تونس.. الشعب بدوره شريك في الأزمة

ثمة واحدة من تلك النكات الخفيفة التي تلخّص أمزجة الشعوب وطبائعها، وترويها البلدان المتجاورة بعضها عن بعض، وهي أن تونسيا حوكم بالإعدام، وعند التنفيذ، طُلب منه آخر أمنية يرغب في تحقيقها، وسيلبونها فورا، فقال لهم “لا تعدموني”.
تعكس هذه الإجابة المقتضبة كمّا هائلا من الفرضيات والتناقضات المتعلقة بشخصية المواطن التونسي.
إذا بدأنا من ألطف الصفات المفترضة التي نستشفها من الإجابة، فهو أنه إنسان يرفع سقف مطالبه إلى أبعد مدى ممكن، مما يوحي بالمثابرة والإصرار، وعدم فقدان الأمل حتى في أقصى حالات الأزمة.
أما ما يثير الحنق فعلا، فهو أن مطالبه صعبة التحقيق، إن لم تكن مستحيلة أو طوباوية، ذلك أنها تجافي الواقع وتكسر المنطق، إذ كيف يطلب محكوم من مجرد منفّذ مأمور إبطال حكم صدر قطعا، وقد حُصّل ما في السطور.
◙ إن كان للزعيم الحبيب بورقيبة من أخطاء، فهو أنه دائم التغزل بالنموذج الأوروبي، والانتقاد للأنظمة العربية العسكرية، حتى ظن أبناء شعبه أنهم متفوقون بطبيعتهم، ويحق لهم ما يحق للأوروبي
صحيح أن التونسيين ليسوا كائنات من خارج البسيطة، وليسوا “نيقة على الخليقة” كمل يقولون في بلاد الشام، لكن معطيات ومكونات تاريخية وثقافية وسياسية متفردة، جعلتهم بمثل هذا المزاج الحاد مقارنة ببقية مجتمعات المنطقة العربية والمتوسطية، وحتى في امتدادهم الأفريقي حيث أطلق اسم بلادهم القديم ـ أفريقيّة ـ على قارة بأكملها.
ليس الأمر هنا تفردا على سبيل التخصيص أو المفاضلة أو غير ذلك، فكل الشعوب تتوق إلى حياة أفضل مما هي عليه، وتحتج على ظروفها الحياتية الصعبة، لكنّ للتونسيين طرقا وأساليب تستحق التوقف عندها لما لهم من خصوصية أملتها ظروف وعوامل صنعها التاريخ والجغرافيا، وشرحها علم الاجتماع.
وعلى ذكر السوسيولوجيا التي تقرأ في طبائع البشر، فإن مؤسس هذا العلم، ابن خلدون، يقف بتمثاله البرونزي وسط شارع بورقيبة الشهير بالعاصمة، يحتضن كتابه وينظر صوب البحر، ويقابله تمثال زعيم الاستقلال ومحرر المرأة على حصانه في رمزية أخاذة.. ولك أن تتخيل الكم الهائل من الطرائف والنكات والمقولات التي يؤلفها التونسيون حول هذين الرجلين على صفحات التواصل الاجتماعي كل يوم.
ومن المقولات التي ابتدعها التونسيون ونسبوها إلى ابن خلدون كي يمنحوها مصداقية، قولهم على لسانه “وافق أو نافق أو غادر البلاد” أي أن الوصفة السحرية التي تنقذ هؤلاء الناس من فقرهم في نظرهم، مبنية على ثلاثة احتمالات: إما موافقة الحكومة وتأييدها عن قناعة في كل ما تذهب إليه أو نفاقها والبحث عن حلول فردية، وإما مغادرة البلاد عبر الهجرة السرية غالبا، وهو ما تشهده شواطئ تونس كل يوم، وما ينجر عنها من المآسي.
