الليبي علي العباني يقدم نصا تشكيليا بليغا يحاكي الوجود

انبهر الليبي علي العباني بوطنه وبحركة الطبيعة اللامتناهية فلم يجد أفضل من الفن التشكيلي وعالم الألوان واللوحات ليعيد تصويرها وكذلك ليسافر بالمشاهد نحو أعماق الذاكرة، أين حكايات الأجداد المثيرة للإبداع وأين الأساطير والهوية الضاربة في القدم، فجعل منه تصوره الواقعي والخيالي في الآن نفسه أحد أعمدة الفن التشكيلي في ليبيا، منه تتعلم الأجيال وتواصل إثبات حضور ليبيا في الساحة الفنية عربية كانت أو عالمية.
الفنان الليبي علي العباني تجربة تشكيلية مستمرة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان في مصاف التجارب الأصيلة المدعومة برؤيتها الخاصة وشاعريتها المرهفة وثقافتها الموسوعية حصيلة الدراسة والاطلاع، فالفنان أكمل في روما دراسة الفنون في منتصف السبعينات من القرن الماضي وأتقن اللغة الإيطالية مما مكنه من الاطلاع على المصادر دون وسائط من تاريخ فن الرسم والتطور الحاصل عبر المراحل المهمة والمفاصل التاريخية والكثير من التجارب التي كان لها دور في ترسيخ الفهم التشكيلي الحديث وفلسفاته. رغم كل هذا الاطلاع إلا أنه ارتبط في رسمه بالوطن فكانت قصيدته الدائمة تلك الحياة الممتدة بين السماء والأرض من سهول ووديان، مدن وقرى، جبال ومروج، وجوه وملامح من حياة الناس.
الفنان علي العباني والقليل من زملائه رسخوا فكرة أن الفن التشكيلي أحد أهم فروع الإنتاج الثقافي في ليبيا أُسْوة بكل بلدان العالم المتقدم والتي تعتبر الفن التشكيلي أحد أهم المعايير لتقدم أي أمة، فكان من الذين يدفعون دائما باتجاه إقامة معارض فنية عامة في أرجاء ليبيا كلها ويشاركون في العديد منها كنوع من المساهمة في إحياء هذه العادة الثقافية لتكوين تراكمية إنتاج فني يُمكّن الدولة من إقامة متاحف في كل مدينة تكون ذاكرة تشكيلية للوطن.
شغف بالوطن
روح الفنان الملتهبة دائما والهائمة في فلك الجمال بحس صوفي عميق، مفرداتها مساحات مفتوحة مترامية الأطراف لجغرافيا الوطن، بألوانها الأنيقة ومحسناتها التشكيلية المعاصرة. والعمل الفني عند العباني كأنه ألوان اجتمعت على سطح اللوحة تعصف بها رياح فرشاة الرسم، فعنفوان الأداء مازال يمرح في مناطق “الفن الشاب” رغم مسيرة الفنان الطويلة حيث بدأت منذ منتصف الستينات من القرن الماضي دون كلل أو توقف، شغف منقطع النظير على عكس أغلب أقرانه من الفنانين الليبيين الذين ارتطموا بجدران الواقع الأليم في سنوات الخواء والعوز الفكري والثقافي.
يرسم تلك الفضاءات الروحية المستلهمة من سهول ووديان ترهونة الوطن حيث الحقول منوعة بين أشجار اللوز والزيتون والأحراش والآفاق البعيدة وتبدل الفصول والليل والنهار وتجاور البر والبحر والخيول واختلاف الوجوه، جامعا ثنائية الأرض والسماء بكل أمزجتها من ألوان الفرح والحزن المستقى من أغوار النفس البشرية. وهو يرصد حالات الضوء وانعكاساته مثل تسلل وميض لون أزرق من بين كتل السحب البيضاء الكبيرة ذات الظلال البنفسجية يجتاز بصمت تلك المسافات الفاصلة بين السماء والأرض وانعكاس هذه الظلال العملاقة على أرض مترامية الأطراف ذات ألوان قزحية تنعش الروح وتمنح الوجدان أحلاما جديدة عند المتفرج.
أهم المرجعيات في فن علي العباني تعود إلى الفرنسي بول سيزان (1839 - 1906) الذي كان حلقة الوصل وأهم مفصل في تاريخ الفن الحديث والذي غير فنه كل شيء
حركية الفرشاة وأثرها المتروك على أرضية اللوحة بضربات لون أبيض تفصل الأرض عن السماء وتفتح نافذة في الآفاق البعيدة لتجعل النظر يتنقل بكل حرية في فضاءات النفس الفسيحة، هذا كله انعكاس طبيعي لامتلاء النظر بتلك المفردات التي كان الفنان ومازال يعيشها ويحس بها.
