تسييس الخطاب الدعوي بمصر يوسّع الفجوة بين رجال الدين والجمهور

حديث المؤسسة الدينية في السياسة يمنح المتطرفين فرصة للقفز على خطاب السلطة.
السبت 2022/11/19
المؤسسة الدينية في مصر تعاني لترميم مصداقيتها

القاهرة – كشفت زيادة القوافل الدعوية التي تنتشر في المساجد المصرية وتتحدث في قضايا لها أبعاد سياسية عن حضور متصاعد للمؤسسة الدينية في المشهد السياسي، بشكل يثير استغراب دوائر مختلفة، في ظل تطرق هيئات تابعة لكل من الأزهر ووزارة الأوقاف إلى قضايا بعيدة عن صميم اختصاصها.

وكانت وزارة الأوقاف قد قررت تنظيم قوافل دعوية للواعظين والواعظات بالمساجد لتعزيز ما قالت إنها “ثقافة حق الوطن وحسن الولاء والانتماء إليه، والحفاظ عليه، والعمل على كل ما يدعم تحقيق أمنه واستقراره، وحث الناس على حماية الإنجازات التنموية التي تحققت وإقناعهم بأن البناء والتعمير من صميم التدين”.

يجد المتابع لتحركات الهيئات التابعة للأزهر والأوقاف مؤخرا أنها تركز على الحديث في قضايا تلامس السياسة، وهو توجه جديد، لأن كل جهة دينية يفترض أنها تقف على الحياد ولا تقحم نفسها في موضوعات بعيدة عن المسائل الدينية والدعوية، حتى لا تضع نفسها في حرج بين المؤيدين والمعارضين.

تغيرت إستراتيجية المؤسسات الدينية الرسمية في مصر وبدا جزء كبير من الخطاب الدعوي مسيسا بالتزامن مع عودة استهداف النظام الحاكم من جانب جماعة الإخوان ونشاط منابرها الإعلامية، حيث ظهرت الأوقاف والأزهر كمؤسستين تعملان على تكريس الأمن والاستقرار والتحذير من تحريض يستهدف تخريب الدولة.

بوكس

وجاءت قوافل الأوقاف الدعوية ضمن مبادرة شاملة أطلقت عليها “حق الوطن”، وقررت تعميمها على جميع مساجد مصر، فيما كلفت الأئمة والخطباء بأن تكون كل خُطب يوم الجمعة داعمة للمبادرة، على أن يتم تنظيم لقاءات دعوية للتواصل المباشر مع المواطنين لحثهم على حفظ الأمن والاستقرار وحماية البلاد من المخاطر وهي رسائل تسعى إلى توظيف التدين لإقناع الناس بواقعية الخطاب السياسي الرسمي.

من جهته، كان الحضور السياسي للأزهر مرتبطا بإطلاق منتدى “اسمع واتكلم”، ومن خلاله تتواصل المؤسسة مع الشباب للاستماع إلى آرائهم ومشكلاتهم وتوعيتهم بمخاطر التخريب وعدم الاستقرار، ودعوتهم إلى مناهضة دعوات التحريض التي أطلقها متطرفون، في إشارة إلى الإخوان، لأن التطرف لا يقتصر على القتل بل يستهدف العقول لتخريبها لتقوم بأفعال مناهضة للشريعة.

ما يلفت الانتباه أن منتدى الأزهر الذي يرغب من خلاله في أن يكون له دور في المشهد السياسي ركز على محاور عديدة في لقاءاته الشبابية، بعضها يتقاطع مع أزمة قوى المعارضة مع الحكومة، حيث ناقش قضية الحرية، وهل لها حدود أم مطلقة، وتطرق إلى قيمة الحوار وأثره الإيجابي على الاستقرار، وقيمة التحاور لا الصدام بين الناس.

ركز المنتدى على أن الحرية مشروطة بمعايير، على رأسها عدم إلحاق الأذى بالآخرين، وهي رسائل سياسية موجهة إلى قوى وتيارات معارضة تطالب بفتح مناخ الحريات الإعلامية والسياسية والحقوقية دون قيود أو شروط، لكن الأزهر أراد أن يمارس دور الوسيط الذي يضفي عدم المشروعية على مطالب الحرية المطلقة.

