مدرسة تحسين الخطوط العربية مئة عام من الريادة في فنون الخط العربي

يبقى الخط العربي من العلامات الفنية الفارقة في تاريخ الحضارة لا العربية فحسب وإنما الإسلامية وحتى الإنسانية، إذ بلغ الخطاطون مساحات جمالية هامة أثّرت في خطوط الشعوب الأخرى وخلقت أنماطا فنية جديدة ما تزال ماثلة إلى اليوم.
مئة عام على إنشاء مدرسة تحسين الخطوط العربية في مدرسة خليل أغا (1922 ـ 2022)، هذه المدرسة التي شكلت ريادة فنون الخط العربي في مصر والعالم العربي، والتي جاء إنشاؤها من الملك فؤاد الأول ردا على إلغاء تركيا كمال أتاتورك للحرف العربي، وقد تخرج فيها رواد هذا الفن ليملأوا الدنيا بجماليات إبداع الحرف العربي وعبقريته، فبعد أن تسلمت القاهرة الراية من إسطنبول في مطلع عشرينات القرن الماضي حملت هذه المدرسة المنارة التي اهتدى بها عشاق الخط العربي ورواده من داخل مصر ومن خارجها ومن شتى بقاع العالمين العربي والإسلامي راية الإحياء واحتضان المواهب ورعايتها.
في إطار الاحتفال بالمئوية أصدرت إدارة المدرسة عددا جديدا خاصا من مجلتها “مجلة تحسين الخطوط الملكية”، التي صدر منها عددان الأول والثاني عام 1943، شارك فيه عدد من المؤرخين المهتمين تناولوا بناءها المعماري ورصدوا تاريخ المدرسة ودورها المحلي والخارجي وأبرز مشاركات فنانيها في المجال العام وسجلوا لتراجم روادها الكبار ومن تلاهم حتى الآن واشتمل على صور من أشهر أعمالهم، وأهم مقتنيات متحف المدرسة، فضلا عن رسائل الخطاطين العرب الذين درسوا فيها من بينهم عبدالقادر بوماله أستاذ الخط العربي بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالجزائر، والخطاط الإماراتي محمد يوسف مندي، وشيخ الخطاطين الجزائريين محمد بن سعيد الشريفي.
وقد قدم للعدد وشارك فيه كل من الأكاديميين خالد عزب، وعامر سيد عامر، مدير مدرسة خليل أغا الثانوية، وممدوح الكرماني، وسعد غزال المشرف الفني لمدرسة تحسين الخطوط العربية، ومقدمة لعميد الخط العربي سيد إبراهيم مأخوذة من محاضراته وأوراقه الخاصة، وغيرهم.
رحلة الخط في مصر
يقول الأكاديمي خالد عزب “في عام 2022 مر قرن على إنشاء مدرسة تحسين الخطوط في مصر، هذه المدرسة التي أنشأها الملك فؤاد، وألحقت بمقر مدرسة خليل أغا، ثم تبعتها مدرسة ثانية في مدرسة الشيخ صالح أبوحديد، وكانت المدرسة ملحقة بديوان الأوقاف الخصوصية الملكية ثم ضمت لوزارة المعارف، وحددت الوزارة الهدف من هذه المدارس كما يلي ‘تحسين الخطوط العربية بأنواعها، وما يتصل بها من الفنون وإحياء ما اندثر منها، ونشرها في الأقطار العربية وإعداد أشخاص ممتازين فيها‘، رمز إنشاء هذه المدرسة لجهود عبر سنوات بدأت منذ عصر محمد علي في بدايات القرن التاسع عشر لبناء مدرسة مصرية عربية في الخط العربي، وعندما أنشئت كان الخط العربي في مصر وصل إلى ذروته في الإبداع والتجديد، في وقت كانت تركيا تحارب الخط العربي رفعت مصر لواءه، وواكب هذا إعلان استقلال مصر، وبالتالي كان الخط العربي الذي هو الفن المعبر عن اللغة الوطنية تعبيرا عن مرحلة الاستقلال”.
