الباحثة الجزائرية كلثوم مدقن: ألوان العرب تعكس ذهنياتهم وترتبط بتاريخهم وبطولاتهم

لماذا كان العرب يسمون الأبيض والأخضر بالأزرق.
الأحد 2022/11/13
العرب استلهموا ألوانهم من تصوراتهم للحياة (لوحة للفنانة شعيبية طلال)

تعد الألوان من المدركات البصرية التي تحيط بنا ونتفاعل معها بيسر وتزرع فينا جملة من الأحاسيس المؤثرة وتأثيرا قويا على شخصيتنا، ولقد اتخذها القرآن الكريم في خطابه لتمثيل الفكرة وتقريبها للمتلقي. والبحث في اللون القرآني يعطي دلالات تختلف في بعض الحالات عن استعمالها في الأنظمة الحياتية الأخرى، كم اختلف العرب في التعامل مع الألوان وحتى في تسميتها.

لمعرفة أسرار اللون في القرآن الكريم بوصفه خطابا دينيا جاءت هذه الدراسة “اللون عند العرب.. بين الدين والمجتمع” للباحثة الجزائرية كلثوم مدقن، متتبعة مفهوم اللون وتطوره عبر التاريخ، ومقارنة بين اللون والضوء المشتق منه، وعلاقة اللون بمستعمليه العرب، لتعرض بعد ذلك جماليات اللون وكيف تغنى به الشعراء.

وقدمت الباحثة التفسير النفسي للون وأثره على النفس البشرية، لتنطلق في الشق التطبيقي المتمثل في إبراز دلالة اللون في القرآن الكريم بأبعاده اللغوية والثقافية والنفسية والدينية. ومن هنا تشكل الدراسة الصادرة عن دار فكرة كوم محاولة للاقتراب من الظاهرة اللونية في الخطاب الديني وحضورها في الحياة الإنسانية وأثرها على النفس البشرية، وذلك من خلال ربط هذا المسار المتعرج من الأثر اللوني بقدرته على توجيه الإنسان مزاجيا ومعرفيا وجماليا، فالظاهرة اللونية وفقا للباحثة تسمو لتكون خطابا من نوع خاص تستخدمه مختلف الأنظمة لإيصال رسائل عديدة ومختلفة. لهذا كان حضوره في الخطاب الديني، وخاصة القرآن، قويّا، وهو ما تركز عليه الباحثة أكثر.

معاني الألوان

تؤكد كلثوم مدقن أن لغة الألوان تظهر من حيث دلالاتها أبعادا عالمية، تدخل ضمن العلامات العرفية غير المتفردة التي يتواصل بها الأفراد بمعان مماثلة، إلا أن النظام الذي تؤول داخله يختلف من مجتمع إلى آخر حسب المعتقدات والعرف، كما نسجل ذلك التقابل في الدلالة داخل كل نظام؛ فالأحمر مثلا الذي يورده القرآن الكريم بمعاني أغلبها سلبي، وهو ما تداول عند معظم المجتمعات مستمدا معناه من الدم والنار، يتحول إلى معنى ضدي في نظام الأناقة والشعر حيث يرتبط بالحب والجمال، والأبيض الذي يحمل له جميع الأفراد معاني السلام والصفاء والفرح، يتحول في بعض خطابات القرآن الكريم إلى معاني الفناء والخوف (الكفن والشيب)، ويتحول اللون الأسود الدال على الحزن والظلمة إلى لون التميز، حيث يعد من أبرز الألوان تأثيرا على ذهن المتلقي.

بوكس

واللون الأخضر، الذي يحيط بنا في شكل خطاطة مصغرة لما وعدنا الله به في الجنة، هو أحب الألوان للأطفال والأكثر اكتسابا لما له من وقع قوي على الأفراد في بعث الانتعاش للنفس البشرية واستقرارها. لكن نجده يأخذ دلالات سلبية باتحاده مع الأصفر.

بهذا فالألوان على اختلافها تأخذ دلالاتها من السياقات التي ترد فيها وما ترتسم عليه من أشياء، فالمتغيرات المرتبطة باللون كثيرة بعضها يرجع إلى طبيعة الشيء الذي أظهر اللون وبعضها الآخر يعود إلى السياق اللغوي الذي ورد فيه وبعضها الثالث يرجع إلى الثقافة وما تحمله من دلالات للون قد تختلف من شعب إلى آخر. ويظل حضور اللون في القرآن الأكثر تميزا وتنوعا دلاليا من كل الخطابات الأخرى على مر العصور.

