بغداد وأربيل.. الحوار لا الصدام هو الخيار

على مدى عقود عديدة مرت العلاقات بين السلطات المركزية الحاكمة في بغداد من جهة، والقوى السياسية الكردية في شمال العراق من جهة أخرى، بالكثير من المحطات والمنعطفات الحرجة والخطيرة، التي طغت وهيمنت عليها الصراعات والمواجهات العسكرية المسلحة أكثر من أي شيء آخر، والتي حكمتها وأثرت عليها ووجهتها بمقدار كبير الأجندات والمصالح والحسابات الإقليمية والدولية، التي كانت في أغلب الأحيان تتقاطع مع الأجندات والمصالح والحسابات الداخلية.
ولا شك أن مشهد الصراع والمواجهة بين الطرفين اتخذ منحى مختلفا إلى حد ما بعد حرب الخليج الثانية والانتفاضة الشعبية في ربيع عام 1991، حيث تهيأت الظروف الملائمة للأكراد لكي يؤسسوا لهم وجودا سياسيا مستقلا بقدر معين، بعيدا عن هيمنة وسطوة المركز الدموية الإجرامية في حينه، وقريبا جدا إلى مجمل العمل السياسي المعارض لنظام صدام حسين، بشتى عناوينه ومسمياته وتوجهاته، وبالتالي ليكون الإقليم الكردي إحدى أبرز ساحات النشاط السياسي والعسكري والإعلامي العلني المعارض، حيث كان ذلك تحولا نوعيا مهما بالنسبة إلى المعارضة العراقية عموما والقوى الكردية على وجه الخصوص.
حلول الأزمات والمشاكل بين بغداد وأربيل وإن كانت صعبة إلا أنها ممكنة وغير مستحيلة، ويجب الانطلاق من حقيقة أن ضعف وتشرذم الإقليم لا يخدمان بغداد، والعكس صحيح أيضا
وما إن حلّ عام 2003، وأطيح بنظام صدام عبر تحالف دولي واسع قادته الولايات المتحدة، حتى دخل العراق بكامله في مرحلة، أو حقبة، جديدة بات فيها الأكراد شركاء حقيقيين وفاعلين ومؤثرين في الحكم وإدارة شؤون البلاد، وطويت صفحات الصراعات العسكرية المسلحة، لتنفتح صفحات الصراعات السياسية بين الأكراد وشركائهم في الوطن من السنة والشيعة، والتي كانت في واقع الأمر جزءا من عموم مشهد الصراعات السياسية المزمنة والمتواصلة بين الجميع. بيد أن المختلف فيها كان في جانب منه مرتبطا بتراكمات الماضي الطويل.
ورغم مرور أكثر من عشرين عاما على انبثاق النظام الديمقراطي الجديد في العراق، والعمل وفق مبدأ الشراكة، إلا أن الحوارات بين بغداد وأربيل لم تفض إلى تفاهمات وتوافقات يعتد بها، ولم تتمخض عنها حلول ومعالجات جذرية للمشاكل والأزمات القائمة، ولم تفرز وتحدد مساحات كل طرف بشكل واضح ومقبول.
ولعل ضعف الثقة، أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليها “أزمة الثقة”، كان العامل الأبرز في بقاء الكثير من الملفات مفتوحة، والقضايا عالقة، والخطوط متشابكة، والعقد مستعصية بين المركز والإقليم. وضعف الثقة، أو أزمة الثقة، ساهم في تكريس مظاهر “التغالب” والاستقواء بهذا الطرف الإقليمي – الدولي أو ذاك لفرض الأمر الواقع وتحقيق أكبر قدر من الامتيازات والمكاسب.
ويطول الحديث ويتشعب إلى حد كبير عند الخوض في الأمثلة والحقائق في هذا الجانب، لكن من المهم جدا الإشارة إلى حقيقة أن الإبقاء على نفس آليات الحوار وأدوات الصراع السياسي يعني فيما يعنيه استمرار الدوران في حلقة مفرغة، وبقاء الأمور متأرجحة بين فترات هدوء وتهدئة وفترات تصعيد وتأزيم قد تتأثر بها، سلبا أو إيجابا، ظروف البلد الداخلية وظروف المحيط الإقليمي والفضاء الدولي إلى حد ما.