ويضيف “بدأت المدرسة المصرية باستدعاء خطاطين من إيران وتركيا، بهدف نشر الجديد في الخط العربي بمصر، فضلا عن تزيين المنشآت المعمارية بإبداعات هؤلاء الخطاطين، ومن أبرز من جرى استدعاؤهم الخطاط الإيراني ميرزا سنجلاخ الخراساني، وهو من أعظم الخطاطين الإيرانيين خلال العصر القاجاري، وكان من بواكير ما قام به قاعدة الحروف العربية التي استخدمتها مطبعة بولاق في مطبوعاتها واشتهرت بها، وكتب خطوط ميضأة مسجد محمد علي، عاش في مصر 32 عاما حيث غادرها في عام 1854، ومن أهم مؤلفاته ‘تذكرة الخطاطين‘ طبع في عام 1847. وكان عبدالغفار بيضا خاروي ثاني خطاط إيراني جاء إلى مصر في عصر محمد علي ومن المرجح أنه قدم إليها قبل العام 1824، كما استدعت مصر أيضا خطاطين من تركيا لكي تضفي نكهة أخرى علي الخط العربي في مصر، ومن أبرزهم محمد أمين أزميري، دخل الخدمة في الحكومة المصرية في عام 1835، كتب عدة آيات قرآنية بخط الثلث بمداخل مسجد محمد علي، كما كتب أسماء الخلفاء الراشدين داخل المسجد بخط الثلث الجلي، وله لوحات تشهد على مقدرته المتفردة في الكتابات التشكيلية للجمل والصيغ المختلفة“.
وترك أزميري عدة أعمال مثل لوحة الإخلاص التي كتبها علي شكل دائرة، ثم كون من الحروف القائمة في السورة نجمة ثمانية تتوسط التكوين، وهناك لوحة أخرى لسورة الإخلاص كتبها تحمل الكثير من الأبعاد التكوينية، حيث تفرد في وضع الآية في أربعة اتجاهات أفقية ورأسية تشترك فيما بينها في الحروف القائمة الموجودة فيها، وهو أشبه بفكرة ‘الكتابات المتعاكسة‘ المعروفة لكن ببعد تشكيلي جديد ومميز، وله لوحة أخري تتضمن دعاء باللغة التركية على شكل دائرة تشترك فيها حروف البداية مع بعضها.
ويوضح عزب “تمتد فترة التغريب والإحياء في الخط العربي من عصر الخديوي إسماعيل إلى عصر الخديوي عباس حلمي الثاني، وقد شهدت تلك الفترة إصدار أول ‘مشق مصري‘ لتعليم خط الرقعة لعبدالرزاق عوض بعنوان ‘الرفعة في تعليم الرقعة‘ طبع في فيينا، كما تبلورت دراسات تاريخ الخط العربي في تلك الحقبة، ألّف عبد الفتاح عبادة كتاب ‘انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والعالم الغربي‘، كما برز عدد من الخطاطين في تلك المرحلة فمن هؤلاء: عبدالله زهدي، وهو عبدالله زهدي أفندي بن عبدالقادر أفندي النابلسي، وأطلق عليه لقب ‘خطاط مصر الأول‘ وذلك سنة 1866، نفذ خطوطا راقية فنيا في العديد من المساجد والمدارس ودوائر الدولة، كما درس فن الخط العربي في المدرسة الخديوية ومدارس أخرى، فتخرج على يديه عدد كبير من كبار الخطاطين في مصر شكلوا جيل الآباء المؤسسين لمدرسة الخط العربي في مصر المعاصرة”.
