العراق وسياساته الخارجية.. تصحيح المسارات الخاطئة وتعزيز الصائبة

مشاركة الرئيس العراقي الجديد في القمة العربية الأخيرة باكورة عمل وتحرك للحكومة العراقية على ملف السياسة الخارجية، هذا إذا افترضنا أنه وبحسب الدستور تتمثل السلطة التنفيذية في مفصلي رئاسة الجمهورية والحكومة.
الاثنين 2022/11/14
لقاءات تؤكد ثوابت العراق في علاقاته الخارجية مع محيطه الإقليمي

لعلها مصادفة جيدة، حينما كانت الجزائر أول دولة يزورها الرئيس العراقي الجديد عبداللطيف رشيد للمشاركة في الدورة الحادية والثلاثين للقمة العربية، حيث أتيح له أن يلتقي بعدد من الزعماء والقادة والساسة العرب، والذين ربما لم يكن ممكنا اللقاء بهم في مناسبات أخرى وخلال فترة زمنية قصيرة ومحددة.

وإلى جانب القضايا والملفات الإقليمية والدولية التي بحثها الرئيس رشيد مع من التقاهم في الجزائر، كانت تلك اللقاءات فرصة مناسبة جدا، لتأكيد ثوابت العراق في سياساته وعلاقاته الخارجية مع محيطه الإقليمي وعموم المجتمع الدولي، ولتجديد دعم أشقائه العرب له، مع خروجه من حالة الانسداد السياسي وتشكيله حكومة جديدة، أمامها العديد من المهام والاستحقاقات الثقيلة، وتواجه الكثير من التحديات الخطيرة.

يمكن اعتبار مشاركة الرئيس العراقي الجديد في القمة العربية الأخيرة وما تخللها من لقاءات ومباحثات، باكورة عمل وتحرك الحكومة العراقية الجديدة على ملف السياسة الخارجية، هذا إذا افترضنا أنه وبحسب الدستور العراقي، تتمثل السلطة التنفيذية في مفصلي رئاسة الجمهورية والحكومة.

وهنا فإنه من المهم جدا تسجيل جملة من الملاحظات العامة والجوهرية في هذا الخصوص.

◘ إذا كانت عملية ترتيب وتعزيز علاقات العراق بجيرانه ومحيطه الإقليمي تعد عاملا أساسيا في استقراره السياسي، وازدهاره الاقتصادي، فإن ترتيب وتعزيز علاقاته مع المجتمع الدولي لا يقل أهمية وضرورة

الملاحظة الأولى، أنه منذ الإعلان عن ترشيح محمد شياع السوداني من قبل الإطار التنسيقي لرئاسة الحكومة في أواخر شهر يوليو الماضي، ومن ثم تكليفه رسميا بتشكيلها من قبل الرئيس المنتخب عبداللطيف رشيد في الثالث عشر من شهر أكتوبر الماضي، أفرد حيزا من حراكه لملف السياسة والعلاقات الخارجية، عبر سلسلة رسائل وإشارات ولقاءات مع ساسة ودبلوماسيين عرب وأجانب، انطوت على توجهات إيجابية لتحقيق المزيد من الانفتاح في علاقات العراق مع جيرانه ومحيطه الإقليمي والفضاء الدولي بما يعزز مكانته، ويكرس سيادته، فضلا عن جعله نقطة التقاء وساحة للتفاهم والحوار بين الفرقاء.

الملاحظة الثانية، تتمثل في أن الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، وإن أخفقت في بعض أو معظم الاستحقاقات الداخلية المطلوبة، إلا أنها سجلت بصمة واضحة في مجال السياسة الخارجية، وعلى مستويين؛ الأول هو الحضور الملموس في مختلف المحافل الدولية، وتوسيع آفاق العلاقات مع قوى إقليمية ودولية متعددة، والثاني، تطويق المشاكل والأزمات والخلافات بين أطراف متخاصمة عبر تهيئة الأجواء والظروف المناسبة لحوارات بناءة، كما حصل بين إيران والسعودية، فضلا عن المساهمة في نزع فتيل جملة من أزمات المنطقة، أو التخفيف من حدتها وتطويقها عند مديات وحدود معينة.

