ثورة تونس: 12 عاما من السياسة والأزمات الاقتصادية

الذكرى12 لثورة “الياسمين” في تونس أعادت إلى الأذهان سبب الفشل الذي حكم الثورة منذ ذلك الوقت، ويعود السبب بالأساس إلى غلبة البعد السياسي على أيّ أجندة أخرى ذات أبعاد اقتصادية أو اجتماعية، وهي الدافع الأول لانطلاق الاحتجاجات.
احتفلت كل جهة سياسية بالذكرى الثانية عشرة لثورة 14 يناير 2011 على طريقتها. لكن جميع السياسيين يوحون لك بأنهم أصحاب فضل في هذه الثورة، وأن غيرهم تآمر على الثورة وحرّف مسارها، وانقلب على أهدافها.
هناك حقيقة مهمة أن أغلب السياسيين والأحزاب والمنظمات الحقوقية والاجتماعية كانت على هامش الثورة، بمعنى أنها فاجأتهم في سرعتها، وشاهد أغلبهم الاحتجاجات التي قادت إلى ذلك التغيير من وراء التلفزيون أو سمع بأخبارها من هنا وهناك. البعض أدرك الاحتجاجات في اللحظات الأخيرة في مظاهرة 14 يناير الاستعراضية أمام وزارة الداخلية بعد أن تأكد من مغادرة بن علي للبلاد.
كانت أغلب الأحزاب والمجموعات المختلفة في حال انكفاء، بعضها مثل حركة النهضة كان في حكم المنتهي داخليا، ولم يكن يمللك سوى بعض العناصر الذين هربوا من مواجهات 1991 وفضلوا النجاة الفردية بالرغم من أنهم كانوا من قيادات الصف الأول. وبعد 14 يناير 2011 عادوا بسرعة وأوحوا بأنهم شريك مؤثر في الانتقال الذي حدث.
الأحزاب الأخرى تصالحت مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وكانت تتحرك ضمن هامش محدود يبحث عن إصلاحات جزئية وتفصيلية. وكانت تصدر بيانات الإشادة والمديح بالنظام بمناسبة وغير مناسبة. هناك مجموعات سياسية صغيرة فضلت الاحتماء باتحاد الشغل، الذي كان بدوره متصالحا مع نظام بن علي ويصدر بيانات الدعم والمباركة.
لا قيمة لمبادرات سياسية في تونس لا تأخذ بعين الاعتبار حل الأزمة الاقتصادية
انطلقت الاحتجاجات متقطعة ومحدودة لمطالب تتعلق بالشغل، في مناطق داخلية (وسط وجنوب قبل أن تتسع لاحقا لتصل إلى أحياء العاصمة)، مع رواج خطاب المظلومية الذي يقول إن النظام منذ 1956 وإلى حد 2010 و2011 قد همش الداخل مقارنة مع المشاريع التي كان ينجزها في المناطق الساحلية التي ينحدر منها الرؤساء وأغلب الوزراء ورجال الأعمال.
كانت الانطلاقة بعيدة عن الأحزاب والشخصيات السياسية وقيادة النقابات والقطاعات المعروفة حتى وإن شاركت قيادات محلية في تلك الاحتجاجات خاصة من اتحاد الشغل ضمن خيارات شخصية وليس توجها عاما للاتحاد، الذي أصدر بيانات نأى فيها بنفسه عن تلك الاحتجاجات.
ورغم هذا الدور الهامشي لمختلف المجموعات الحزبية والأيديولوجية في الثورة، إلا أن السياسيين هم الذين سيطروا على الثورة مع أول انتخابات في أكتوبر 2011، ولذلك يعتبرون 14 يناير ثورة بدلا من 17 ديسمبر، لأن 14 يناير وضع البلاد تحت قبضتهم، فيما كان 17 ديسمبر رسالة رمزية عن المطالب الاجتماعية وعن حاجة مناطق الداخل والأحياء الشعبية إلى تغيير المثال التنموي.
وفي غياب البرامج التي يمكن أن تحقق مطالب شباب الجهات التي شاركت في الاحتجاجات، عملت الجهات السياسية المختلفة على استغلال الفرصة لمراكمة المكاسب السياسية، حيث جرت خلال 11 عاما أربعة انتخابات واستفتاء، وتم تغيير القوانين في كل انتخابات لتتلاءم مع أفكار القوة المسيطرة على البرلمان من تدعيم النظام البرلماني الذي يفتت السلطات إلى استعادة النظام الرئاسي الذي يجعلها في قبضة الرئيس.
