أدب السيرة الذاتية نوع من العلاج

انتشرت حول العالم العديد من الطرق غير التقليدية لتحسين مزاج الإنسان وخلق بيئة صالحة وإيجابية لمواجهة معاناته، وكان أحد أنجح الطرق في العصر الحديث العلاج بآليات نفسية خاصة، أهمها العلاج بالسيكودراما والحكي والكتابة. لكن أي كتابة يمكن للإنسان أن يعالج نفسه بها؟
ما الغرض من كتابة السيرة الذاتية؟ ما العلاقة التي تربط الكتابة بشفاء النفس وولادتها مرة أخرى؟ ما الجوانب الإيجابية الخفية للوحدة والألم؟ كيف يستطيع الكاتب مواجهة الحقيقة من خلال الكتابة؟ ما أهم السمات التعبيرية والفنية للكاتبين من خلال الروايات المختارة؟ كيف تتم استعادة الذكريات والمشاعر من خلال الكتابة؟
هذه التساؤلات وغيرها حاولت أطروحة المترجم والناقد مينا شحاته والتي حصل بمقتضاها على درجة الماجستير وحملت عنوان “السيرة الذاتية في روايتي ‘صوت الألف صمت‘ لإيمما لاسبينا و‘أحلام سعيدة يا صغيري‘ لماسيمو جراملليني – دراسة تحليلية في ضوء التحليل النفسي”، الإجابة عليها انطلاقا من تناول أثر كتابة السيرة الذاتية في الوصول إلى شفاء النفس الإنسانية وإعادة ولادتها وإصلاحها من جديد من خلال الدراسة التحليلية لروايتين تنتميان إلى أدب السير الذاتية.
العلاج بالكتابة
كتابة السيرة الذاتية لها أثر بالغ في الوصول إلى شفاء النفس الإنسانية وإعادة ولادتها وإصلاحها من جديد
تأتي أهمية الأطروحة كونها سعت إلى إبراز أهمية العلاج بالكتابة في عصر ما بعد الحداثة، حيث أن هناك الكثير ممن يقرأون الأعمال الأدبية، ولكن قليلين هم من يترجمون حياتهم إلى صفحات وكلمات حية تنطق بمستوى معاناتهم وعنائهم في الحياة، وهذا ما يقوم به البعض للوصول إلى طريق جديد قد يجدون خلاله ذواتهم وأهدافهم الضائعة. وأيضا إظهار العلاقة بين أدب السيرة الذاتية في ما بعد الحداثة، ونظريات التحليل النفسي واللذين قد يكون لهما أثر بالغ في تشكيل حياة الإنسان من جديد.
تقوم فكرة الأطروحة وفقا لشحاته على أن لاسبينا وجرامللينى قد قاما بإيجاد فرصة من خلال الكتابة للعثور على ذواتهما مرة أخرى بعد حياة قاسية مليئة بالشكوك والتخلى من أقرب الأقربين، ومن خلال هذه الفكرة تسلط الأعمال الأدبية الضوء على العديد من القضايا الهامة مثل الأثر النفسي الذي تتركه الأم عند غيابها بالموت أو بالتخلي، كما تتجلى أيضا قضية الوحدة التامة في حياة الفرد والتي قد تكون بدايتها مؤلمة إلا أنها بالطبع تحمل جوانب إيجابية كفرصة للتأمل أو الكتابة عن النفس وإلى النفس.
ويرى شحاته أن كتابة السيرة الذاتية في عصر ما بعد الحداثة تشبه كتابة الرواية، أو هي كتابة رواية، لكنها ليست من الخيال، بل من واقع الكاتب ومن تفاصيل حياته، ولا يجب أن يخترع الكاتب أحداثا من خياله وإلا خرج الكتاب من تصنيف السيرة الذاتية إلى الرواية.
ويقول “تظهر إشكالية أدب السيرة الذاتية في عصر ما بعد الحداثة في أنها تتأثر حتما بالأدب الروائي والكثير من كتاب السيرة الذاتية كانوا في الأصل روائيين مثل عبدالله الطوخي وجمال الغيطاني في مصر، وأيضا ماسيمو جرامللينى وسيمونا فينشى في إيطاليا، إلا أن أسباب التأليف واحدة لا تتغير، وما يميز أدب السيرة الذاتية أيضا هو الاعتماد على السرد بضمير المتكلم، وعرض الوقائع فيها بطريقتين مختلفتين إما الترتيب الزمني وإما حسب المواضيع مثل رواية ‘ضمير زينو‘ للكاتب الإيطالى سفيفو”.
