفرنكفونية أو الأنجلفونية”.

ويتابع نور “ثم إنني لا أعرف ما الذي تهدف إليه المؤسسات العربية إذا كانت ترفض أي كتابات بالعربية خارج إطار ما سمي بالعالم العربي؟ هل يكفي أن تكتب بالعربية ليشملك أي منبر عربي، جائزة عربية، مؤسسة عربية، أم لابد أن تكون عربيا قحا، أو تعيش في ظل بلد يقع ضمن دائرة الجامعة العربية؟ طرحت مثل هذه الأسئلة عند ما راسلت إحدى المؤسسات الثقافية العربية التي ردت بالقول “شكرا لاهتمامك ببرامج (…) للأسف لا يمكنك التقدم، لأن تشاد لا تندرج ضمن قائمة الدول العربية”.

بوكس

ويلفت المسرحي العراقي حليم هاتف إلى أن أي حراك ثقافي فني لهذه المؤسسات هو إنجاز مهم في زمن العتمة التي ألقت بضلالها على الدول العربية، والتي أدت بدورها إلى تهميش وإقصاء الثقافة بكل أشكالها، ومن هذا المنطلق علينا أن نقف مع أي تجربة مؤسساتية أم فردية كانت ليكون هناك صوت عال يصدح باتجاه التحرر من كل الأفكار السوداوية المهيمنة، التي هي نتاج بعض السياسات التي مارست سلطتها على الوعي الثقافي.

ويقول “إن دور المؤسسات الثقافية في إقامة الملتقيات والمهرجانات يعكس تلاقح وتناسج الثقافات وكذلك تداخل وتواصل هذه الثقافات مع الآخر، لمواكبة العصر والتعرف على أهم التطورات الحاصلة في المجتمعات هذا من جانب، ومن جانب آخر هو إبراز المواهب الجديدة والتي من شأنها قيادة المشهد الثقافي نحو أفق التطور والانفتاح على أهم التجارب العالمية، لاسيما أننا اليوم ننطلق من الكوني إلى الخصوصي والرسالة التي يقدمها المنجز الفني هي رسالة كونية تعالج هموم الإنسان ولا يمكن أن نقرأ الإنسان بمنطقة”.

ولهذا يعد التواصل بين المجتمعات العربية في أغلب الملتقيات، كما يقول هاتف، أمرا هاما من أجل تفكيك المفاهيم الثقافية الجديدة التي من شأنها رسم خارطة الثقافة العربية باتجاه العالمية ومواكبة العصر. وأخيرا يحيي كل جهد مؤسساتي عربي من أجل ترسيخ أسس الثقافة التي تعد أهم ركيزة من ركائز بناء المجتمع.

13