هاينريش بل جندي عائد من جبهة النازيين ينتشل أبطال قصصه من الأنقاض

"وكان مساء".. قصص تمنح قارئها بصيصا من الأمل.
الاثنين 2022/12/19
كاتب يحكي ببساطة ما عايشه

الكثير من الأدباء كانوا في فترة ما مجندين في الحرب العالمية، ورغم التناقض الصارخ بين فعل الكتابة وفعل الحرب والدمار، فإن هؤلاء استثمروا الأوضاع المأساوية واللاإنسانية للحرب في نصوصهم، وقدموا للمدونة العالمية أدبا مختلفا حتى ما بعد نهاية الحرب، ومن هؤلاء الكاتب الألماني هاينريش بل الذي يمثل أدبه شهادة قوية على واقع صعب ومعقد.

هل للأدب عمر افتراضي؟ وبعد كم من الأعوام تفقد الأعمال الأدبية قيمتها، أو على الأقل بريقها؟ أم أن الأعمال الجيدة لا تفقد قيمتها أبدا؟ هذه الأسئلة طرحتها الأوساط الأدبية قبل سنوات قليلة خلال الاحتفال بمرور مئة عام على مولد الروائي والقاص الألماني هاينريش بُل (1917 – 1985)، الذي حصل عام 1972 على جائزة نوبل للآداب. آنذاك كرمته لجنة نوبل تقديرا “لإبداعاته التي جددت الأدب الألماني وأثْرته”. لكن، كيف يبدو هذا الإثراء بعد مرور نحو خمسين عاما على منحه هذا الوسام الأدبي؟

بهذا التساؤل يفتتح المترجم سمير جريس الطبعة الثانية المزيدة مقدمة للمختارات القصصية “وكان مساء..” التي اختارها وترجمها من أعمال الروائي والقاص الألماني هاينريش بل، ليلقي بعد ذلك الضوء على مجمل سيرة بل الإبداعية والإنسانية وأثر منجزه الإبداعي في الأجيال التالية لجيله.

لسان حال البسطاء

بل لم يكن مجددا في الشكل الأدبي ولا صاحب أسلوب ناصع، إنجازه كان في البساطة وفي مضمون أدبه
بل لم يكن مجددا في الشكل الأدبي ولا صاحب أسلوب ناصع، إنجازه كان في البساطة وفي مضمون أدبه

يرى جريس في مختاراته، الصادرة عن دار سرد للنشر، أن هاينريش بُل كان بالفعل واحدا من أبرز ممثلي التيار الأدبي الجديد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ضم هذا الجيل كتابا مثل بُل وغراس وإنتسنسبرغر، ومعظمهم قضوا الحرب العالمية الثانية بالزي العسكري، وكان همهم بعد الحرب هو التعبير عن خبرة الحرب وفترة النازية والطغيان، كما كانوا يطمحون إلى تخليص اللغة الألمانية من رطانة هتلر وأعوانه.

 كانت بداية بُل مع القصة القصيرة التي كتبها متأثرا بأسلوب الأميركي هيمنغواي، والألماني فولفغانغ بورشرت الذي قضى نحبه في ريعان شبابه بسبب مرضه أثناء تأدية الخدمة العسكرية.

وأكد المترجم أن بل كان في قصصه المبكرة يعبر عن الحرب العالمية الثانية بعيون المجند الذي يكره الحرب، ليس لأنه بطل مقاوم، بل لأنه ببساطة شاب في مقتبل العمر يريد أن يحيا ويتزوج ويربي أطفاله، غير أنه يرى كل شيء في حياته قد بات مؤجلا.

عبثية الحرب وضعف الجنود في ساحة القتال وعجز الإنسان البسيط عن فعل أي شيء، ثم الأنقاض التي خلفتها الحرب في البيوت والنفوس، كل هذه موضوعات تناولتها قصص تلك الفترة، مثل “عند الجسر” (1949)، أو “موت إلزه باسكولايت” (1953)، أو “أيها الجوال، إذا وصلت أسبـ..” (1950)، وهي قصص تمنح قارئها، رغم أجوائها الكئيبة، بصيصا من الأمل.

أطلق النقاد على أدب ما بعد الحرب في ألمانيا تسمية “أدب الأنقاض”، وهي تسمية تنطبق تماما على قصص هاينريش بل التي سبق ذكرها، أو رواياته في خمسينات القرن الماضي، مثل “أين كنت يا آدم” و”لم ينطق بكلمة واحدة”. بهذه الأعمال تحول بل إلى لسان حال البسطاء والخاسرين والجنود العائدين من الجبهة بعد الحرب.

وأوضح جريس “في سنوات الستينات انشغل بل بتصوير أحوال المجتمع في فترة ما سمي بـ’المعجزة الاقتصادية’، منتقدا التحولات التي شهدها المجتمع الاستهلاكي الجديد الذي كان يقدس المال من ناحية، ويقوم من ناحية أخرى بعملية إزاحة وكبت جماعي لفترة النازية والحرب، ونجد أثر ذلك في ثلاث من قصص هذه المجموعة، وهي: ‘الشغل شغل’ (1950)، و’كما يحدث في الروايات السيئة’ (1956)، و’حكاية عن هبوط أخلاقيات العمل’ (1963)”.

