منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم والمسرحيون يتحدثون عن أزمة في المسرح

المصري إبراهيم جادالله: أنا أول عربي اعتمد رسائل الإيميل لكتابة رواية.
الجمعة 2022/11/25
فن البسطاء لم يعد قادرا على التعبير عن همومهم

ليس المسرح بمعزل عن عالم الأدب، وأن يجمع كليْهما مبدع واحد يحقق الثراء للجانبين، وفي النهاية فإن أهم المسرحيين في العالم كانوا من خلفيات أدبية وشعرية تحديدا. ويؤمن الكاتب والناقد المصري إبراهيم جادالله بتكامل العالمين. وفي هذا الحوار مع “العرب” نسلط الضوء على رؤاه وأفكاره حول قضايا المسرح والكتابة المشتركة وغيرهما من القضايا.

يشكل المسرح أحد أبرز جوانب تجربة القاص والروائي والناقد إبراهيم جادالله منذ حصوله على بكالوريوس الدراما بالمعهد العالي للفنون المسرحية، حيث عايش المسرح المصري منذ الستينات، تابع وشارك في العديد من المهرجانات المسرحية العربية من المغرب والجزائر إلى فلسطين واليمن والعراق وسوريا، وعمل خبيرا للمسرح في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس عامي 1982 و1983، ويعمل منذ سنوات على تجميع مادة تاريخية وأدبية وفنية عن حركة المسرح الفلسطيني بأراضي عام 1948 لتأكيد عروبة توجهاته ومناهجه وتقنيات عروضه، وهذا ما يمنحه اطلاعا واسعا على واقع المسرح العربي.

أما في مجال الإبداع القصصي والروائي فقد قدم العديد من الأعمال، ويقوم منذ عشر سنوات وأكثر على إنتاج أجزاء من مشروع روائي خاص بالكتابة الروائية العربية، وهو الكتابة المشتركة بينه وبين كاتبات من مختلف أقطار الوطن العربي لتأكيد مفهوم الكتابة الإنسانية، بعيدا عن تكريس مقولة كتابة ذكورية أو كتابة نسوية، وقد أصدر منه ثلاث روايات مع ثلاث كاتبات عربيات.

الفن الجماهيري

مسرح مصر وبعض المسارح التجارية بالمغرب وبيروت وبعض دول الخليج وغيرها لم تقدم إلا المزيد من التسطيح

يقول جادالله “على مدار مئة عام كانت خشبة المسرح القومي بالقاهرة ملتقى الفنانين والكتاب من مصريين وعرب، وعدت بمثابة سفير للفن المصري وقوته الناعمة، حيث عرضت على خشبته حكايات تحمل قضايا المواطن العربي وتعكس واقعه وحياته، إذ كانت دور عرض المسرح المصري عامة والقومي تحديدا مقرا للعروض المسرحية المترجمة لكبار الكتاب المصريين والعالميين، أمثال شكسبير وتشيخوف وبرخت، وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونعمان عاشور، لذا يمكن القول إن هذه الخشبة المسرحية شهدت أحد أهم الأحداث الفنية في مصر، كما كانت رمزا للثقافة الشعبية والوطنية المتراكمة عبر تاريخ طويل”.

ويؤكد أنه بعد مشاهدات ومتابعات وكتابات تمتد من الستينات حتى الآن يمكن القول إن أزمة الحكم هي نفس أزمة المسرح عموما، خصوصا أن المسرح نشأ شعبيا وجماهيريا في منطقة الأزبكية بالقاهرة، التي كانت تضج بفنون تحمل التراث الشعبي وتمس الغالبية العظمى من الشعب المصري، لقد شكلت فترة الستينات صحوة فنية للمسرح المصري بنصوص ثرية اقتربت من هموم المواطن العادي وقد استعاد المسرح هويته بعد ثورة يوليو 1952، إذ اعتمد على نصوص مؤلفين مصريين، مثل نعمان عاشور وألفريد فرج وسعدالدين وهبة ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور، لتشهد الستينات مجد المسرح المصري والعربي سواء على مستوى إنتاج النصوص أو التمثيل والإخراج.

