اطمئنوا.. التونسيون ليسوا "نمورا في يومها العاشر"

يكاد يتفق الجميع على أن الحريات بمختلف أشكالها الفردية والجماعية، هي أنفس ما غنمه التونسيون بعد انتفاضة 2011 التي تلتها الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي .. وماذا بعد؟
أقبل التونسيون في فورة انتقامهم من سنواتهم الصعبة على ممارسة تلك الحريات المفكوكة والمنتزعة بمنتهى النهم والشراهة.
الأمر يشبه حكاية زوربا مع الكرز في رواية نيكوس كازنتزاكي الشهيرة، إذ يتذكر البطل طفولته وكيف التهم كميات هائلة من فاكهة الكرز التي قطفها خلسة، وكان يحبها بسبب حرمانه منها.
وما كاد بطن زوربا الصغير يمتلئ بهذه الفاكهة التي كانت بالأمس القريب شبه محرمة عليه، حتى بدأ بالتقيؤ إلى أن عافها وكرهها، ولم يعد يرغب في تناول ولو حبة واحدة منها.
غاب عن أذهان الكثير من التونسيين أن الحريات قابلة للاستهلاك والاندثار، وحتى الفساد مع طول المدة وانتهاء الصلاحية، بالإضافة إلى “الأضرار الجانبية”، شأنها في ذلك شأن أي مادة غذائية أو دواء.
◙ يجب أن نعترف بأن لا حريات وقعت مصادرتها علانية بعدما أقدم عليه الرئيس سعيد منذ عام ونصف العام كما يلاحظ الرأي العام في الداخل والخارج
وقد تكون هذه الحريات مسمومة أو وهمية وعديمة الفاعلية إذا لم يرافقها “نظام صحي متوازن” أي إذا كانت مجرد جرعات عشوائية تنذر بالانزلاق نحو “الأوفر دوز” أو الجرعة الزائدة.
هذا ما حصل في تونس فعلا، بالإضافة إلى الأخطر من ذلك كله، وهو استخدام الحرية لقمع الحريات، وإحالتها إلى فوضى عارمة عن طريق إتاحة الفرصة للغوغاء بانتهاك الخصوصيات وقمع الحريات الفردية باسم الدين والقيم المجتمعية، وإلى غير ذلك من التأويلات والقياسات على أكثر من منوال.
هذا على مستوى الحريات التي لم ترتق إلى الديمقراطية كمؤسسة دستورية وممارسة حضارية تكفلها القوانين المدنية التي تعترف بالتعددية.
أما على مستوى سير الدولة والمجتمع، فلا ينبغي الحديث فيها عن حريات دون تنمية وتطوير، فلا يمكن للأفواه أن تستغني عن اللقمة بالكلمة وتكتفي بالتحدث بدل الأكل.
وبسبب ذلك كله، تتعالى أصوات في تونس بالحنين إلى زمن بن علي، لما كان يوفره من حد أدنى في التنمية الاجتماعية وكذلك الأمن والاستقرار المعيشي الذي كان يكفل للمواطن البسيط حياة كريمة تحميه وعائلته من الوقوع في الفاقة.
الحقيقة أن حرية التعبير لم تكن معدومة تماما زمن بن علي، ثم إنها لا تعني التونسيين جميعهم بل كانت مطلبا يخص النخب الثقافية والسياسية فلا يهتم له المواطن البسيط إلا نادرا، وفي حدود المستويات الدنيا من التطرق إلى الشأن السياسي، والتذمر من حالات الفساد التي تورط فيها محيطون بالرئيس الراحل.
أصبح بعض التونسيين يسخرون من أنفسهم حين خرجوا إلى الشارع عشية 14 يناير 2011 رافعين شعار “خبز وماء، وبن علي لا”، قائلين بتفكه مرّ “إن الهدف قد تحق اليوم، إذ رحل بن علي، ورحل معه الحد الأدنى من العيش الكريم، وبتنا نعيش على الخبز والماء فعلا، بعد رحيله”.
الآن، وبعد أن أقدم الرئيس قيس سعيد، على إزاحة من يتفق التونسيون على اتهامهم بما آلت إليه البلاد من فقر وإملاق رافقا تلك الحريات المزعومة طيلة عشر سنوات، ظهرت أصوات تنادي بـ”عودة الحريات إلى البلاد” بعد حدوث ما وصفته بـ”الانقلاب على الدستور”.
يريد هؤلاء الذين نظموا صفوفهم تحت يافطة “جبهة الإنقاذ” أن يوحوا للناس بأن نظام ما بعد 25 يوليو 2021 قد خنق الحريات التي كان “ينعم” بها الشعب التونسي.
لم يشر هؤلاء إلى أن أخطر ما تعانيه البلاد هو الوضع المعيشي الكارثي الذي أوصلتنا إليه حكومات ما بعد 2011 برعاية حزب راشد الغنوشي الإسلامي بل إلى الخوف على الحريات.. الحريات التي كانت تُستخدم في النهب والفساد ومصادرة الحريات نفسها.
◙ غاب عن أذهان الكثير من التونسيين أن الحريات قابلة للاستهلاك والاندثار، وحتى الفساد مع طول المدة وانتهاء الصلاحية، بالإضافة إلى "الأضرار الجانبية"
الصراحة، يجب أن نعترف بأن لا حريات وقعت مصادرتها علانية بعدما أقدم عليه الرئيس سعيد منذ عام ونصف العام كما يلاحظ الرأي العام في الداخل والخارج، بدليل أن معارضيه يخرجون كل يوم ويقولون ما يشاؤون، وذلك على عكس “ديمقراطيتهم” التي قمعت كل من عارضهم.. ويبكون عليها الآن.
قد يقع المواطن البسيط في معادلة مغلوطة مفادها أن التنمية والديمقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا، وذلك بسبب أصوات المتباكين على الماضي المنسوب إلى بن علي، كحزب عبير موسي أو الأمس المنتمي إلى الغنوشي، كحركة النهضة، أو حتى الحاضر الذي قد يناصر فيه الكثيرون شخص قيس سعيد بعاطفة انفعالية ودون تفكر عقلاني يهتم لإنقاذ البلاد وليس لصنع الزعماء.
ما يجعل الرئيس سعيد جديرا بالثقة من بين هؤلاء جميعا، هو أن الرجل اختار العمل بصمت وأوعز لحكومته بمسك المواضيع الاقتصادية الحساسة التي تهم لقمة المواطن لأن الديمقراطية لا تطهى ولا تؤكل، ولن تكون بديلا للخبز والزيت، ناهيك عن اللحم كما يقول أحد المراقبين السياسيين.
وما يطمئن له المرء هو أن تونس التي دخلت نادي الديمقراطية بوعي وغير وعي، وبتضحيات وهنات أيضا، لن تخرج منه أبدا، أما أن توفر الدولة العيش لشعبها مقابل حريته وكرامته فذاك أمر بعيد المنال، وليس من تركيبة شعبها العنيد.
اطمئنوا أيها الخائفون على مستقبل الديمقراطية في تونس، لن نكون مثل “النمور في يومها العاشر” للكاتب السوري زكريا تامر، الذي تحدث عن نمر اشتد به الجوع في القفص، فجاءه مروضه ببعض الحشائش.
في البداية صدمه طعمها، وابتعد عنها مشمئزا، لكنه بدأ يستسيغها رويدا رويدا.
وفي اليوم العاشر، اختفى المروّض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطنا، والقفص مدينة.