وتبين مدقن أن من نعم الله الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى نعمة اختلاف الألوان التي تستحق الوقوف عندها والبحث فيها، وهي نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا من حرم منها، فقد أراد الله أن تختلف الألوان فيكون منها الأحمر والأصفر والأزرق والأبيض والأسود إلى غير ذلك من الألوان التي تميز المخلوقات، وقال تعالى “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين”، وجاء في التفسير: لغاتكم من عربية وعجمية وغيرها، (وألوانكم) من بياض وسواد وغيرهما، وأنتم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة (إن في ذلك لآيات) أي دلالات على قدرة الإله، الذي ينبه عباده إلى كمال قدرته في خلقه.

وتبين أيضا أن الخطاب الديني ركز على اختلاف ألوان النبات رغم أن أصل سقياه وتغذيته واحد هو الماء الذي ينزله الله من السماء، كما خلق الحيوانات والناس والدواب وكل من دب على الأرض، والأنعام كذلك مختلفة ألوانها؛ “فالناس منهم بربر وحبوش في غاية السواد وصقالبة وروم في غاية البياض والعرب بين ذلك، والهنود دون ذلك، وكذلك الدواب والأنعام مختلفة ألوانها وحتى في الجنس الواحد، بل النوع الواحد منهم مختلف ألوانه والحيوانات أيضا.

وعن عباس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: أيصبغ ربك؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم صبغا لا ينفض؛ أحمر وأصفر وأبيض. واختلاف خلق الله في عباده وحيواناته ونباته تمازج مع اختلاف الألوان فتعددت واختلفت فتولدت منها الألوان الفاتحة والغامضة والدافئة والباردة والمثيرة والهادئة”.

وتختلف درجة تعلقنا بالألوان حسب تركيبة كل منا مع أن جميعنا يحب الألوان وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، ولكل لون مفضل يختلف أو يتفق عليه مع غيره، ويمكن وضع الألوان في مجموعات منها الألوان الفاتحة مثل “الأبيض والأصفر والبني”، إذا اختارها الفرد تدل على صراحته وبساطته مع الناس، والألوان الغامقة مثل “الأسود والرصاصي والبني الغامق” إذا اختارها الفرد تدل على عدم إظهار ما في داخله للآخرين ويميل صاحبها إلى الغموض.

بوكس

وتلفت الباحثة إلى أن العرب اهتموا بمفردات اللغة وانتقاء ألفاظ متعددة ولكل مفردة وظيفة دقيقة وكان للألوان نصيب في ذلك، ولأن الأسود من أكثر الألوان دلالة عند العرب فقد استخدموا له العشرات من المفردات للدلالة على شدته حسب ارتباطه بموصوفه الذي يتعلق في بعض الأحيان بامتزاجه مع ألوان أخرى قريبة منه، ووصفوه بجملة من الصفات منها “الأسود الصرف أو الشديد السواد مثل: حليب وحلوب وأدجن وأدعج وأدلم وأدغم وأدهم وأسجم وأطلس وفاحم وفحيم وأبغس وبهيم وحالك ومحلولك وأحم ويَحْمُومٌ وحَمْحَمٍ وحِمَامٌ ودُغْمَانٌ وسَحْلُوكٌ وأَسْمَحَانٍ وعَلْجَمٍ عَلْجُومٍ وغُرَابيٌ”، ويلاحظ استنباط تسمية الأسود الصرف من مكونات الطبيعة والحيوانات والصفات التي تحلى بها أصحاب القوة والجبروت، كما أنها تعكس صفاء اللون وعدم امتزاجه بألوان أخرى، وتضاف إليها الأسماء المتنوعة الرباعية والخماسية والسداسية، وعبروا عن السواد الحالك بصفات مثل “أحم وفاحم وقاتم وغربيب وحداري ودجوجي وديجوج وديجور ودامج” وغيرها من الصفات الغريبة والثقيلة في نطقها.