ويضيف “مثلا نقرأ أيضا في ‘سنين الحب والسجن‘ لعبدالله الطوخى: ‘إننى الآن أكتب على مستويين من الزمن: زمن لحظات التذكر وأنا في السجن عقب الضربة المباشرة عام 1953 والزمن الحالى الذى أجلس فيه الآن إلى مكتبى عام 1993، أربعون عاما بالكمال والتمام، إنني لا أكتب فقط تاريخ حياة، وإنما أيضا تاريخ عصر‘”.
وفي العلاقة بين الكتابة بشكل عام وبين التحليل النفسي نجد أنه في عام 1986 توصل عالم النفس الشهير جيمس بيكر إلى علاج نفسي جديد مبتكر وملهم، بعد أن طلب من مجموعة من الطلاب الكتابة لمدة 15 دقيقة يوميا عن أكبر صدمة أو أصعب وقت مر عليهم، ليكتشف بعد 6 أشهر من الملاحظة أنهم تمتعوا بصحة أفضل، ليبدأ علم النفس في دراسة العلاقة بين ما يعرف بـ”الكتابة التعبيرية أو العلاجية” وعمل الجهاز المناعي لكشف تأثيرها على حالات صحية بدنية ونفسية عديدة، مما أدى إلى نشأة ما يعرف بالعلاج بالفن بوجه عام أو العلاج بالكتابة بوجه خاص، ويشمل مشاكل الصحة العاطفية والسلوكية أو النفسية، والتعلم أو الإعاقة الجسدية، وظروف الحياة.
ويوضح شحاته أنه إذا كان علم نفس الحداثة يعنى بشكل رئيسي بدراسة الظواهر والحالات النفسية ذات الطابع العام بهدف استنباط قوانين وقواعد ذات طابع شمولي تنطبق على البشر في كل الأمكنة والأزمنة، فإن علم نفس ما بعد الحداثة يفصل فصلا دقيقا بين ما هو ذاتي وبين ما هو موضوعي ويؤمن بأن دراسة أي ظاهرة نفسية ينبغي أن لا تؤدي في نهاية الأمر إلى صياغة نظريات أو مبادئ ذات طابع شمولي ثابت، ويشغل نفسه بما هو محلي وفرعي وهامشي وبالمشاركة الفعالة في الحياة اليومية. وبهذا تكون المعرفة التي يكتسبها ذات طابع زمني ومكاني محدد وتفتقر إلى البعد التاريخي والجغرافي.
وكان إريك فروم (1892 – 1940) عالم النفس الاجتماعي أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت النقدية، من الأوائل الذين طوروا اتجاها خاصا في التحليل النفسي ووضع مقدمات نظرية في نسق الأخلاق في إطارها الإنساني، موجها انتقاداته إلى الفرويديين الذين ما زالوا يستخدمون طرقا بيروقراطية قديمة في التحليل النفسي، محاولا دمج التحليل النفسي بالنظرية الماركسية مع اختلافه معها، مؤكدا على ضرورة عدم فصل الإنسان عن أوضاعه الاجتماعية.
ويلفت إلى أن ما بعد الحداثة ترى أن اللغة هي أحد أهم العوائق نحو معرفة الحقيقة، فاللغة هي وسط المعرفة ولكنها تبعا لما بعد الحداثة لا يمكنها أن تعبر عن الحقيقة بكفاية، ذلك لأن هناك شرخا كبيرا بين الكلمات والحقائق التي يفترض أن تعكس فحواها، فالكلمات لن تعرض الحقيقة الموضوعية لأنها ـ أي الكلمات ـ أفكار بمعنى أنها اتفاقيات بشرية. وعليه فإننا لن نتمكن من معرفة الحقيقة الموضوعية إذا ما وظفنا هذه الاتفاقيات البشرية. وكل ما يمكننا أن نحصل عليه هو خلق الحقيقة بواسطة الكلمات. وهذا هو جوهر النظرية البنائية. وذلك يعني أننا لن نتوصل إلى تقارير كونية عامة عن الإنسان، فضلا عن أننا لن نستطيع أن نحدد ما إذا كان هناك شيء يمكن أن نطلق عليه الطبيعة البشرية، وتبعا لذلك فإن ما بعد الحداثة لا تعترف بما يسمى بالطبيعة البشرية، بل إنها تذهب أبعد من ذلك حين تنفي وجود الذات الفردية.