الملاحظة الثالثة، هي أن مفتاح الاستقرار الداخلي للبلاد، على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية، يتمثل في طبيعة العلاقات مع الأطراف الخارجية، الإقليمية منها والدولية، والتي غالبا ما تكون لديها سياسات ومواقف ومصالح متقاطعة ومتناقضة فيما بين بعضها البعض، ويتطلب التعاطي معها قدرا كبيرا من الحكمة والعقلانية، دون الإخلال بالثوابت مع تجنب سياسة المحاور والاستقطاب والاصطفاف مع طرف ضد طرف آخر.

والسوداني، قبل نيل حكومته ثقة البرلمان وبعد ذلك، أجرى العديد من اللقاءات مع سفراء إيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والسعودية ودول أخرى، وكذلك مع مبعوثة الأمم المتحدة، وهي لقاءات، وإن كان طابعها دبلوماسيا بروتوكوليا، ارتباطا بتولي السوداني رئاسة الحكومة الجديدة، إلا أن “الرسائل المتبادلة” خلالها انطوت على أهمية كبيرة، وأشارت إلى طبيعة التوجهات والمسارات في التعاطي مع المتغيرات.

◘ الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، وإن أخفقت في بعض أو معظم الاستحقاقات الداخلية المطلوبة، إلا أنها سجلت بصمة واضحة في مجال السياسة الخارجية
الحكومة السابقة برئاسة مصطفى الكاظمي، وإن أخفقت في بعض أو معظم الاستحقاقات الداخلية المطلوبة، إلا أنها سجلت بصمة واضحة في مجال السياسة الخارجية

ولا شك أنه مثلما تكون للعراق محددات وأولويات في ترتيب علاقاته مع كل طرف من الأطراف، فإن الأخيرة لها ذات الشيء، ومن الخطأ وغير المعقول أن توضع كل الملفات ومع كل الأطراف في قالب واحد وعلى سكة واحدة.

والنقطة الجوهرية هنا، تتمثل في ضرورة استثمار أجواء الدعم والتأييد الإقليمي والدولي الواسع للحكومة الجديدة في تحقيق جملة من الأمور، أهمها تعزيز وتحسين الأوضاع الاقتصادية للبلاد، والعمل على معالجة الملفات والقضايا العالقة، لاسيما ذات الطابع الأمني، وتجنيبها – بأقصى قدر ممكن – الآثار والانعكاسات والإسقاطات السلبية للخلافات والصراعات بين الخصوم والفرقاء. واليوم فإنه في عواصم مختلفة، يتردد القول “إن التزام رئيس الوزراء العراقي الجديد سياسة خارجية متوازنة وعلاقات جيدة مع جميع جيران العراق يفتح آفاقاً إيجابية للمستقبل”.

فمع أهمية العلاقات مع الولايات المتحدة، لا بد أن يكون من بين أولويات الحكومة العراقية الجديدة، حسم موضوع الوجود الأميركي في البلاد، بإطاره العسكري والأمني، وأكثر من ذلك، وضع حد لهيمنة واشنطن على بعض المفاصل المالية والأمنية والاقتصادية الحيوية العراقية، وإعادة النظر ومراجعة الاتفاقية الأمنية واتفاقية الإطار الإستراتيجي اللتين أبرمتا بين بغداد وواشنطن قبل أربعة عشر عاما في ظل ظروف وأوضاع استثنائية ضاغطة في حينه.

ومع دول مثل السعودية والإمارات، بدت خلال الأعوام القلائل الماضية راغبة في تصحيح مسارات علاقاتها مع العراق، من المهم ترجمة تلك الرغبات عبر خطوات عملية تكفل معالجة الأخطاء والمواقف السلبية السابقة، ودعم وتعضيد العملية السياسية الديمقراطية، بعيدا عن أجندات التخريب والتدمير وإثارة الفتن وخلط الأوراق.

وبخصوص تركيا، فإنه في الوقت الذي يتحتم فيه على الحكومة العراقية عدم السماح باتخاذ الأراضي العراقية منطلقا لتهديد أمن الجيران، عليها – أي تركيا – ألاّ تتخذ من وجود جماعات سياسية وعسكرية معارضة لها في العراق ذريعة لتمرير خططها التوسعية، وتكريس وتوسيع وجودها العسكري وغير العسكري.