وجرت المصطلحات المتعددة والمفردات الغريبة إلى اللون الأبيض الذي أخذ عند العرب دلالته ومفهومه من الدين، فارتبط بالصفاء والنقاء في عمومه وخص بتسميات مختلفة لما امتزج مع ألوان أخرى سريعة التأثير فيه، فأخذ تسميات حسب ما علاه منها وأطلق العرب على الأبيض الخالص “وصف النعج والناعج والصرح والحر، وأطلقوا على الأبيض الذي تعلوه كدرة ‘قهبلس’ وعلى الأبيض الذي يخالط بياضه حمرة ‘الأقهب’ ووصفوا الأبيض بصفات كثيرة منها: أبيض ناصح للخالص الصافي وقالوا في الأبيض الشديد البياض: يقق ويلق ولهاق ولياج، وإذا كان البياض ذا بريق قيل: أبيض وأبص ووباص وبراق ودلمص ودلامص”.

تسميات عربية

لم يبتعد العرب عن استلهام مصطلحات الألوان من المحسوسات التي تحيط بهم مزينة بصيغ المبالغة لتأكيد دلالاتها الاجتماعية والنفسية، ورغم اختلاف المصطلحات وتمايزها ودقتها في الدلالة على كل مسمى اتفق العرب على تصنيف بعضها في المحظور وبعضها في المهجور والمحبب والمقرب حيث اعتبروا كلمة “السواد ومشتقاتها من الكلمات المحظورة التي نتجنب نطقها تشاؤما من ذكرها لما هو مستقر في نفوس العامة من اعتقاد وجود علاقة بين اللفظ والمواقف المرتبطة به أقوى من مجرد الدلالة”.

وتؤكد الباحثة أن العرب تفردوا بألوان تعكس ذهنياتهم، وترتبط بتاريخهم وبطولاتهم حسب الدول التي تداولت عليهم انتدابا أو استعمارا؛ إذ “كان شعار العرب ذا ثلاثة ألوان، اللون الأبيض والأخضر والأسود، وهي ألوان ترمز إلى دولة الأمويين والفاطميين عبر مراحل الدولة العربية الإسلامية في مختلف عهودها، إلى جانب هذه الألوان الثلاثة أضيف الأحمر، ليكون رمزا لنزعة العرب التحررية، وهو علم الثورة العربية الكبرى”.

وعرف العرب قديما تداخلا في مفردات وتسميات الألوان، وهو ما يعود إلى التطور الطبيعي الذي لحق بألفاظها، “ولعل اتجاه العرب إلى التخصيص بعد التعميم أساس في ذلك، ومن أمثلة ما ورد في كتب اللغة العربية ‘الأزرق’ الذي ورد بمعنى ‘الأبيض’ وبمعنى ‘الأخضر’، وانتقل الاهتمام بالألوان إلى المعاجم والكتب والمصادر وأوردوا لها تسميات متعددة مثل ابن سيده في معجمه ‘المخصص’ إذ قال أن ‘للألوان الثلاثة الأحمر والأسود والأبيض أسماء مستعملة قريبة وأخرى وحشية غريبة لا تدور في اللغة مدارها ولا تستمر استمرارها’، وهذا التخصيص في اللون في نظر ابن سيده خالفه فيه النمري في كتابه ‘الملمع’ وفيه قدم اللون وأنواعه بأكثر تحديد وموضوعية حين راح يصنف في اللغة العربية خمسة ألوان وهي: الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والأخضر، ووصفها بأنها: النواصع الخوالص من بين جميع الألوان ولم يعتبر هذا خاصا باللغة العربية وحدها، وإنما اعتبره عاما في كل اللغات حين قال إن الله خلق الألوان الخمسة”.

وتتابع كلثوم مدقن قائلة إن تسميات اللون عرفت عند العرب ربطها بالأماكن، ولقد تميز كل قوم بمصطلحات حسب مستواهم الثقافي والحضاري، فمن أمثلة ذلك قولهم: القارة السمراء والبحر الأسود وقصر الحمراء والبحر الأبيض المتوسط والدار البيضاء وعين البيضاء والجبل الأخضر وعين الصفراء، وكان قصر كسرى في فارس يسمى القصر الأبيض، واستمرت هذه التسميات إلى الزمن الحالي وصارت نعوتا لآثار قديمة مسجلة في كتب التاريخ، وتحفظ العرب وأهملوا بعض الألوان لعدم الاعتراف بها نظرا إلى عدم تأصيلها وتداولها في القاموس اللغوي الذي ألفوه، خاصة الممزوجة والدخيلة والمقترنة بتسميات الفواكه، فالألوان وردي وأرجواني وبرتقالي لم ترد في لغة العرب، ولقد ورَد لفظ ورْد دون نسبة وأرجوان دون نسبة وكلاهما استعمل اسما وصفة في نفس الوقت.