إيجاد الذات
تنقسم الأطروحة إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، تتحدث المقدمة عن نشأة السيرة الذاتية والأسباب الرئيسة لكتابتها، وتوضح دور الفرد في رحلته للعثور على نفسه ورعايتها. كما تستعرض روايتي لاسبينا وجرامللينى، حيث نتعرف على تجربتهما الحياتية وفقًا لرحلة صعبة ومعقدة. أما الفصل الأول “السيرة الذاتية والتحليل النفسي”، فيستعرض أصول السيرة الذاتية في الماضي وحتى الوقت الحاضر، وكيف تصبح وسيلة للتعبير عن نفس وأفكار أو مشاعر الفرد، وينقسم إلى ثلاثة مباحث، الأول “مفهوم السيرة الذاتية” ويوضح أنه تأتي لحظة أساسية في الحياة تظهر فيها الحاجة إلى الكتابة بطريقة مختلفة عن المعتاد، ربما للوصول إلى الله أو الاعتراف به كما فعل أوغسطينوس، وربما أيضًا لعلاج النفس، هذه اللحظة قد تساعد على الوصول إلى كل ما هو مفقود أو مخفي، وتؤدى في النهاية إلى كتابة السيرة الذاتية.
في عصر ما بعد الحداثة، الكثيرون يقرأون الأدب ولكن قليلين هم من يترجمون حياتهم إلى صفحات وكلمات
أما المبحث الثاني “العلاقة بين السيرة الذاتية والتحليل النفسي” فيتتبع ظهور العلاقة بين أدب السيرة الذاتية وبين التحليل النفسي في الثقافة الحديثة، وأثر ذلك في الوصول إلى شفاء النفس البشرية عن طريق كشف واستقراء ماضيها بشكل مختلف. ويتحدث المبحث الثالث عن “أساليب قص السيرة الذاتية في فترة ما بعد الحداثة”، حيث أن للسيرة الذاتية قيمة ليست للفرد فحسب، بل لها قيم أخرى في المجتمع الحديث. ففي إيطاليا، بين نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات ازدهرت السيرة الذاتية في سياق ممارسات تعليم الكبار، هذا النهج يعترف بالشخص باعتباره مؤلف واقعه الخاص، نتعرف على تاريخه الشخصي بفضل سرد القصص، حيث تصبح السيرة الذاتية رحلة تفكير وتعليم تتيح للراوي التفكير في بعض الأحداث في حياته.
ويتوقف الفصل الثاني عند أصداء السيرة الذاتية في روايتي “صوت الألف صمت” و”أحلام سعيدة يا صغيري”، أيضا من خلال ثلاثة مباحث، الأول “الشعور بالوحدة طريق لكشف خفايا النفس” الذي يتحدث عن أن الوحدة الإجبارية أوالاختيارية لها دور فعال في تكوين الفرد وكيف يمكنها تغيير الجوانب المختلفة للحياة وأيضًا إرشاد الفرد إلى طريق كتابة سيرته ووصف دوافع السلوك وسمات الشخصية التي تجعل كل شخص مختلفا عن الآخر. لذا فإن اللحظة التي نشعر فيها بالرغبة في الكتابة عن أنفسنا هي علامة لا لبس فيها على مرحلة جديدة من النضج الحقيقى.
ويتناول المبحث الثاني “السيرة الذاتية والبحث عن المعاني المفقودة” قسوة الحياة البشرية وكيف يحتاج كل إنسان إلى التوقف لفهم المشاعر والاحتياجات العميقة لذاته. أما المبحث الثالث فيتحدث عن الرحلة العلاجية لكل شخص يعاني من عذاب قاسٍ من الأسرة أو من الحياة برمتها، أو الكتابة العلاجية، وهذا هو محور السيرة الذاتية كتجديد وإعادة تكوين للنفس مرة أخرى.
وفي الفصل الثالث التقنية الفنية في روايتي “صوت الألف صمت” و”أحلام سعيدة يا صغيري”، يتم تناول شخصيات الروايتين وأثرها في قراءة الواقع، ولغة السرد والحوار، وأخيرا المكان حيث أن الاستعانة بالمكان كانت له قيمة ثمينة في التنفيس عن مكنونات مشاعر الكاتبين والإفصاح عن أسرار الحياة بشكل لا يجرح النفس عند تذكرها.
ويشير شحاته إلى أن غياب الأم والأسرة وحب العزلة يعدان بمثابة إحدى القضايا الهامة التي تناولتها الأعمال الأدبية للكاتبة لاسبينا والكاتب جرامللينى، ويذكر هنا أنه لم تكن لدى الكاتبة إيمما عائلة، حيث بدأت سيرتها الذاتية بجملة قاسية تُشير بها إلى والدتها التي لم تكن تعرفها، وتؤكد من خلالها أنها منذ لحظة ولادتها كانت الوحدة رفيقتها الدائمة فتقول “كانت لدى السيدة التي وُلدت منها عادة غريبة: إنجاب الأطفال واحدا تلو الآخر، لا لسبب إلا لكي تلقي بهم في العالم، وتتركهم على الفور عقب الولادة”.