بل لم يكن مجددا في الشكل الأدبي ولا صاحب أسلوب ناصع، إنجازه كان في البساطة وفي مضمون أدبه

وجه بل، وهو الكاثوليكي المتدين، أيضا نقدا حادا وعنيفا إلى الكنيسة باعتبارها مؤسسة وسلطة تماشي النظام السياسي. في تلك الفترة كتب واحدة من أشهر رواياته، وهي “آراء مهرج”، التي تحولت إلى فيلم سينمائي ناجح، وعالج فيها موضوعا من موضوعاته الملحة، وهو رفض الاندماج في المجتمع واختيار الحياة على الهامش بكامل الوعي. هذه هي الخبرة التي خرج بها الكاتب من فترة الجندية في الجيش النازي، والتي جعلته يحاول التهرب من الخدمة العسكرية بكل السبل، ومنها مثلا تزوير تصاريح الإجازة.

وتابع أنه في مطلع السبعينات كتب بُل رواية “صورة جماعية مع سيدة” التي أشادت بها لجنة نوبل. وما كاد يتسلم جائزة نوبل في ستوكهولم عام 1972 حتى وجد نفسه يخوض في ألمانيا صراعا قاسيا مع الصحف اليمينية متمثلة في صحيفة “بيلد” الشعبية، إذ دافع، أو بالأحرى حاول أن يتفهم دوافع مجموعة “بادر ماينهوف” التي قامت بأعمال إرهابية ضد رموز الدولة، فوجهت له الاتهامات بأنه “متعاطف مع الإرهاب”.

ما تعرض له بل من صحافة الإثارة في زمن الإرهاب اليساري كان هو الموضوع الذي تناوله في روايته الشهيرة “شرف كاتارينا بلوم الضائع أو: كيف ينشأ العنف وإلى أين يؤدي”، التي حولها المخرج فولكر شلوندورف (مخرج “الطبل الصفيح”) إلى فيلم ناجح.

أديب ناقد

هه

كشف جريس أن أعمال بل كانت تلقى صدى كبيرا فور صدورها، وتثير النقاشات والجدال. وفي أعقاب فوزه بجائزة نوبل ترجم عدد كبير من أعماله إلى أهم لغات العالم، ومن بينها العربية. وبات بإمكان القارئ العربي أن يطالع قصصه القصيرة وعددا من رواياته. ولكن، ماذا يتبقى من أدب بل الآن؟

لقد كان صاحب “آراء مهرج” لسنوات طويلة من أكثر الكتاب الألمان نجاحا، بيع من أعماله ما يزيد عن 16 مليون نسخة في المنطقة الألمانية وحدها، وفي الستينات والسبعينات كانت نصوصه مقررة دوما على تلاميذ المدارس، فهي تعكس بصدق التطور السياسي والاجتماعي في ألمانيا بعد الحرب. لكن أعماله تبدو اليوم، لاسيما رواياته، قد تقادمت وفقدت الكثير من ألقها، ويبدو أدب بل متواريا خلف مواقفه الأخلاقية والسياسية الشجاعة.

سُمي أدب ما بعد الحرب في ألمانيا بـ"أدب الأنقاض" وهي تسمية تنطبق تماما على قصص هاينريش بل

وأشار جريس إلى أن ما يتبقى من أدب بل هي قصصه القصيرة التي اختار نماذج منها في هذه المجموعة، مبينا أن بل كان يعتبر فن القصة القصيرة “أحب الأشكال الأدبية” إلى نفسه، وربما يكون قد هجر ذلك الفن لشعبية الرواية. غير أنه لم يكن روائيا، هكذا يجمع معظم النقاد الألمان.

وتعتبر قصصه الساخرة من أجمل ما كتب، مثل قصة “سيحدث شيء” (1956) في هذه المجموعة، التي تعتبر مثالا رائعا على فن القص الساخر الفاضح لعيوب المجتمع، فن ينخز ويجرح دون أن يدمي، مثيرا ابتسامة لا تغادر وجه القارئ.

لم يكن بل مجددا في الشكل الأدبي، ولا صاحب أسلوب ناصع. إنجازه كان في البساطة وفي مضمون أعماله التي عبرت عما يعتمل في نفوس ملايين، أو كما قال كارل راغنر غيروف في كلمة الاحتفال بمنحه جائزة نوبل “إن تجديد الأدب الألماني لم يحدث عبر التجريب الشكلي، فالذي يواجه الغرق لا يمارس السباحة التوقيعية”.

أخيرا تضم المختارات قصصا لم تسبق ترجمة أغلبها إلى العربية، وهي تبين التطور الذي شهدته قصص بل مضمونا وأسلوبا، ولملاحظة هذا التطور رتب جريس المجموعة ترتيبا زمنيا حسب النشر الأول، فكانت القصة الافتتاحية هي “ساقي الغالية” (1948)، والقصة الختامية هي “حكاية عن هبوط أخلاقيات العمل” (1963)، وبينهما قصص سنوات الخمسينات.

وتطمح هذه المختارات إلى تقديم بعض أعمال أديب ناقد لا يقدم في أعماله تبريرا لكارثة النازية، ولا وصفا لأعمال بطولية خارقة في مقاومة النظام، أو تمجيدا لعظمة شعبه؛ كاتب يحكي ببساطه ما عايشه، محاولا إيجاد رد على السؤال: لماذا حدث ما حدث؟

13