وقد جرب الفنان الليبي الكثير من التقنيات وتوقف في عدة محطات فنية ابتداء من الواقعية ثم الانطباعية وانتقل إلى الحروفية والخط العربي. واهتم في فترة السبعينات بالتزيين ورسم سروج الخيول والسجاد (الكليم) ومفردات الفن الإسلامي التي كانت تمثل إبداعا جماليا أصيلا من الموروث الشعبي. ورسم لوحات كأنها منمنمات من شمال أفريقيا، مستوحاة من وجوه فتيات لا ينقصهن الجمال والرشاقة مع زخارف ونقوش تقترب من أعمال البعد الواحد كرسومات الموزاييك في مناطق بين التجريد والتشخيص.
ولوحة “قرية من خلف الأشجار” ربما تناولها العديد من الفنانين خصوصا الانطباعيين منهم عندما خرجوا من أستوديوهاتهم إلى الفضاء الخارجي حيث الشمس الساطعة وإضاءات النهار التي تجعل من الألوان مختلفة تماما عن الداخل. فالفنان العباني كان قد مر بمرحلة تجريبية كانت فيها هذه اللوحة ضمن المجموعة في السبعينات وتحديدا سنة 1973. ويهتم العمل بالتلوين ويترك الشكل أو يبتعد عنه قليلا كما فعل التعبيريون والانطباعيون من قبلهم، مثل الألوان الساطعة في كبد السماء ونضارة الأخضر للأشجار ووضوحها في المقدمة وشحوب البيوت للقرية في الخلفية، ما يعطي انطباع أن المشهد من ذاكرة بعيدة واستحضارها كان صعبا جدا على مخيلة الفنان. وبالكاد جمع ألوانها وبعض التفاصيل المهمة من حياة كان قد عاشها في الطفولة حيث الطبيعة الخلابة ومشاهد البيوت المتراصة في حب ووئام أبدي.
وفي مراحل متقدمة عنده استغنى العباني عن محاكاة الواقع الخارجي وركز على الصوت الداخلي الذي بدأ من الأشكال وانتهى بالألوان، بتجريد الشكل وأن يكون اللون/النور هو الغاية في موضوعات “land escape” التي استقر على رسمها بحساسية فائقة وأداء رفيع، تأسس عنه أسلوبه الذي ميزه عن غيره من الفنانين الليبيين.
لحظات مفقودة
الأرض والسماء من العناصر التي تميزت بها أعمال الفنان علي العباني كثنائية في أعماله لكنها متجددة ولم تتكرر كتلك التي تطالعنا بها الطبيعة كل يوم، فلن تكرر السماء مشهدا سابقا في ألوانها وأشكالها. كل يوم سنجد لوحة أخرى جديدة بألوانها وتكويناتها، وهذا ما فعله الفنان في تقديم مناخات متعددة وأمزجة متباينة منها الهادئ ومنها المتموج والهائج، ألوان متناغمة وأخرى معاصرة ومتباينة تخدم الموضوع الفني، ودائما تكون محاولة لاستحضار لحظات مفقودة من حياتنا؛ حياة الفنان في طفولته أين لعب في سهول ووديان الوطن الكبير وخصوصا مدينة ترهونة وما جاورها من مناطق خلابة. فالرائي الواقف على عتبة المشهد المرسوم سيتسرب إليه إحساس نضارة وبكر هذه المناطق كأن لم تطأها رجل بشر من قبل، عالم مواز لعالمنا رغم قرب مشاهده ومصادره التي كانت من أرض الوطن نفسها ومعايشة الفنان لجمالها الخالص.
إنها تجربة تهتم بمحاكاة الوجود في فضاءات رحبة كبيرة بين السماء والأرض، يتضاءل ذلك الرائي على عتبة المشهد ليصبح طفلا صغيرا يسترجع كل تفاصيل الحياة الناصعة وفق منطق الفنان الناضج، فكل الموجودات أصبحت أكثر أهمية من واقعها الأول؛ فهي موجودة بحساسيتها الفنية المكتسبة منذ عشرات السنين وربما منذ آلاف السنين الكامنة في جينات البشر. للذاكرة مهمة التخزين والنقل من جيل إلى جيل فالكثير من المشاهد لم نعشها واقعا ولكن نستحضرها من ماض بعيد في عملية تداعيات غامضة لم تفسر ولم يقدم لها حتى العلم أي تحليل واضح إلى الآن، كتلك التي تستدعيها الألوان والرائحة والموسيقى وغيرها.