ويضيف جادالله “كانت تقاليد وأصول المسرح المصري وفنانيه والعاملين فيه تمثل دستورا غير مكتوب تتناقله الأجيال وتتوارثه، باعتباره نهجا أساسيا، فالجدية والانضباط كانا سمة فنانيه والعاملين فيه وحتى جمهوره. والفنان الذي يبدأ حياته مسرحيا يعتاد على هذه التقاليد في عمله بعد ذلك داخله وخارجه. في أحد أفلامي مع الفنانة فاتن حمامة، كانت تنتظرني حتى ينتهي موعد البروفات، لنبدأ التصوير لإيمانها بفكرة الالتزام وأهمية وقيمة المسرح. ومما يؤسف له أن حركة المسرح المصري الآن ومنذ سنوات تعاني من فراغ كبير، وهكذا الأمر في مجال حركة الغناء والسينما تماما“.

ويلفت إلى أنه لم تخل تظاهرة عربية مسرحية طوال الثلاثين سنة الماضية في أقطار عربية مختلفة شارك فيها متابعا أو باحثا، حتى في مدن فلسطينية بالسنوات الأخيرة، من حس وحضور وأدوات مسرحية مترابطة مع إمكانياتها الخاصة المتنوعة من القوة أو الضعف، وذلك على الرغم من أن وضعية الوجود العربي عامة في كافة المجالات لا تشذ عنها وضعية الفنون المختلفة، وبخاصة المسرح الذي ضعف الإنصات إلى دوره.

ويرى أنه على مدار تاريخ المسرح منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى وقتنا الراهن والمشتغلون في مجال المسرح يتحدثون عن وجود أزمة في المسرح، ربما تمثلت في قلة النفقات، وربما في ندرة خشبات العرض، أو حتى تفتت الفرق الكبرى ورحيل النجوم والمؤسسين. لكن طيلة الوقت كان ثمة ورق جديد لكتاب جدد، وجمهور كبير يقبل على هذا الفن الذي يمكنه أن يستوعب مختلف الفنون الأخرى، بدءا من الغناء والموسيقى والرقص وصولا إلى الإلقاء والتأليف والوعظ والإلهاء والتثوير، حتى أنه في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي كان هو الفن الجماهيري الأول.

كتابة الرواية ورشة لعمل غير فردي تحطيما لسلطة الكاتب الفرد عبر إسناد تنفيذ عناصرها إلى أكثر من كاتب
كتابة الرواية ورشة لعمل غير فردي تحطيما لسلطة الكاتب الفرد عبر إسناد تنفيذ عناصرها إلى أكثر من كاتب

ويتابع “لقد استطاع المسرح منافسة السينما والتلفزيون لسنوات طويلة، حتى أن مسرحية ‘الزعيم’ لعادل إمام ظلت تعرض لأكثر من عشر سنوات على المسرح، ومازالت أعمال سعدالله ونوس ومحمد الماغوط ومحمود دياب وعلي سالم والرحبانية وغيرهم قادرة على إمتاع الناس حتى الآن، لكن السنوات الأخيرة كشفت أن المسرح العربي خرج من المنافسة، ولم يعد قادرا على إمتاع الجماهير أو جذبها، وأن تجارب مثل مسرح مصر وبعض المسارح التجارية بالمغرب وبيروت وبعض دول الخليج أو غيرها لم تقدم إلا المزيد من التسطيح، وأن فن البسطاء لم يعد قادرا على التعبير عن همومهم أو ثوراتهم أو مخاوفهم”.

ويشدد جادالله على أنه منذ ولادة المسرح العربي في أواخر القرن التاسع عشر وهو يمر بمراحل متأزمة، يزدهر سنوات تطول أحيانا وتقصر أحيانا أخرى، ثم تأتي مرحلة الهبوط، تطول أيضا أو تقصر. وآخر مراحل ازدهار المسرح العربي كانت في أواخر عقد الثمانينات، ثم بدأ نجمه يأفل من جديد، إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي، حيث يمر بأسوأ مراحله منذ تأسيسه.

