إصلاحات الأردن مع صندوق النقد رسالة تحفيز إلى تونس

تونس الواقعة تحت تأثير أزمة اقتصادية حادة ولا تعرف كيف تقاربها بسبب سيطرة الحسابات السياسية تجد أمامها فرصة من ذهب للسير على خطاها، ألا وهي تجربة الأردن مع صندوق النقد الدولي، وهي تجربة ناجحة وفعالة ولم تخلف خسائر. لكن الفارق أن الأردن دخلها بعزيمة فيما تونس مشتتة القرار.
تلقى الأردن شهادات إشادة من صندوق النقد الدولي ومن وكالة موديز للتصنيف الائتماني بنجاح إصلاحاته الاقتصادية، وخاصة لتفاهمه مع صندوق النقد ووضع اليد في اليد لتنفيذ الإصلاحات بما في ذلك التي كانت تبدو صعبة ومعقدة وممكن أن تثير غضب الناس. لكن ثبات السلطة السياسية وتركيزها على الهدف دون الالتفاف إلى المشاغبات والحسابات مكنها من أن تنفذ ما طلب منها.
هناك تشابه كبير بين الأردن وتونس، فكلاهما يعيش وضعا اقتصاديا متعثرا، ولا حل أمامه سوى البحث عن المساعدات والقروض لتأمين وضع الاقتصاد على السكة من جديد. واقعية الأردن أنه لم ينتظر طويلا مساعدات كانت في العادة تأتيه من دول الخليج لكنها تأخرت لأسباب منها ما له فيها مسؤولية ومنها الخارجة عن نطاقه في ظل التطورات التي يعيشها الخليج نفسه وخطط دوله.
كان الأردن يعرف أن صندوق النقد هو منقذه، لكن الإنقاذ لن يكون سهلا ولا يحتاج إلى ارتباك أو تراخ وخاصة الالتفات إلى الوراء على أمل أن تأتي حلول غير منظورة تساعده على مغادرة مربع الأزمة الحادة التي كانت تهدد باحتجاجات اجتماعية عنيفة.
جرأة الأردن في رهن مصير اقتصاده بصندوق النقد الدولي هي التي تحتاجها تونس. يجب أن تنسى الحكومة التونسية الرهان على حلول أخرى خاصة المساعدات المالية المباشرة أو القروض والودائع والاستثمارات من مثل المزايا التي حصلت عليها مصر من الخليج بصفة خاصة.
الوضع مختلف والمقارنة لا تجوز بين تونس ومصر، حتى لو كان الرئيس قيس سعيد حين لجأ إلى إجراءات 25 يوليو 2021 يعتقد أنه سيحصل على نفس المزايا التي حصل عليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. وحين قام قيس سعيد بإجراءاته كان هناك توجه إقليمي يراهن على الحصول منه على دعم قد تغير جذريا. الخطوة جاءت في الوقت الضائع.
لم يعد ثمة من يهتم بسقوط الإسلاميين والاستمرار في حالة الاستقطاب العالية التي شهدتها المنطقة منذ احتجاجات الربيع العربي، خاصة أن دول الخليج قد تصالحت وذهب كل منها إلى حال سبيله وبات يبحث عن رهانات وإستراتيجيات جديدة.
وهناك توجه عام في الخليج يقوم على القطع مع تقليد الدعم المالي المباشر، أو الاستثمارات التي لا تحقق مكاسب حقيقية لدوله. وفي وضع تونس الحالي ليس ثمة من يغامر بوضع استثمارات ويتوقع مكاسب من ورائها.
وهي رسالة مهمة بالنسبة إلى السلطة السياسية والمعارضة في نفس الوقت، فطالما أن الصراع السياسي قائم وحملات التشكيك والتخوين مستمرة، وطالما أن الجميع يختار التصعيد بشعار “أنا ومن بعدي الطوفان”، فإن البلاد لن تحصل على استثمارات ولا حتى تعاطف من نوع تمكينها من ودائع في بنكها المركزي لإعادة ثقة المتعاملين الماليين والاقتصاديين مثلما جرى مع مصر التي حصلت على دعم من مختلف دول الخليج بما في ذلك الدول التي ترفع فيتو على تونس.
وليست الأزمة السياسية لوحدها من تدفع الدول الغنية وكبار المستثمرين لإدارة الظهر لتونس، فهناك أيضا الصراع الأبدي بين الحكومة واتحاد الشغل، ووجود مناخ دائم في تونس منفّر لمن يفكر في دخول تونس ومدّ اليد إليها. مناخ يقوم على كراهية رجال الأعمال وتهميش العمل كقيمة مقابل مطلبية عالية يريد من خلال العمال والموظفون ومن ورائهم النقابات أن يحصلوا على رواتب عالية وامتيازات وحوافز لا تتماشى مع مردوديتهم في العمل، وهذا الوضع غير المتوازن يؤدي عادة إما إلى إفلاس المؤسسات أو هروبها إلى دول أخرى. ووجود شخصية قوية مثل قيس سعيد على رأس السلطة يعطي فرصة قد لا تتكرر للقطع مع هذا الوضع واختيار مصلحة تونس في تصويب واقع العمل والخروج من مربع الثقافة التي أرستها الدولة الوطنية، ثقافة الاتكال على الدولة التي تتحمل عبء التوظيف وتوفير الرواتب الغالية والخدمات الصحية والتعليمية المميزة وفي نفس الوقت تظل هذه الدولة مثار اتهام دائم بالتقصير والتآمر على موظف يعطي مجهودا محدودا.
