الإعلام الحكومي الجزائري.. لسان الحال وقدسية المهنة

كان بإمكان التغيير الذي جرى على رأس التلفزيون الحكومي الجزائري أن يمر مرور الكرام، ولا يحتل سوى مساحة صغيرة في أسفل الصحف المحلية، لكن تزامن القرار مع لغط كبير متصل بمجريات مشاركة المنتخب المغربي في المونديال، سلط عليه أضواء وتغطية دولية لافتة، ليتأكد بذلك فشل المؤسسة التي تلتهم سنويا ميزانيات ضخمة من المال العام مرتين، الأولى: عندما أساءت التعامل مع الحدث، والثانية: عندما انهزمت أمام حملة شبكات التواصل الاجتماعي.
والعارفون بشؤون التلفزيون الحكومي الجزائري لا يعتبرون التغيير مفاجئا أو مثيرا بتاتا، لأنهم تعودوا على هكذا حركات وعلى قصر عمر مدراء المؤسسة، فقد سبق لمدراء آخرين أن غادروا في ظروف مختلفة، وسيغادر المدير الجديد كما غادر سلفه، لأن التقاليد شكلت انطباعا لدى المهتمين، بأن كل مسرول كبير دنت نهايته يعين في ذلك المنصب.
وإذا كان الأمر في السابق لا يتعدى صداه حدود المبنى أو قاعات التحرير المحلية، فإن الصدى هذه المرة تعدى حدود البلاد، لسوء اختيار توقيته ومضمونه. ورغم وجود أسباب أخرى مؤكدة، إلا أن تعاطي التلفزيون مع نتائج المغرب في المونديال جعله في خانة المتهم رغم أنفه في محاكمات لا يهمها الغوص في التفاصيل ما دام لديها الدليل الجاهز.
◙ في الغالب صنف الإعلام الحكومي في العالم الثالث والعالم العربي تحديدا، من صنف سياسات النخب الحاكمة، ولذلك عادة ما تجده منخرطا في قراراتها وخياراتها
صحيح الخزينة العمومية هي التي تمول التلفزيون الحكومي، لكن اللّبس الذي يكتنف مهمة الإعلام العمومي في البلاد ورسالته، فمثل هذه الواقعة هي التي جنت على التلفزيون، وتغلغل تعليمات ما خلف الأسوار هو الذي غيب المهنية داخل قاعة التحرير.
الأمر ليس سرا في هذا الشأن، فقد سبق للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة أن خاطب محدثيه بالقول “أنا رئيس التحرير”، وكانت قد أثيرت حينها قضية مماثلة تعلقت بتمرير وكالة الأنباء الرسمية رسالة مباشرة لتوجيهات الرجل الأول في الدولة، وليس بوتفليقة هو صاحب التوجه الحصري، فقد حدث قبله ويحدث بعده، لأن السلطة تعتقد أنها هي مالكة الإعلام العمومي وليس الدولة بمختلف مكوناتها ومؤسساتها.
قررت وزارة الاتصال الجزائرية إقالة مدير التلفزيون الحكومي شعبان لوناكل، واستخلافه بنذير بوقابس، دون أن تقدم توضيحات حول خلفيات القرار وأسبابه، وبذلك فتحت الحكومة على نفسها موجة من التأويلات والقراءات، وكأنها لا تعلم أن التكتم غير المبرر هو الذي سيمنح الفرصة لذوي النوايا الطيبة والسيئة معا، للخوض في دلالات التداخل بين المؤسسات الرسمية والإعلام العمومي.
أزمة الإعلام الجزائري معقدة وأزمة الإعلام الحكومي أعقد، فهو إلى جانب أنه يسير بأكثر من رأس، سببت له حالة الالتباس في الدور والمهمة، سقوطا في مطب المفعول العكسي، فأضر بذلك بنفسه وبالخطاب الرسمي الذي يروّج له، فقد كان بإمكانه تجاوز العديد من الوقائع التي ضربت مصداقيته أمام أبسط المواطنين الجزائريين، والآن يجد نفسه عاجزا حتى على الدفاع عن نفسه أمام الذباب الإلكتروني ونظيره في أوروبا والعالم العربي.
في الغالب صنف الإعلام الحكومي في العالم الثالث والعالم العربي تحديدا، من صنف سياسات النخب الحاكمة، ولذلك عادة ما تجده منخرطا في قراراتها وخياراتها. وإذا كان دعم المنتخبات والنوادي الكروية في مختلف المحافل ومناصرتها، هو ذوق لا يناقش كغيره من الألوان والأكلات ويستوجب الاحترام، فإن المهنية الصحفية مقدسة، وإلا صار أصحابها صحافيين أسرى لدى قوى غير صحفية.
◙ تعاطي التلفزيون مع نتائج المغرب في المونديال جعله في خانة المتهم رغم أنفه في محاكمات لا يهمها الغوص في التفاصيل ما دام لديها الدليل الجاهز
ظل التلفزيون الحكومي مرآة عاكسة للتوجهات السياسية للسلطة، فحينما كانت الإرادة السياسية في تسعينات القرن الماضي تتجه إلى إرساء قواعد انفتاح سياسي ومشهد تعددي، ظهر التلفزيون الجزائري كوسيلة إعلامية عمومية رائدة في خدمة الدولة وليس السلطة. ولما انقلبت الأوضاع عكس ذلك، صارت المؤسسة ناطقا باسم السلطات المتعاقبة، الأمر الذي كلفها السقوط في أكثر من مرة في مطب الاضطراب والارتباك بشكل يكرّس أحد وجوه الأزمة المتشابكة.
أحد المعلقين علق على صفحته، “هذا التلفزيون بات يؤلم القلب، فلا هو حمى الدولة ولا هو حمى نفسه”، في تعبير عن الارتباك والارتدادات التي يفرزها أداؤه كوسيلة عمومية على سمعة البلاد، وإلا ما مبرر تزامن قرار التغيير مع اللغط الذي أثير حول تعاطي المؤسسة مع نتائج المنتخب المغربي في مونديال قطر، رغم أن المسألة كانت بعيدة عن ذلك.
مسؤول سام أقسم بأغلظ الأيمان على أنه لا رابط بين الموضوعين، لكن من يعتقد بغير ذلك، فلقد ورط التلفزيون الحكومي نفسه في خطأ إعلامي فادح، والتغيير تم في نفس الأجواء، فمن يؤمن بقسم المسؤول؟ ولم يكن ليحدث ذلك لولا التداخل في إدارة هذا المؤسسة الحكومية، وتمدد يد السلطة في توجيه إدارة الشأن الإعلامي وأدائه داخلها.
الخدمة العمومية في الإعلام الحكومي الجزائري هي محل جدل أزلي، فباستثناء سنوات قليلة تزامنت مع توجه البلاد إلى التعددية الحزبية والسياسية في نهاية ثمانينات القرن الماضي فإن الباقي كله تكريس لخطاب السلطات المتعاقبة والنطق باسمها بدل أداء دور الذراع الإعلامية للدولة.
ولأن أهل مكة أدرى بشعابها، فإن دخول إرادة من خارج أسوار التلفزيون والإذاعة والوكالة الرسمية لتوجيه الأحداث وفق منحى معين هو الذي جنى على المؤسسة وجعلها مستهدفة بحملة مغرضة، فقد وجدت الخلايا الإلكترونية المبرر الكافي لشن هجومها، رغم أنه لا أحد يجزم بالسبب الحقيقي للتغيير، إن كان على خلفية تجاهل فوز المغرب على إسبانيا، أم لأنه نشر خبر فوز المغرب على البرتغال.