السؤال الذي يحيّر علماء الاجتماع أنفسهم: لماذا ينفرد التونسيون عن غيرهم من الشعوب، بهذا الكم الهائل من القلق والتوجس حيال أوضاعهم المعيشية إلى حد إعلان الكارثة، في حين أن نظراءهم من الشعوب ـ وحتى بعض جيرانهم ـ يعيشون أزماتهم بصبر وتحمل دون إثارة أيّ ضجة.
من يستمع إلى تشكّي الناس، ويقرأ في الصحافة المحلية، وحتى في الوجوه، يظن أن البلاد تغرق لا محالة، ولا حل بالنسبة إلى الواقعيين غير مواساة الذات بالعزف والغناء كما حدث مع الموسيقيين على متن سفينة “تايتنيك” الشهيرة في محنتها.
ثمة دول في مستوى تونس، وثمة دول أقل منها نموا، وكذلك ثمة دول أفضل من حالتها طبعا، وتعيش ظروفها الاقتصادية والسياسية الصعبة دون أيّ مبالغة أو تذمّر بل تمضي في تفاؤلها وإيمانها بحتمية الخروج من النفق، خصوصا مع الأزمات التي يعيشها حاليا، العالم بأسره.
◙ صحيح أن التونسيين ليسوا كائنات من خارج البسيطة، وليسوا "نيقة على الخليقة" كمل يقولون في بلاد الشام، لكن معطيات ومكونات تاريخية وثقافية وسياسية متفردة، جعلتهم بمثل هذا المزاج الحاد
لماذا إذن، يجبر التونسيون أنفسهم أمام ثلاثة خيارات مرّة: الإذعان والوفاق أو الكذب والنفاق أو الهروب والطلاق؟ هذا إذا أخذنا بالاعتبار أن الشعب التونسي لم يعرف مجاعة ولا دكتاتورية طيلة تاريخه القديم والحديث، لا بل وعاش ـ رغم محدودية الثروات الطبيعية ـ حياة أقل ما يقال فيها أنها “مستورة”، وفي ظل نظام مدني ليبرالي التوجه، يصون الحد الأدنى من الحريات الفردية، ويحترم حقوق المواطن في الصحة والتعليم، بشكل يفوق الكثير من الأنظمة العربية والأفريقية.
المشكلة تكمن في أن التونسيين يقارنون أنفسهم مع الأوروبيين بحكم التقارب الجغرافي، متناسين التباعد الاقتصادي والهوة التي تفصل بين ضفتي المتوسط.
عزيزي المواطن التونسي، من حقك أن تكون طموحا، وحتى متطلبا ورافضا لحياة الفقر والخصاصة، لكن تأمل حواليك، ماذا قدمت وفعلت كي تقارن نفسك مع من هو أفضل منك نموا وتنمية، وأقدم منك معايشة لأنظمة سياسية ضاربة في التطور الصناعي والحقوقي؟
ألم نتعظ من مقولة “كيفما تكونوا يُولّى عليكم”؟ هل أن من يحكمك ويدير شؤون بلادك المالية والاقتصادية ويشرف على حقوقك الاجتماعية قادم من بلاد أسكندنافية مثلا؟
إن كان للزعيم الحبيب بورقيبة من أخطاء، فهو أنه دائم التغزل بالنموذج الأوروبي، والانتقاد للأنظمة العربية العسكرية، حتى ظن أبناء شعبه أنهم متفوقون بطبيعتهم، ويحق لهم ما يحق للأوروبي من امتيازات ناسين أنهم من هذا العالم الثالث بكل ما يحمل من مساوئ وفقر وتخلف.
ليس الأمر تبريرا لمظاهر الفساد التي تُسأل عنها الطبقة الحاكمة أولا، لكن المثل الشعبي التونسي يقول “شوية من الحناء، وشوية من رطابة اليدين” أي أن المسؤولية يتقاسمها الحاكم والمحكوم، ويتحملها أيضا التاريخ والجغرافيا والمعطيات الثقافية، بدرجة أقل.
علينا أن نعدّل من هذا المزاج المتوتر المتقلب فتونس ليست استثناء، وكلنا اليوم في الهواء سواء.