ويذكر أيضا خطاطين آخرين مثل محمد مؤنس زاده: وهو محمد بن إبراهيم مؤنس، شيخ الخطاطين المصريين في زمنه، اشتهر برسالته التعليمية “الميزان المألوف في وضع الكلمات والحروف” التي طبعت بأمر من علي باشا مبارك عام 1868، ووزعت علي طلاب المدارس. وفي مدرسة تحسين الخطوط عند تأسيسها عام 1922، كان معظم الأساتذة الذين اختيروا للتدريس فيها من تلامذته، ومن أبرز من تتلمذوا على يديه: محمد إبراهيم الأفندي، علي بدوي، مصطفي الغر، عبدالفتاح خليفة، أحمد عفيفي، وغيرهم ، لكن أبرزهم محمد جعفر الذي خط أساس حروف مطبعة بولاق، وكتب بخطه الثلث الجميل أغلب اللوحات التي تحمل أسماء شوارع القاهرة، وكتب بعض خطوط العملة الورقية والمعدنية المصرية، وكتب حروف النسخ لمطبعة بولاق (الأميرية) وتتلمذ سيد إبراهيم على يديه عند تنفيذه كتابات مسجد السيدة زينب.
◙ المدرسة أنشئت كرد فعل لإلغاء الحرف العربي بتركيا ولرغبة مصر في القيام بدور كبير فيما يخص الخط العربي
ويرى أن مرحلة الإحياء والتجديد مثلت ذروة المدرسة المصرية المعاصرة في فن الخط العربي، ويمثلها بقوة الخطاط يوسف أحمد الذي كان علامة فارقه، لكن التجديد فيها جاء على يد مصطفى غزلان الذي طور شكل الخط الديواني، وانتشرت خطوطه حتى صارت علامة على المدرسة المصرية، ثم يأتي الإبداع في مصر على يد محمد حسني وسيد إبراهيم وكلاهما موهوب بالفطرة. وأخيرا فإن مدرسة الخط العربي المصرية شهدت تجديدات متوالية كان من عمالقتها الفنان خضير البورسعيدي الذي يرأس الجمعية المصرية للخط العربي، وهو خطاط مجدد له إبداعاته وقد حوّل منزله في الجمالية لمتحف للخط العربي يزوره الزوار من كل أنحاء العالم حتى صار أحد معالم القاهرة.
ويلفت إلى أن هناك جيلا شابا من الخطاطين الواعدين الذين يرسمون لنا الآن روحا جديدة في فن الخط العربي في مصر، ويعود الفضل في هذه الروح إلى مدرسة الخط العربي في مؤسسة الحلقة التي أسسها الخطاط المغربي بلعيد حميدي واستطاع من خلالها تكوين جيل جديد من الخطاطين من كل أنحاء العالم الإسلامي، وتعد مؤسسة القلم بالقلعة في القاهرة واحدة من المدارس الواعدة في الخط العربي وتشكل تيارا واعدا حيث أن بها روحا شابة دفاقة ومجددة وتتنوع جهودها في الخط العربي حتى لاقت تقديرا دوليا.
أهمية المدرسة
يقول عميد الخط العربي سيد إبراهيم عن تاريخ المدرسة وروادها "أنشأها الملك فؤاد الأول في سبتمبر 1922، وكان روادها في أول نشأتها قليلين، ثم أخذت تنمو رويدًا رويدًا شأن كل كائن يرجى أن تطول حياته، حتى صارت بفضل رعايته ثابتة الأركان كثيرة الرواد، فيها يتعلم الطالب فنون الخط وما يتصل بهذه الفنون من الرسم والتذهيب والزخرفة، وقد نادت هذه المدرسة النافعة بمصر فأجاب نداءها من في العراق والشام وفلسطين والسودان وبلاد الحجاز واليمن وطرابلس الغرب ثم من إيران وأفغانستان وبلاد الهند الشرقية، ثم من جاوى وسومطرة".