وكمبدأ عام، قد لا يختلف الأمر مع إيران، إلا أن المنهج والمسار الإيجابي لعلاقاتها مع العراق طيلة العقدين المنصرمين، رغم حرب الثمانية أعوام وتراكماتها الكبيرة، يقتضي عدم التفريط في ما هو متحقق، سياسيا وأمنيا واقتصاديا ومجتمعيا. وهنا ينبغي الالتفات إلى أن إيران كانت في طليعة الدول الداعمة والمساندة للعراق بعد الإطاحة بنظام صدام، عبر رفع تمثيلها الدبلوماسي فيه، وفتح آفاق التعاون الاقتصادي معه، ودعم العملية السياسية، والوقوف معه في مواجهة الإرهاب التكفيري المتمثل في تنظيم القاعدة أولا، ومن ثم تنظيم داعش.

وإذا كانت عملية ترتيب وتعزيز علاقات العراق بجيرانه ومحيطه الإقليمي تحظى بأهمية كبرى، وتعد عاملا أساسيا في استقراره السياسي، وازدهاره الاقتصادي، وتماسكه الأمني فإن ترتيب وتعزيز علاقاته مع المجتمع الدولي، لاسيما القوى والأطراف المؤثرة والفاعلة فيه، والتي تربطها معه مصالح تتداخل مع مصالحها وحساباتها في عموم المنطقة، لا يقل أهمية وضرورة. وقد أثبتت التجارب السابقة أن رهن إرادة البلاد ومصيرها ومستقبلها بيد قوة عالمية واحدة، كأن تكون الولايات المتحدة، وإهمال قوى أخرى مؤثرة وفاعلة، مثل روسيا والصين، مثل خطأ فادحا، وكانت له انعكاسات سلبية هائلة.

◘ مفتاح الاستقرار الداخلي للبلاد، على الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية، يتمثل في طبيعة العلاقات مع الأطراف الخارجية، الإقليمية منها والدولية

فطبيعة المعادلات العالمية، ومساحات التأثير، وتباين الأولويات، ومناهج إدارة الأزمات، كلها مسائل، يجب أخذها بعين الاعتبار عند رسم وصياغة مسارات وسياقات السياسات الخارجية. فالفرق كبير جدا بين الولايات المتحدة التي تتصرف بمنطق الهيمنة والاستعلاء والإملاء، مستعينة بإمكانياتها وقدراتها العسكرية الضخمة، وبين الصين صاحبة الرؤية الاقتصادية العميقة. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ردود الأفعال السلبية لواشنطن حيال الاتفاقية الإستراتيجية مع الصين، التي أبرمت في عهد رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي، أواخر شهر سبتمبر من عام 2019، وكانت أحد أسباب سعي واشنطن لإسقاط حكومة الأخير، وقبل ذلك، وفي عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بذلت واشنطن جهودا محمومة لإفشال صفقات الأسلحة المبرمة مع روسيا، دون نسيان مساعيها لقطع الطريق أمام شركة سيمنز الألمانية المتخصصة في قطاع الطاقة الكهربائية لإبقاء الساحة خالية لصالح شركة جنرال إليكتريك الأميركية.

على حكومة السوداني تفعيل الاتفاقية العراقية – الصينية، وعدم حصرها في بناء مجموعة مدارس فقط، والانخراط في مشروع الحزام والطريق الإستراتيجي، وعدم إهمال روسيا رغم انشغالها بدوامة الحرب وصراعها مع أوكرانيا والغرب. وكذلك مدّ المزيد من جسور التواصل مع قوى ناهضة في الفضاء الدولي، كالهند وباكستان ودول أخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا.

وفي ذات الوقت الذي يفترض فيه أن يشكل الاقتصاد محورا ومرتكزا أساسيا في رسم سياسات العراق الخارجية، فإن ما يجب على حكومة السوداني فعله، هو الفصل والتمييز قدر الإمكان بين الاستحقاقات والحسابات الاقتصادية من جهة، وبين مشاريع وأجندات التطبيع السياسية، التي تتخذ من الاقتصاد بوابة لها من جهة أخرى، ويكفي دليلا على ذلك، مشروع الشرق الأوسط الكبير، وصفقة القرن، واتفاقيات السلام الإبراهيمي، والشام الجديد وغيرها.

لعل الفرصة مواتية لرئيس الوزراء العراقي الجديد أن يعزز المسارات الصائبة ويصحح المسارات الخاطئة، لا على صعيد الملفات الداخلية الأمنية والخدمية والمالية فحسب، بل على صعيد الملفات الخارجية، التي لا تبتعد في الكثير من محطاتها ومنعطفاتها عن الداخلية.

9