ويمكن للحوار بين بغداد وأربيل أن يخرج من حلقته المفرغة ويتحرك في مسارات واضحة ومعبّدة، نحو آفاق مفتوحة فيما لو استند إلى معطيات عملية وواقعية، لعل أبرزها:
ضعف الثقة، أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليها "أزمة الثقة"، كان العامل الأبرز في بقاء الكثير من الملفات مفتوحة، والقضايا عالقة، والخطوط متشابكة، والعقد مستعصية بين المركز والإقليم
- الدستور، الذي يعد الوثيقة الأهم للعقد السياسي والاجتماعي الذي تباكى عليه العراقيون وهم يؤسسون لدولتهم الرشيدة ونظامهم الصالح، بعد تأريخ طويل من ويلات ومآسي الأنظمة والحكومات الدكتاتورية الاستبدادية الظالمة. هذا الدستور الذي كان للأغلبية الشيعية والمكون الكردي الدور الأكبر في إيجاده، لا شك أن فيه الكثير من المخارج والحلول والمعالجات المناسبة للمشاكل القائمة واللاحقة.
- وقد يقول البعض إن عموم الدساتير تتضمن نصوصا قانونية جامدة، ربما لا تصلح وحدها لأن تكون حلا للأزمات وسبيلا لمعالجة الخلافات، إذا لم تكن الأبعاد والجوانب الإنسانية حاضرة في بعض الأحيان، كما هو الحال بالنسبة إلى قضية “رواتب مواطني إقليم كردستان” التي أقحمت بقصد أو من دون قصد في لجّة الصراعات والتقاطعات السياسية، لتلقي بظلالها الثقيلة على أعداد كبيرة جدا من الناس البسطاء، علما أن الحكومة الاتحادية الحالية بادرت إلى اتخاذ خطوات إيجابية واجتراح حلول جزئية وقتية للتقليل من إسقاطات تلك الأزمة على أمل أن تفضي الحوارات المتواصلة إلى نتائج ملموسة ومثمرة.
- ومع وجود الدستور، وما يتضمنه من حلول ومعالجات، ومع استمرار الحوارات، فإن غياب الثقة يبقى هو العائق والعقبة الكأداء أمام أي أفق جيد ونافع. بعبارة أخرى، ما لم تتوفر النوايا الحسنة والإرادات الصادقة من كلا الطرفين فإن الحوار لن يغادر حلقته المفرغة، وسيكون أشبه بـ“حوار الطرشان”!
- ولأن القضايا متداخلة ومتشابكة، والملفات كثيرة، والرؤى والقناعات والتقديرات متباينة، فإنه لا بد من التركيز على أكبر قدر من نقاط التوافق والالتقاء، وتجنب نقاط الافتراق، مع التأكيد على أن المؤشرات والمعطيات الراهنة في هذا الجانب مشجعة نوعا ما.
- والمسألة الأخرى تتمثل في أنه مثلما يراد أن تكون للحكومة الاتحادية رؤية موحدة وواضحة، لا تتجاذبها الحسابات الفئوية والحزبية الضيقة، فإن على حكومة الإقليم أن تبلور مواقف وتوجهات ورؤى موحدة ومنسجمة، تأخذ بعين الاعتبار الواقع السياسي الكردي، ومدى تأثير تباين مواقف بعض قواه السياسية على مسارات ومعطيات واتجاهات الحوار مع بغداد.
خلاصة القول، حلول الأزمات والمشاكل بين بغداد وأربيل وإن كانت صعبة إلا أنها ممكنة وغير مستحيلة، بتوفر النوايا الحسنة والإرادات الصادقة والتقديرات الموضوعية لكل الأمور، والانطلاق من حقيقة أن ضعف وتشرذم الإقليم لا يخدمان بغداد، والعكس صحيح أيضا.