تصنيف الألوان

◙ الألوان نظرة ثقافية كاملة (لوحة للفنان مجدي زواهري)
◙ الألوان نظرة ثقافية كاملة (لوحة للفنان مجدي زواهري)

وتضيف الباحثة “إن كان تصنيف الألوان يقوم على درجة لونها، إلا أنها تصنف أيضا حسب أثرها النفسي على الأفراد، إلى الدافئة والباردة؛ الألوان الدافئة: مثل الأحمر والبرتقالي والبني الفاتح والأصفر، وترجع هذه التسمية إلى اقتراب هذه الألوان من لون النار والدم، وكلاهما مصدر للحرارة والدفء، وإذا اختارها الإنسان تدل على حبه للناس ولأسرته وهذه الألوان تحمل في دلالاتها معنى القوة. الألوان الباردة: مثل الأزرق والبني، سميت باردة لارتباطها بلون السماء والماء وكلاهما مصدر برودة، وإذا اختارها الإنسان تدل على عدم حبه الاختلاط بالناس وتقتصر عاطفته على أقرب الناس إليه ولا يتأثر بما يحدث للآخرين من مواقف، سواء أكانت محزنة أم مفرحة”.

وتشير إلى أن الألوان ارتبطت في دلالتها ببعض المسميات التي تعكس مضمونها حيث عكست في بعض ألفاظها دلالة حقيقية فجاءت إشارة نسقية إلى جوهرها وعلاقة حقيقية بشكلها، أو كما أطلق عليها السيميائي بيرس “البلاغة الخالصة”، مؤكدا على وجود علاقة وطيدة بين الدال والمدلول، وللألوان دلالات وضعها الإنسان لتعبر عن مصطلحات يتعارف عليها الناس فيما بينهم، كالألوان في الشوارع المتمثلة في إشارات المرور التي يفهمها المتعاملون معها؛ اللون الأحمر له دلالة الخطر والتوقف تماما واللون الأصفر استعداد للسير واللون الأخضر يعني السماح بالسير. وارتبط اللون بالدلالة المكونة من الدال والمدلول التي قسمت إلى: دلالة لفظية وضعية كدلالة لفظ الشمس على الكوكب المضيء، ودلالة غير لفظية وضعية كدلالة إشارة المرور الحمراء على الخطر، ودلالة غير لفظية طبيعية كدلالة حمرة الوجه على الخجل، وكل دلالة وضعية وعقلية وطبيعية تعكس في الغالب حركة مرفقة بلون يتضمن الحالة الشعورية والنفسية الحقيقية للفرد، كما ترد نسقا مرئيا دالا على معنى محدد، مثلما هو وارد في اللون الأحمر داخل نظام المرور.

العرب تفردوا بألوان تعكس ذهنياتهم، وترتبط بتاريخهم وبطولاتهم حسب الدول التي تداولت عليهم انتدابا أو استعمارا

وتؤكد كلثوم مدقن أنه نظرا إلى ارتباط الإنسان بالألوان منذ زمن بعيد فقد أوجد لها عدة تسميات واستمدها بالتقارب الشكلي من ألوان الطيف وبالتقارب التأملي من ألوان الطبيعة المحيطة به؛ السماء والأرض والبحر والخضرة. وقد ثبت استخدام الألوان منذ القديم في فنون متعددة منها الرسم الذي يمتد من 150 ألف سنة إلى 200 ألف سنة مضت، وقد عثر في إسبانيا على رسوم حوائط بعض الكهوف تمثل بعض الحيوانات في ألوان حمراء وسوداء وصفراء ترجع إلى هذه الفترة السحيقة، ودفن إنسان العصر الجليدي موتاه في لون أصفر محمر، ودهن عظامهم بلون أحمر.

ولقد عرف العلماء تباينا في أسماء الألوان وتطورها فتفرعوا إلى آراء وربطوها بمراحل زمنية استمدت منها تسميات عرفت ببلاغة العلاقة بين الدال والمدلول التي تتطلبها المفردة لتؤدي وظيفة التواصل النسقي.

14