الخروج من هذه الأرضية المرضية شرط ليس فقط للحصول على المساعدات والمنح من الدول الغنية، خليجية أو غربية، ولكن أيضا من أجل إقناع صندوق النقد بدعم تونس. لا شك أن الصندوق لن يدفع بأمواله إلى المجهول، ولأجل ذلك يوفر مسار الأردن مع الصندوق نموذجا محفزا لتونس كي تغير طباعها وتنظر إلى مصلحتها ومصلحة الأجيال القادمة وتختار الإصلاحات الجذرية، ولكن بواقعية وهدوء ودون صخب للشعارات، وخاصة دون تصريحات ومواقف ملتبسة للوزراء والمسؤولين توحي تارة بالإصلاح وطورا تتبرأ منه لاعتبارات سياسية ظرفية وتجنبا للمزايدات.
على حكومة تونس أن تحسم أمرها، وتجاهر بمواقفها وتؤكد على الالتزام بإصلاحات الصندوق، وأن تسد الآذان عن المزايدين والمتاجرين بالشعارات الذين استلم بعضهم الحكم في السابق وكان عارفا أنّ لا إصلاحات ممكنة خارج مربع الإصلاحات القاسية التي يطالب بها صندوق النقد.
نجح الأردن في تأمين إصلاحات هادئة ودون مشاكل من خلال تعامله السلس مع صندوق النقد الدولي، ويمكن أن يكون هذا التعامل الإيجابي بين الطرفين خارطة طريق لتونس التي اتفقت مع الصندوق على قرض يُدفع على مراحل يتم فيها تقييم مدى التقدم في تنفيذ الإصلاحات.
وأشاد صندوق النقد الدولي بجهود الأردن واستجابته للإصلاحات التي تمت بمرافقة مباشرة من الصندوق، وبإجمالي تمويل قدره مليارَا دولار لأربع سنوات (2020 - 2024)، وهو نفس الوضع بالنسبة إلى تونس حيث وافق الصندوق مبدئيا على منحها 1.9 مليار دولار على مراحل، وهو ما يجعل استفادتها من تجربة الأردن أمرا مهما لتنفيذ الإصلاحات وفق الجدول الزمني المطلوب.
وفي خطوة لاحقة، عدلت وكالة موديز للتصنيف الائتماني الخميس نظرتها المستقبلية للأردن إلى “إيجابية” من “مستقرة” مما عدل تصنيفها الائتماني العام من بي1- مستقر إلى بي1- إيجابي.
وقالت موديز إن الأردن “أظهر أيضا سجلا حافلا بالتنفيذ الفعال، على الأقل على الصعيد المالي، وهو ما قد يؤدي إلى تعزيز مرونة الوضع الائتماني (للأردن)”.
وكان الصندوق دعا الأردن في السابق إلى القيام بمجموعة من الإصلاحات، من بينها خفض ديون شركة الكهرباء وتقليص الحكومة دعمها المكْلف الموجّه إلى الوقود وزيادة تحصيل الضرائب وخفض الرواتب، وغيرها من التوصيات.
ويقول خبراء إن تونس تحتاج إلى أن تسير على خطى الأردن في ما يتعلق بالخطوات الضرورية لإعادة توازن المالية العمومية، وأن تبدأ الحكومة باتخاذ قرارات واضحة بشأن أهم القضايا الخلافية مع الاتحاد العام التونسي للشغل، أي وقف توظيف المئات ممن تطالب المنظمة النقابية بتوظيفهم في قطاع التعليم، وكذلك وقف الزيادات في الرواتب.
وإلى حد الآن لم تلتزم الحكومة بخطتها القائمة على وقف عملية التوظيف داخل القطاع الحكومي، ومازالت تقدم التنازلات أمام ضغوط النقابات في مسألة الرواتب، وهي خطوات غير مشجعة بالنسبة إلى علاقتها مع صندوق النقد الدولي.
وتظهر تجربة الإصلاحات في الأردن أن المهم ليس حجم القرض، وإنما طريقة تنفيذ الإصلاحات. ويمكن أن يكفي الرقم المعروض على تونس، والذي ستتسلمه على أقساط، لتنفيذ إصلاحات ملموسة، شريطة ألا يتم توظيفه في مجالات غير مخصص لها، وخاصة ما تعلق بزيادة التوظيف كما حصل في وضع المعلمين تحت ضغط النقابات.