ويضيف "كان للملك فؤاد فضل كبير على الخط العربي حيث أنشئت المدرسة كرد فعل لإلغاء الحرف العربي بتركيا ولرغبته لقيام مصر بدور كبير ومميز فيما يخص الخط العربي. ويذكر أنه قال عند افتتاحها 'إنه لو استطاعت هذه المدرسة أن تخرج كل عشرة أعوام خطاطا واحدا موهوبا فإنه يعتبر أن المدرسة قد حققت نجاحا باهرا'. وكانت المدرسة منذ إنشائها وحتى سبتمبر عام 1935 تابعة للخاصة الملكية حيث يتم صرف الأقلام والأحبار والكراسات والأمشق للطلبة مجانا". ويضيف "كانت كعبة يقصدها هواة الخط من مصر ومن خارجها، يتلقون فيها قواعد الخط ويصقلون مواهبهم، ويتدرّبون على تجويد مختلف أنواعه، ويستمتعون بمشاهدة روائع ما أنتجه أساتذتهم من لوحات بالمعرض الدائم بالمدرسة، خاصة بعد إنشاء قسم عام للزخرفة والتذهيب. وقد تخرج في المدرسة كثر من المصريين وغيرهم من أهل الأقطار الاسلامية الأخرى، كما تخرج فيها الحاصلون على إجازة التدريس من دار العلوم”.
ويشير "درس في المدرسة الشيخ محمد عبدالعزيز الرفاعي الخطاط التركي الشهير، ومحمد معمار زاده مدير متحف الآثار الإسلامية ومدرسة الخطوط التركية المشهورة بتركيا، وكذلك يوسف بك كامل عميد كلية الفنون الجميلة في مصر. وقد زارها رئيس الخطاطين الحاج أحمد الكامل عند حضوره إلى مصر في المرة الأولى وكنت برفقته، ومازلت أذكر كيف أتى إليه مسرعًا الشيخ عبدالعزيز الرفاعي ليقبل يديه. كان للخطاطين الأتراك فضل كبير على الخط العربي على مستوى العالم الإسلامي وعلى مصر، ولكن هنا لا بد أن أقول للحق والتاريخ إنه قبل دعوة الخطاطين الأتراك للحضور إلى مصر كانت في مصر نهضة خطية أرسى قواعدها محمد مؤنس زاده وتلميذه جعفر بك. وهذه الحقيقة يشهد بها ويقر عليها ما لدينا من نماذج خطية في هذا العصر".
◙ عبر عقود تمكنت المدرسة من تحسين الخطوط العربية بأنواعها، وما يتصل بها من الفنون وإحياء ما اندثر منها
ويتابع “من قبل شجع الخديوي إسماعيل الخطاط الكبير عبدالله بك الزهدي على الحضور إلى مصر وعيّنه مدرسا بالمدرسة الخديوية وتخرج على يديه العديد من الخطاطين المصريين، كما كتب عبدالله بك الزهدي جامع الرفاعي قبل أن يكتمل بناؤه وحفظت الأوراق إلى حين اكتمال العمارة، ومن أعظم آثاره كتابة واجهة سبيل أم عباس، ثم حضر إلى مصر بعض المدرسين الأتراك عند إنشاء القسم النظامي بالأزهر ومنهم الشيخ محمد وهبي الذي درست عليه شخصيًا وله بعض اللوحات الخطية محفوظة بالمتحف الخاص بقصر الأمير محمد على بالمنيل. كما حضر سنة 1914 الأستاذ حسن حسني الذي يعتبر الأستاذ الأول للخط الديواني في مصر".
ويتابع "أذكر أنه رغم احتياجه الشديد للمال عند قدومه رفض أن يتقاضى مني أي مقابل نظير بعض دروس الخط التي تلقيتها على يديه، وقد تتلمذت على المرحومين حسن رضا في الثلث ومحمد خلوصى في الفارسي والحاج أحمد الكامل في الديواني. كانت صلتي قوية بأساطين الزخرفة العربية والخط الكوفي يوسف أحمد الذي لا ينسى فضله على الخط الكوفي، وكذلك محمد معمار زاده من تركيا أستاذ الخط والتذهيب بمدرسة تحسين الخطوط والذي جاء إلى مصر لاجئًا مع والد زوجته الشيخ مصطفى صبري آخر شيخ للإسلام في الدولة العثمانية، والأستاذ محمد خليل أبرز أهل عصره في الزخرفة العربية الإسلامية والخط الكوفي. كانت صلة حب وتعاون لإبراز مواطن الجمال في الفن الإسلامي".