بثّ مباشر

المراكز البحثية العربية لم تنشط في تتبع ظاهرة البث المباشر بعد ولم يقل أحدٌ لهؤلاء إن صورتك وصوتك وحضورك هي حقٌّ حصري لك تمنحه بموافقتك أو لا.
الجمعة 2022/11/11
العبرة في خطورة فهم الصلاحيات التي يعطيها البث المباشر

أردتُ الاطلاع على عالم البث المباشر الحرّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام، فقد كنتُ آليتُ على نفسي الإبقاء على مسافة أمان ظننتها "عِلميّة" من هذه الظاهرة التي تتفلّت من كل قيود عرفناها حول أصول المهنة الإعلامية وضوابطها.

وكان نصيبي من تلك التجربة ما أستحقّه بالفعل، لحماقة الاقتراب من هكذا عالَم فوضوي، فما إن بدأتُ بطرح أفكاري في حوار مباشر على الزوم واليوتيوب، حول أفكار مقترحة للتعامل مع الميليشيات الإرهابية التي تعيث في المنطقة العربية فساداً، حتى انطلقت "الفيديوهات الخلاعية"، لتغطّي حديثي وصورتي وصوتي بالكامل بغرض التشويش عليه، فيا لها من هديّة قيّمة!

كان ذلك مثار سخرية عندي، لكن عبرته تكمن في خطورة فهم الصلاحيات التي يعطيها البث المباشر لما صار يُعرف بـ"المُستخدِم" لوسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن كان البث المباشر قصّة معقدة تتداخل فيها الأقمار الصناعية والحجوزات والتكاليف العالية.

قصّة معقدة تتداخل فيها الأقمار الصناعية والحجوزات والتكاليف العالية
قصّة معقدة تتداخل فيها الأقمار الصناعية والحجوزات والتكاليف العالية

تزعم الشركات المشغّلة لهذه الوسائل أنها تحتكم إلى قوانين ضابطة تحترم الخصوصية وتحترم حقوق النشر، لكن هذا مجرد كلام يضيع في دهاليز المخاطبات، ومن يتحكّم بحقوقك فيها هو درجة ذكاء وثقافة الموظف الذي عيّنوه للردّ على الإيميلات والشكاوى.

ما زال مستخدمو تلك التقنيات يعتبرونها مثل عصا سحرية تخولهم فعل كل شيء، فرحين بها مستغلين لقدراتها على التشهير والإساءة والحديث في كل شأن بلا وثيقة. لا بأس. يمكن التعامل مع هذا بالعديد من الوسائل، لكن الوعي الإنساني بانحطاطه هذا يجعل من تلك الأدوات أدوات تضييع وقت بدلاً من أن تكون موجّهة لما ينفع الناس أو على الأقل يمتعهم ويرفّه عنهم.

لم تنشط المراكز البحثية العربية في تتبع ظاهرة البث المباشر بعد، ولم يقل أحدٌ لهؤلاء إن صورتك وصوتك وحضورك هي حقٌّ حصري لك تمنحه بموافقتك أو لا تمنحه.

اليوم إذا بحثتَ في "غوغل" عن بحث أو دراسة رصينة، باللغة العربية، اشتغل أصحابها على ظاهرة البث المباشر، ستخرج لك نتائج مضحكة، خُذْ مثلاً "لا يمكنني العثور على زرّ بدء البث"، و"حلّ مشكلة التقطّع في البث المباشر"، والكثير من هذا الهراء.

وكي نكون منصفين، فإن دراسة وحيدة نشرتها "مجلة الإعلام والعلوم الاجتماعية للأبحاث التخصصية" الصادرة عن المعهد الماليزي للعلوم والتنمية، هي ما يمكن اعتباره عملاً جاداً، وما عدا ذلك لا وجود لأي اهتمام عربي حقيقي.

وتبقى المشكلة تدور حول السُلطة واستعمالها، فمن يبثّ يعتقد أنه سلطة، ومن يخرج على البث، كضيف، هو سلطة أيضاً، ومن يمكنه اختراق البث سلطة ثالثة، أما المشاهد فهو ذاك الذي يُلقَّن تلقيناً مثل الإوزّات المصريّة ويحشونه حشواً بما يريدون.

20