وفي ظل تضخيم البعد السياسي للحكم، وهو أمر ما يزال ساريا إلى حد الآن في فترة حكم قيس سعيد، فقد تم تغييب البعد الاقتصادي بما هو تشجيع على الإنتاج وجلب الاستثمارات والشركات بما يوفر مواطن العمل الجديدة ويحقق أهم مطالب ثورة 2014.

وتغاضت الأحزاب التي قادت حكومات ما بعد الثورة عن المشاريع الاقتصادية، وتركت الحرية التامة للإضرابات والاعتصامات ضمن سياق يهدف إلى التهدئة مع اتحاد الشغل، الذي كان يضغط من خلال هذه الأشكال من التحركات لتحصيل مكاسب سياسية تبوئه لأن يكون “أقوى قوة في البلاد”، كما يردد منتسبوه في كل مناسبة يكون الاتحاد فيها في مواجهة مع الحكومة أو رئاسة الجمهورية.
وتضافرت الانتهازية السياسية مع رغبة المنظمة النقابية في فرض سيطرتها السياسية مستفيدة من قوة تنظيمها واعتراف الجميع بها، والخوف منها، في أن تصل بتونس إلى الوضع الحالي، فالحكومات عملت على شراء صمت الاتحاد بالتورط في اتفاقيات متتالية لزيادة الرواتب وتمتيع الموظفين في القطاع الحكومي بامتيازات متنوعة، لكنها مكلفة.
وتضاف إلى ذلك كله عملية استيعاب عشوائية داخل القطاع الحكومي لعشرات الآلاف من الموظفين الجدد دون حساب قدرة المالية العمومية راهنا ومستقبلا. وقادت هذه الاستهانة التي استمرت عشر سنوات كاملة لإيصال البلاد إلى ما هي عليه الآن، حيث تفتقر تونس إلى المدخرات والاعتمادات التي تقدر من خلالها على سداد الديون وضخ الرواتب، وهو ما جعلها تطارد قرضا محدودا من صندوق النقد وتضطر لتنفيذ إصلاحات صعبة وصادمة للشارع التونسي.
والمتابع لمشاريع مبادرات الإصلاح التي عرضت تفاصيلها في الفترة الأخيرة لإنقاذ البلاد، وهي مبادرات وخرائط طرق صادرة عن أحزاب وشخصيات مختلفة وعن اتحاد الشغل، تشترك كلها في البحث عن مخارج سياسة للأزمة التونسية، مع أن تلك الأزمة ناتجة عن وفرة “الحلول” السياسة وغياب المقاربات الاقتصادية والاجتماعية.
لا قيمة لمبادرات سياسية في تونس لا تأخذ بعين الاعتبار حل الأزمة الاقتصادية، طبعا بعيدا عن الشعارات التقليدية الواهمة التي تبحث عن حل بالاعتماد على الذات وفي نفس الوقت استمرار الدولة في الإنفاق السخي. لا حل يمكن أن يتحقق دون إصلاحات اقتصادية جدية ترفع من منسوب الثقة لدى الجهات المالية الدولية بالاقتصاد التونسي.
التونسيون يحتاجون إلى التهدئة بين السياسيين من أجل تأمين الجهود لحل الأزمة الاقتصادية الحادة. لن يفيد المعارضة التصعيد، ولن يفيد الرئيس قيس سعيد الاستمرار في تحميل المسؤولية إلى الآخرين فيما هو يحكم ويدير مختلف التفاصيل لأكثر من عام ونصف العام.
لقد أظهرت الشعارات التي رفعت في مظاهرات متفرقة السبت أن العقلية هي نفسها وكأن الأحزاب ما تزال في اللحظة الأولى من يوم 14 يناير2011 مثل شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، أو “ارحل” لمطالبة قيس سعيد بالتنحي. ما تزال المعارضة تراوح مكانها عند نقطة الصفر، ولا تفكر سوى في رحيل نظام وقدوم آخر.
لم يكن واضحا أن الأحزاب مهمومة بمعاناة الناس وإلا لرفعت شعارات تطالب بوقف سياسة رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، أو شعارات تطالب بالتدخل للحد من ارتفاع الأسعار، أو ممارسة المزيد من الرقابة لمواجهة الاحتكار.
وكان يفترض أن تكون المعركة الاجتماعية هي مربع تحرك الاتحاد الأول، لكن أمينه العام نورالدين الطبوبي أكد السبت في مؤتمر بالعاصمة أولوية المعركة السياسية بالنسبة إليه ليعلن شعارات من مثل “لا أحد مهما كانت سلطته لا في الحاضر ولا الماضي ولا حتى في المستقبل يمكنه أن يحدد مربع الاتحاد”، أو أن “اللقاء سيكون في ساحات النضال الحقيقي”، في إشارة إلى التحركات الميدانية.