وأسباب أفول المسرح، في رأيه، كثيرة في مقدمتها عزوف الحكومات العربية عن دعمه، طالما أن هذا المسرح يتناول قضايا تعدها هذه الحكومات خطيرة عليها. وهنا نأتي إلى النقطة المهمة وهي أن المسرح لا يمكن أن ينتعش إلا في ظل الحالة الديمقراطية وتوافر المناخ لحرية التعبير. ومن يراجع تاريخ المسرح العالمي والعربي والحقب التي ازدهر فيها يدرك ذلك؛ ففي الستينات والسبعينات ازدهر المسرح قياسا بالوقت الحالي، لأن القبضة الأمنية للأنظمة الحاكمة لم تحكم سيطرتها على قطاعات المجتمع كافة، ومنها القطاعان الفني والثقافي، كما هو حاصل الآن.

ويضيف “حتى الثمانينات كان هناك هامش من حرية التحرك بمعزل عن الرقابة المشددة على كل كلمة تقال كما هو الوضع الحالي. والآن مع إدراك هذه الأنظمة أن المسرح قد يهدد وجودها، ولو بشكل غير مباشر، بدأت ترفع عنه الدعم، مثلما امتنعت عن إقامة المعاهد المسرحية التي ترفد الحركة المسرحية بأجيال جديدة. كما امتنعت عن تشكيل الفرق المسرحية الجديدة التي تلبي حاجات المجتمع الثقافية والفنية المتنامية، وحولت المهرجانات المسرحية إلى استعراضات إعلامية تهدف إلى تحسين سمعة الدولة أو النظام القائم”.

تجربة أدبية

تجارب منفردة لم تقدم إلا المزيد من التسطيح
تجارب منفردة لم تقدم إلا المزيد من التسطيح 

من المسرح وهمومه إلى كتابة القصة والرواية، يقول جادالله عن مشروع الرواية المشتركة وانتقالاته بين القصة والرواية “ببساطة شديدة، ومنذ سنوات بعيدة قلت إنني كنت مشروع شاعر وفشلت؛ لأن المسرح في البداية أخذ مني حلم أن أكون شاعرا ومن أبي حلم أن أصير مشروع واعظ ديني، ولأن لأنور السادات دورا كبيرا في هيمنة تلك المسارات المتنوعة بعد تركي مكرها أكاديمية الفنون في السنوات الأخيرة من سبعينات القرن الماضي، وبعد كامب ديفيد وما حدث مع غالبية أصحاب الآراء المخالفة لمجريات الأمور في ما يسمى بالصلح مع العدو الإسرائيلي”.

ويتابع “كان العمل بالمسرح في أقطار عربية بدءا من عمان ثم بغداد وتونس وسيلة للبقاء الاجتماعي، وأذكر إرهاصات القصة منذ البداية التي كان يحيى الطاهر عبدالله قد حضّني عليها هو والعم الروائي عبدالفتاح الجمل، وأصدرت حينها مجموعتي القصصية الأولى ‘حكاية الوابور المقدس’. ثم رأيت حالي غارقا في البحث عن حراك مسرحي عربي، والتوغل في مناهجه وممارساته ورؤاه المتنوعة، فمارست المتابعة كتابة ورصدا وتحليلا وخاصة بمسرح بريخت الذي كان مشروعي الهام عند تخرجي، وأودعت رصيدي حتى الآن ثلاثة كتب في المسرح تدرس في بعض الجامعات العربية”.

ويواصل “بعدها عانيت قليلا من الفراغ الروحي والنفسي، ورأيت أن الكتابة سترث هذا الفراغ كي تحيله إلى يقين الحياة الكاملة في نضجها والوعي بها وبضرورتها لي وللآخر، فصرت أكتب وأنا أتجول في المدن العربية بحثا عن لقمة خبز ومكان لكلمة أو فعل فني لأني كنت ومازلت أرى العمر أقصر من تحقيق كل الأمنيات الممكنة، صرت أكتب لكي أهرب من إلحاح الذكريات، لكي أقتص من الجراح وأعالج الذين تسببوا فيها! أكتب لأني أضعف من الكلام وأقوى من النسيان وأبقى من الندوب. صرت أكتب لكي أجعل الفرح ممكنا، ولأن الصبر لا يكفيني والجزع لا يفيدني والخوف لا يرهقني والشجاعة لا تصنع مني بطلا، أكتب لأني فقدت أصدقاء أردت الحديث عنهم، ولأني أدركت حقيقة أن ما نحلم به في الصغر قد لا يحدث منه شيء، أو في الأغلب لن يحدث منه شيء. وهذا ما قلته أخيرا في الجزء الثالث من مشروعي في الكتابة الروائية المشتركة مع زميلتي الكاتبة الفلسطينية حنان جبيلي عابد (النور يأتي من خلف النافذة)“.