ربما إحدى أهم المرجعيات في فن علي العباني تعود إلى الفرنسي بول سيزان (1839 – 1906) الذي كان حلقة الوصل وأهم مفصل في تاريخ الفن الحديث والذي غير فنه كل شيء، بعده خرجت العديد من الحركات والأساليب التي وجدت من تنظيراته متكأ لها. والعباني رغم طرحه الحديث وتناوله الجديد بحساسيته الخاصة فإنه يذكرنا بمشاهد جبل سانت فيكتوار التي رسمها سيزان أكثر من ثمانين مرة وفي كل مرة تختلف ألوانها ومزاجها عن الأخرى.
وقد عبّر الفنان عن اللون بهذا النص الذي جاء في حوار معه بمجلة الثقافة العربية: “اللون ذلك المتسرب عبر ثقوب الخيمة القديمة في الصباحات، بأطيافه المتلألئة على قطرات المطر العالقة بعد ليلة شتوية، اللون رداء الزمن المتغير في الذاكرة، ذاكرة الضوء والظل والزوايا المغبشة، بسرده اليومي وروايته الأبدية، بغلالته الشفافة عند النبع، وبروحه المزمجرة في ليل العاصفة، ظلال بنفسجية على سطوح جير الحوائط في أزقة المدن الحميمة”.
رؤية عميقة
جاءت بلاغة النص التشكيلي عند العباني نتيجة تراكمية المشاهدة وعمق الرؤية الخاصة به والكم الكبير من الخبرات المختلفة التي اكتسبها من خلال مشوار حياته الفنية الطويلة والمتنوعة بكافة أصناف الأنشطة الإبداعية التي مارسها (رسم، تصوير فوتوغرافي، كتابة…)، وهو من أكثر المبدعين إنتاجا وارتباطا بالحالة الإبداعية، يعيش الحلم في وطن فسيح هو الرسم.
ويتقن الفنان الرسم الواقعي منذ بداياته المرهفة الأولى وتدرب على أيدي كبار الفنانين في الجامعة الإيطالية واكتسب خبرة كبيرة في الفهم التشكيلي من اطلاعه الواسع وقراءاته المتعددة وانتباهه الذكي إلى الطبيعة التي تعلم الفنان الألوان وتجاورها وتدرجاتها والتكوينات الأجمل بعد هطول الأمطار على الحقول والمروج الخضراء والوديان الطينية والحصى الملون المرصوف في إتقان تام، فما على الفنان إلا التقاط ما يمكن توظيفه في أعمال بديعة كتلك التجربة الفريدة في التشكيل الليبي والتي غيرت ذائقة الجيل بل ذائقة أجيال متعاقبة من الفنانين الليبيين.
في حوار له مع صحيفة “الاتحاد” الإماراتية يقول الفنان علي العباني عن الحركة التشكيلية الليبية “يصح القول بأن الحركة التشكيلية في ليبيا نضرة، وقد مرت بكل المراحل التي مرت بها حركة الفن التشكيلي في الوطن العربي، ابتداء من الممارسة التشكيلية المتأثرة بالاستعمار الاستيطاني، وخروجاً من هذا التأثر إلى محاولة التعبير عن المحيط الاجتماعي والبيئي في التشكيل، هناك منجز تشكيلي جميل في ليبيا تحقق من خلال وجود كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، وهذه الكلية عمرها الآن 22 عاماً، إضافة إلى بعض المعاهد والمؤسسات الأخرى العامة والخاصة التي تعنى بعرض الأعمال الفنية وتسويق المواد التي يحتاجها العمل الفني”.
وعن نظرته لأهم الفنانين الليبيين يقول العباني “طاهر المغربي مؤسس الحركة التشكيلية المعاصرة في ليبيا، وقد أسس وحدة الفنون التشكيلية التابعة لأمانة الإعلام والثقافة، وعلي مصطفى رمضان وهو نحات ومصمم، قام بدور كبير جداً في إنشاء مجموعة من قاعات العرض، وعلي قانة الذي كان مشرفاً على قسم الفنون والعمارة في الجامعة، وعلي عمر ميص فنان حروفي معروف، وعلي الزويك، ومجموعة من الفنانين الشباب”.
ويتكلم عن مدى استفادته من الدراسة الأكاديمية في روما فيقول “في إيطاليا تعمقت الخبرة الأدائية باعتبار أن إيطاليا معروفة بالزخم الفني والثقافي والأدائي المتعلق بهذه الأعمال، لقد تعمقت القدرة التقنية ولكنها لم تؤثر في المضامين، لأنني كنت أرسم قبل سفري إلى إيطاليا للدراسة”.