وتستكمل الكاتبة تأكيدها على فقدان مبادئ الحياة الأساسية، وترسم لنا صورة دقيقة عن معاناة بعض البشر في فترة ما بعد الحداثة، وبسبب ظروف الحياة قد يفقدون الكثير من المعاني، فنجدها تصف شعورها بذلك وتقول “لم يُخبرني أحد ما هي الأم، سمعت هذه الكلمة لأول مرة من الأصدقاء الذين أعرفهم، ومنذ ذلك الحين أعتقد أنه في مكان ما في العالم يجب أن يكون لي أم مثلهم، مسكين ذلك الذي قد ولد أعمى فهو لا يستطيع تمييز الألوان ويحاول تخيلها كما يتخيل الموسيقى. لذلك أحاول أنا أيضا أن أتخيل أمي”.
ويرى أنه رغم كل ذلك، فكل ما تريده الذات هو أن تجد نفسها وسط عالم لا تفهمه ولا هو يريد أن يساعدها في فهمه، بل كثيرا ما يكون الألم والضعف بداية لإيجاد الذات، سواء بالاعتراض على الواقع، أو برفض الحياة برمتها حتى تبدأ الذات مجددا في رحلة بحث عن حياة جديدة، وتصف الكاتبة إيمما هذا الشعور الدفين فتقول “أشعر بضعف جسدي عظيم، ولكن الضعف الكامن في داخلي أعظم وأعظم، وعلى النقيض يجعلني هذا الضعف أقوى عقليا وذهنيا: حيث أنني أعلم جيدا أن إيماءاتي وردود أفعالي ستؤدي دائما إلى نفس العقوبات في كل مرة لا أستطيع فيها السيطرة على نفسي تجاه الضرب والغضب، إلا أننى لن أغير موقفي، وكل ما أريده هو أن أسجل اعتراضي واستيائي بأي ثمن، وأمام أي شخص مهما كان”.
ويبين أنه في رواية “أحلام سعيدة يا صغيري”، نجد أن جرامللينى كان قد فقد والدته عندما كان طفلا وذلك بعد أن انتحرت بسبب إصابتها بمرض السرطان، وقد عانى بعدها الكاتب وهو طفل ولم يعلم بحقيقة الأمر إلا في أوائل الثلاثينات من عمره، مما دفعه إلى كتابة سيرته الذاتية كتأكيد على محاولة الشفاء ومواجهة الحقيقة، فهو يعاني من عدم وجود الحب والشعور بالتفاهة، كما يبدو أي صبي ليس لديه أي حقوق في الحياة، لا يريد شيئا مميزا وكان يحاول فقط أن يكون محبوبا فنجده يعلن ذلك “لم أطلب شغفا أو عطفا مبالغا فيه، لكن كل ما كنت أبحث عنه هو الحب، كثيرا ما تظاهرت بأن هناك شخصا ما كان يودني، ولكن ويا للأسى..لم تكن الأم ضمن تلك القائمة”.
وفي موضع آخر، يذكر لنا الكاتب كيف أن للطفولة قدرة هائلة في التحكم في حاضرنا بل في المستقبل أيضا، فإن كنت تريد مواجهة حقيقة ما، ربما عليك العودة إلى ماضيك وإلى طفولتك فتجد ما تبحث عنه “إن ذكريات الطفولة تظل باقية داخل القلب، فهى لا تُمحى بسهولة مثلها مثل الوشم، وإن تخيلت أنها ميتة، فهي غافلة إلى حين ليس أكثر، تنتظر لحظة مفاجئة وغير متوقعة لكى تنهض دون حاجتها إلى أي دوافع أو أسباب”.
ولقد استطاع الكاتب جرامللينى من خلال روايته “أحلام سعيدة يا صغيري”، التأكيد على أنه لا شفاء للنفس دون ألم، وأيضا لا شفاء دون معرفة الحقيقة، لاسيما إن كانت تلك الحقيقة مؤلمة ويرفضها العقل لأي سبب، وعن ذلك يقول “دائما ما نرغب في تجاهل تلك الحقيقة المؤلمة، وفي داخلنا ذلك الشعور برفض المعاناة، إلا أننا حينها نرفض الشفاء أيضا”.
ويخلص إلى أن تلك الكلمات لإيمما أو لجرامللينى كانت بمثابة إعلان الحقيقة المؤلم الذي سوف يقودهما في وقت ما إلى معرفة حقيقة ذاتيهما أيضا والذي سيقوم بدعم كبير لطريقهما في الحياة وشفاء كاملا من آلام وتفاصيل الحياة ومعاناة القدر الذي يحاول إنسان العصر الحديث أن ينجو بنفسه منها من خلال الكتابة ومواجهة حقيقته بمفرده.