تقاليد وأصول المسرح المصري وفنانيه والعاملين فيه تمثل دستورا غير مكتوب تتناقله الأجيال وتتوارثه باعتباره نهجا أساسي

ويقول جادالله “أكتب بإيمان شديد، وهو ما أقوم به على مستوى الكتابة الروائية في مفهومها المطلق، وعلى مستوى تقنية جديدة أحاول تجريبها كأداة وكبوصلة مستقبلية، وهي محاولة للتجريب، وضعت لها ما رأيته أصولا نظرية، وحاولت القيام بتطبيقها، كعدم وجود فارق في الكتابة الإنسانية بين كتابة ذكورية أو كتابة نسوية، بل كتابة إنسانية، وقد أنجزت منها بالفعل نصا روائيا طويلا طبع طبعتيْن، إحداهما في مصر قبل أحداث ثورة يناير 2011 بأيام، والثانية في فلسطين بعدها بأعوام. كانت من حيث التقنية المستخدمة كتابة الرواية ورشة لعمل غير فردي تحطيما لسلطة الكاتب الفرد، ينفذ عناصرها أكثر من كاتب. وهذا ما صنعته مع الروائية العراقية كلشان البياتي من خلال رواية ‘إيميلات تالي الليل’ عبر أسلوب وتقنية الرسالة كمنتج أدبي خاص، وظفناه معا في إنتاج نص سردي روائي عبر تقنيات جديدة تماما وهي الرسائل الإلكترونية (الإيميلات)، وأظنها تجربة غير مسبوقة في الكتابة الروائية العربية بين كاتب وكاتبة على وجه التحديد وذلك لعدة أسباب جد هامة ومتفردة رصدها الكثير من الباحثين العرب”.

ويكشف أن بداية المشروع الروائي المشترك كانت مع الكاتبة كلشان البياتي التي اعتقلت من قبل القوات الأميركية بعد احتلال العراق في العام 2003 وظلت محتجزة لأكثر من عامين، وكان واحدا من المتابعين لقضيتها والمناشدات الدولية من أجل إطلاق سراحها، ولأنه كانت تربطه بأسرتها علاقات مودة خلال فترة إبعاده عن مصر في عهد أنور السادات “كنت أرسل إليها إيميلات أسأل عنها، وبعد تحررها راحت ترد على المقربين منها بإرسال إيميلات تشكرهم”، لكنها معه كانت تفصح كثيرا عن أحوال الاعتقال وأهواله بينما يقوم بالرد بحكم ما بينهما من مودة وعلاقات أسرية منذ صغرها، وهنا نشأت الفكرة لتقارب التجربة النضالية عربيا، وعبر الرسائل البريدية تم البناء الدرامي سرديا، وهو أمر يقع للمرة الأولى في الكتابة العربية، أي بناء رواية عبر وسيلة الرسالة.

ويضيف “من هنا نمت الفكرة كي تتخذ أشكالا أكثر تقدما لتضافر ووحدة الرؤى الأسلوبية والفكرية معا. وانتقلت التجربة إلى صديقة العمر السورية الشاعرة سهى سلوم التي دخلت نسيج القص لأول مرة معي، فكانت تجربة ‘كن أنت’. والآن هناك عمل مشترك مع الكاتبة الليبية سوزان عاشور “الضوء العائد”، وهو عمل في طور البناء عن علاقات المصائر العربية العائدة بحلم التوحد، وعن التحولات الدراماتيكية التي طرأت على بنية المجتمع الليبي في ظل التخبط الدائر بالمنطقة وتأثيراته على المجتمعيْن المصري والليبي.

13