ويرى مراقبون أن إقحام المؤسسة الدينية نفسها في جدل من هذا النوع يعيد إحياء تيار الإسلام السياسي في مصر بصبغة رسمية وليس منطقيا مواجهة الإخوان بنفس أسلوبهم وتوظيف الدين لأغراض سياسية، وقد فعلوا ذلك عندما كانوا يواجهون خصومهم وقاموا بترهيب الشارع باسم الدين وبذريعة الحفاظ على الأمن والاستقرار.

كما يتحفظ الكثيرون من مؤيدي الحكومة على دخول أي جهة دينية في جدل سياسي لأن ما تم رفضه خلال فترة حكم الإخوان لا يجب إعادة إنتاجه بالتسويق للوطنية. ويبرر الفريق المعارض موقفه بأن هذا المسار يمنح المتطرفين فرصة القفز على خطاب السلطة وتفسيره بصورة خاطئة، كما أنه يُظهر النظام على خلاف الحقيقة وأنه عاجز عن إيجاد حلول واقعية لترضية الناس، فلجأ إلى استغلال الدين.

المتابع لتحركات الهيئات التابعة للأزهر والأوقاف مؤخرا يجد أنها تركز على الحديث في قضايا تلامس السياسة، وهو توجه جديد

قد تكون هناك قضايا وملفات حيوية بعضها يلامس السياسة بشكل غير مباشر، تتطلب دعما وحشدا لمساندتها في وقت الأزمات، لكن هذا لا يبرر تصدر المؤسسات الدينية للمشهد من خلال إضفاء قدسية على قرارات الحكومة، ويصل الأمر إلى حد استغلال منابر المساجد في دعمها بالدعوة إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار.

وثمة فريق مؤيد للخطوة بحجة أن المؤسسة الدينية يفترض أنها جزء من كيان الدولة، ويجب أن يكون لها دور إيجابي في الحفاظ على الاستقرار والوقوف في وجه الدعوات التحريضية التي تستهدف سلامة الوطن، من خلال تعبئة الناس وتوعيتهم بأن محاولات هدم الدولة لا تتفق مع الدين، والحوار والنقاش هما السبيل للوصول إلى مجتمع آمن.

وأكد النائب البرلماني السابق والباحث في شؤون العقائد محمد أبوحامد أن المؤسسة الدينية عندما تتحدث عن الاستقرار فهذا لا يتعارض مع دورها الدعوي، ومن المفترض عندما تجد مخاطر سياسية يتم التسويق لها بخطاب ديني متطرف أن تواجهها بنفس الطريقة والأسلوب لا أن تقف عاجزة عن الرد بنفس الحجة.

وأضاف لـ”العرب” أن “دعم الدولة يختلف عن دعم النظام، ومن ضمن أدوار أي جهة دينية أن تكون شريكة في الحفاظ على الوطن، وهذا لا يحتاج إلى الحياد والصمت لتجنب التشكيك في الاستقلالية، ومهمة الخطاب الدعوي وقت الأزمات هي تصحيح مفاهيم دينية مغلوطة تروج لها تيارات متطرفة لتحقيق مآرب سياسية باسم العقيدة”.

ومهما كانت نوايا المؤسسة الدينية حسنة وشعورها بقيمة المسؤولية الوطنية الواقعة عليها بأن تكون شريكة في الدفاع عن البلاد ضد الدعوات التحريضية من فصيل يوظف الدين لأغراضه، إلا أن ذلك يوحي للبعض بأن الدولة ضعيفة وتحتاج إلى دعم ديني، في حين أنها صلبة وراسخة وتمتلك أدواتها القوية وغير مضطرة إلى ذلك.

المعضلة أن المؤسسة الدينية التي تعاني لترميم مصداقيتها والدفاع عن استقلاليتها والتبرؤ من التماهي مع الحكومة قد تظهر بشكل يؤثر على وجودها في الشارع، ما يفجر شكوكا حول خطابها وفتاواها المجتمعية، وإذا وصلت علاقة الهيئات الدينية بالشارع إلى وضعها في خانة واحدة مع الحكومة، فإن ذلك سيثير هواجس حول توجهاتها، ويعتقد البعض أنها تتحرك بتعليمات، ويصبح الخطاب الديني الرسمي فاقدا للمصداقية، وهي ثغرة اعتادت التيارات المتشددة النفاذ منها إلى الناس لتعويض استقلال وحياد المؤسسة الرسمية التي تفرغت للتعبئة العامة.

6