بارزاني وحلحلة العقد المستعصية بين بغداد وأربيل

قلنا في مقال سابق إن “الحلول للأزمات والمشكلات بين بغداد وأربيل، وإن كانت صعبة إلا أنها ممكنة وغير مستحيلة، بتوفر النوايا الحسنة، والإرادات الصادقة، والتقديرات الموضوعية لكل الأمور، والانطلاق من حقيقة أن ضعف الإقليم وتشرذمه لا يخدمان بغداد، والعكس صحيح أيضا”.
بهذا المعنى، تحدث زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني من العاصمة بغداد، التي زارها الأسبوع الماضي، بعد انقطاع امتد لستة أعوام، شهدت الكثير من التجاذبات والمناكفات بين المركز والإقليم، وبالتالي اتساع مساحات الاختلافات والتقاطعات حول مجمل القضايا الخلافية، رغم أن التواصل والحوار لم ينقطعا أو يتوقفا بين الطرفين على كل الصعد والمستويات.
التقى بارزاني في بغداد مختلف الزعامات والشخصيات الحكومية والحزبية الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي العام، وأجرى مباحثات وحوارات تفصيلية وصريحة، ومن بين ما قاله “إن المناخ السياسي العراقي يشهد انفراجة وانفتاحاً، ويمكن أن يكون ذلك فرصة جيدة لتبادل الرؤى حيال العقبات وسبل معالجة المشكلات.. وإن الدستور يشكّل أساساً متيناً لجميع الأطراف السياسية من أجل التغلب على المشاكل والتحديات”. ومن بين ما سمعه من مضيّفيه في بغداد “قطعنا شوطاً مهمّا في بناء الثقة بين حكومتي المركز والإقليم وتجاوزنا المشكلات الموروثة”.. ومن المهم جدا مواصلة الحوارات البناءة، والتعاون والتكاتف للتغلب على كل العقبات والمشاكل القائمة، وفقا للدستور والقانون والمصالح والمشتركات الوطنية العامة”.
◄ تعزيز مكانة العراق الإقليمية والدولية، وحضوره الفاعل في كل المحافل والميادين، وحضور الآخرين فيه، سياسيا واقتصاديا، يتطلب أن تكون بيئته السياسية والأمنية والمجتمعية مستقرة وجاذبة
لا شك تبدو الأرضيات والمناخات والظروف ملائمة أكثر من أيّ وقت مضى لحلحلة العقد المستعصية والشائكة بين بغداد وأربيل. فالحكومة الاتحادية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، تبنّت منهجا عقلانيا هادئا بعيدا عن التشنج والانفعال في التعاطي مع مختلف الملفات، لاسيما تلك المرتبطة بإقليم كردستان، وتمكنت من إحراز بعض التقدم، وان كان الأمر بطيئا نوعا ما.
وقابل الأكراد ذلك بمرونة وتجاوب مع العديد من المقررات والأحكام القانونية والقضائية والإجراءات الفنية للحكومة الاتحادية، رغم الاعتراضات، وبرز ذلك واضحا من خلال تفعيل أعمال اللجان المشتركة في مختلف العناوين، وخصوصا المالية والأمنية والاقتصادية، دون أن يعني ذلك بالطبع طيّ صفحة الخلافات والاختلافات والتقاطعات بالكامل، لأن الوصول إلى ذلك الهدف يتطلب وقتا طويلا وجهدا كبيرا.
ومثلما تبلورت قناعات لدى صناع القرار في بغداد مفادها أنه لا سبيل لوضع حد لحالة الصدام المستمر بين المركز والإقليم إلا بسلوك طريق الحوار البناء، فإن صناع القرار في الإقليم، وتحديدا في أربيل، أدركوا تمام الإدراك، أن لا خيار أمامهم إذا كانوا يريدون إخراج الإقليم والشعب الكردي من دوامة المشاكل والأزمات المجتمعية الخانقة إلا بالتوجه الجاد والصادق نحو بغداد، والتعامل بقدر كبير من الواقعية مع مجريات الوقائع والأحداث، لاسيما أن التجارب أثبتت خطأ المراهنة والتعويل على الخارج من أجل فرض خيار معين، ربما يتقاطع بشكل أو بآخر مع الثوابت والمصالح والمبادئ الوطنية.
وطبيعي أن التفاهم والتوافق بين المركز والإقليم من شأنهما أن يساهما في تطويق مساحات الخلافات داخل البيت الكردي، ويبعدا عنه شبح العودة إلى الاقتتال الأهلي والتفكك والانقسام السياسي والمجتمعي والجغرافي، وفوق ذلك، يمكن أن يساعدا بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الحد من التدخلات الخارجية، لأنه متى ما كانت الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية هشة ومضطربة وقلقة، تشجع الآخرون وتجرأوا على التدخل والحضور السلبي المرفوض.
مسعود بارزاني: المناخ السياسي العراقي يشهد انفراجة وانفتاحاً، ويمكن أن يكون ذلك فرصة جيدة لتبادل الرؤى حيال العقبات وسبل معالجة المشكلات
والنقطة الأخرى التي لا تقل أهمية عن النقاط المشار إليها، هي أنه من غير المعقول أن يشهد العراق انفتاحا كبيرا على محيطه الإقليمي والعربي، والفضاء الدولي العام، وأن يشكل محطة لالتقاء الخصوم والفرقاء الإقليميين، في الوقت الذي يعجز قادته وأصحاب القرار فيه عن تطويق خلافاتهم واختلافاتهم واحتوائها، وتأسيس قاعدة رصينة وقوية للحوار المنتج للحلول والمعالجات الحقيقية المطلوبة.
ومما لا يختلف عليه اثنان هو أن تعزيز مكانة العراق الإقليمية والدولية، وحضوره الفاعل في كل المحافل والميادين، وحضور الآخرين فيه، سياسيا واقتصاديا، يتطلب أن تكون بيئته السياسية والأمنية والمجتمعية مستقرة وجاذبة، وكما مثّل القضاء على تنظيم داعش الإرهابي منجزا أمنيا مهمّا، فإن تطويق المشاكل والأزمات والخلافات بين الشركاء في داخل الوطن واحتواءها، يعدّان منجزا سياسيا لا يقلاّن أهمية عن المنجز الأمني، لأن كليهما يكمل الآخر، وأيّ خلل في أحدهما لا بد أن ينعكس سلبا ويلقي بظلاله على الآخر، وتجارب الماضي أثبتت ذلك وأكدته على أرض الواقع.
وأيّا تكن مسارات الحوار وظروفه وعناوينه وأدواته وضروراته بين بغداد وأربيل، فإنه لن يثمر ولن ينتج ما لم يتأسس على الثقة الحقيقية، التي ربما تكون قد غابت في أغلب المراحل والمحطات السابقة، إن لم تكن جميعها، وهذا ما يعيدنا إلى ما قلناه سابقا، وأشرنا إليه في أول السطور.