ويتحدث الفنان علي العباني عن الفرق بين التجارب العربية والغربية وعن عدم قدرة التجارب العربية على الوصول إلى العالمية قائلا “السبب في ذلك يعود إلى أن مسيرة الفن الغربي التاريخية كانت مسيرة تراكمية حقيقية، بينما نحن مازلنا إلى حد ما في تشكيلنا أو معالجتنا البصرية، لا تستمد مسيرتنا قيمها الحقيقية إلا من الذاكرة أو ما يسمى بالشعار الذي رفع وهو شعار الأصالة، أو في سنوات مضت كانت فكرة التشكيل، وفكرة الإبداع بصفة عامة يجب أن تكون موظفة لغيرها، إما للدلالات الأدبية أو أحياناً للتوجهات التنظيرية السياسية، أو في أسوأ حالاتها عندما يصبح التشكيل يتعامل مع الفلكلور لإرضاء مذاقات السائح أو مذاقات الآخر خارج الوطن”.
ويستثني الفنان من ذلك “قدرات حقيقية عربية استطاعت أن تقدم نصاً تشكيلياً ينبع من الذات، ويحاول أن يصبغ الجمالية الحقيقية المعنية بالواقع، وبالحلم بمعناه الاستشرافي للمستقبل وبما تعتز به من قيم جمالية موروثة في هذا الوطن، ولكن خارج نطاق شعار الأصالة والمعاصرة، خارج نطاق الفن للفن، أو الفن للحياة، هذه الثيمات التي هي طرح منظرين، ولم تولد من كيان التشكيل ذاته· إن التجربة الغربية تجربة تراكمية، واستطاعت أن تؤدي إلى مسار حقيقي، ولكن هذا لا يمنع أن يوجد عندنا إنتاج فنانين حقيقيين ربما يكونون قلة”.
وفي تقييمه لدرجة الاختلاف في التشكيل كرافد ثقافي بين مشرق العالم العربي ومغربه؟ يعتقد العباني أن “هناك اختلافاً بين المشرق والمغرب، حتى كبيئة مختلفة في موروثها وملامحها وعمارتها وأشكالها ومحيطها وطبيعتها، وهذا شيء جميل أن تكون هناك نكهة من مشرق الوطن ونكهة أخرى مختلفة ولكن مكملة من المغرب العربي”.
الفنان الليبي جرب الكثير من التقنيات وتوقف في عدة محطات فنية ابتداء من الواقعية ثم الانطباعية وانتقل إلى الحروفية والخط العربي
وتجدر الإشارة إلى أن علي العباني ولد عام 1946، درس فن الرسم في روما وتخرج بتقدير ممتاز، وهو عضو مؤسس لنادي الرسامين الذي تأسس في طرابلس عام 1960. سنة 1967 شارك في معرض بنادي بلخير ضمن “مسابقة النشاط المتكامل للأندية”، والتي نال فيها النادي الجائزة الأولى على مستوى ليبيا. الجائزة كانت رحلة لجميع أعضاء النادي إلى المغرب ولمدة عشرة أيام على نفقة وزارة الشباب والرياضة.
عمل وشارك وقدم المعارض الفنية التشكيلية التي أقامها داخل ليبيا وخارجها. كان فنانا فاعلا ومؤثرا في الحركة التشكيلية بليبيا منذ أوائل الستينات. واستمر بالحضور الفاعل في الحركة الفنية التشكيلية بالبلاد، عبر المعارض الشخصية والجماعية التي عرض وشارك فيها منذ بداياته الأولى في الستينات وتتجاوز 60 معرضا. ثلاثون معرضا خارج ليبيا، وتحديدا في آسيا غير العربية. وأخرى في روما والنمسا، وثلاثة منها في مالطا وتونس وإسبانيا.
حصل بمعرض السنتين العربي في الكويت سنة 1975 على جائزة الشراع الذهبي. وفي سنة 1997 أصدرت دار الفنون كتابا بعنوان “علي العباني معزوفة التجريد الطبيعي”، وضم هذا الكتاب أكثر من ثمانين لوحة من لوحاته تغطي الفترة من 1972 حتى 1997.
ترأس نادي الرسامين منذ سنة 1966 إلى 1969. ودرس الفن في أكاديمية روما للفنون وتخرج سنة 1979. وقد صمم العديد من المشاهد المسرحية، وهو يهتم بالخط العربي ونفذ العديد من أعماله بأسلوب الحروفية والخط العربي، وعين أمينا لوحدة الفنون الجميلة بعد تخرجه من روما، ورئيس مكتب طرابلس للثقافة، ومدير مجمع الفتح الثقافي القبة الفلكية بطرابلس، وله العديد من الكتابات التشكيلية وشارك في الكثير من الندوات والمحاضرات في ليبيا والوطن العربي وفي العديد من أنحاء العالم.