السرد غير الواقعي ليس جديدا على العرب الذين أبدعوا فيه

الناقدة العراقية نادية هناوي تعيد مكانة الخيال في السرد العربي.
الخميس 2022/11/03
الأدب العربي القديم احترف كتابة العوالم غير الواقعية

تحفل المدونة السردية العربية منذ القدم بنصوص سردية تأخذ مادتها من خارج الواقع، وتحول ما هو خيالي بقوة السرد إلى حكايات محبوكة بعناية. ولذا كان العرب من أول من تلاعب بضفتي الواقعي والخيالي في السرد الذي قد يصل إلى حدود اللامعقول وتحويله إلى معقول. وهذا ما ترصده الباحثة العراقية نادية هناوي.

طرح منظرو السرديات ما بعد الكلاسيكية فرضيات وقدَّموا تصورات لعلوم مستحدثة ومنها علم السرد ما بعد الكلاسيكي، وأسسوا مشاريع بحثية مستقبلية تُنظر لعلوم تتفرع عن هذا العلم كعلم السّرد المعرفي والسّرد الطبيعي والسّرد غير الطبيعي وعلم السرد النسوي.

وعلى الرغم من الجهود الحثيثة في هذا المجال والتي ابتدأت منذ تسعينات القرن الماضي وربما قبلها بقليل، فإن ما أُحرز من تقدم في هذا المجال يبدو محدودا بالقياس إلى ما أرسته نظريات السرد البنيوية وما بعد البنيوية من أساسات وما دشنته من فرضيات.

علم السرد

الناقدة اتخذت من البحث في السرد غير الواقعي مشروعا نقديا تبلور من خلاله خصوصية عربية لعلم السرد

لقد نال علم السرد غير الطبيعي اهتمام الناقدة نادية هناوي فكان الجزء الأول من كتابها “علم السرد ما بعد الكلاسيكي: السرد غير الطبيعي”معنيا بتتبع أهم التصورات وملاحقة آخر المستجدات التي أنجزها وينجزها منظرو السرد غير الطبيعي. ولأن الأساس الذي ينطلقون منه له جذوره في السرد العربي سعت المؤلفة لاختبار وتطوير واجتراح منظورات بعينها. فكانت المحصلة “السرد غير الواقعي” ليكون هذا هو الجزء الثاني من كتابها، وقد صدر حديثا عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع ببغداد، وحمل عنوان “علم السرد ما بعد الكلاسيكي: السرد غير الواقعي”.

في كتابها تذهب هناوي إلى تأكيد حقيقة أن أكثر النظريات أهمية وأقدمها عمراً هي تلك التي موضوعها الواقع، وما فيه وما عليه من قضايا ومسائل فكرية وجمالية لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحقيقة كما أن نظرية المحاكاة وتنويعاتها هي الميدان الأكثر اختبارا واستنباطا لأحكام ومنهجيات الفعل الواقعي.

وترى هناوي أنه بسبب ذلك تنوعت صور الواقعية فصارت بلا ضفاف عند غارودي وهي اليوم وغداً عند بوريس بورسوف واصطنع الأميركي لورنس داوسون “موت الواقع”. كما جرّب بعض القصاصين والروائيين العرب صيغا جديدة من الواقعية هي اللاواقعية التي هي ليست جديدة على السرد العربي القديم، فهو الذي أرسى أسسه السردية على دعائم الخيالية وله أساليبه في السرد غير الواقعي وطرائقه التي بها يتحوّل غير الحقيقي واللاموجود وغير المقبول واقعيا إلى عكسه، وبما يمنح الشخصية غير الآدمية أبعادا إنسانية ويضفي على الجوامد حركة دينامية، موظفا اللامعقول من الأحداث مبتكراً زماناً ومكانا مُختلقين، يتجاوزان حدود العقل من جانب ويخضعان لمنطقية السرد من جانب آخر.

السرد غير الواقعي يخرق المعتاد وغير المقبول لكنه بمنطقية التحبيك السردي يصبح معتادا فهو ليس كذبا ولا خداعا

وانطلاقا من هذه التصورات لمفهوم اللاواقعية تأتي نظرية هناوي في “السرد غير الواقعي”، فقعّدت مفاهيمها وبينت بروتوكولاتها وقضاياها ودللت عليها بنماذج قصصية وروائية كثيرة ذات أساليب خاصة في محاكاة الواقع الموضوعي.

وتقول هناوي إن هدفها من وضع هذه النظرية هو “ترسيخ مفاهيم تضيف إلى منظومتنا الثقافية تقاليد جديدة عموما وقد تعزز القديم منها أيضا، لاسيما ما كان قد غاب عنا من هذه التقاليد بسبب ابتعادنا عنها وعدم مبالاتنا الجوهرية بالمعاينة في أهميتها الابستمولوجية وما يمكن أن يستخلص منها من قيم واعتبارات”.

وتضيف: اتخذت من البحث في السرد غير الواقعي مشروعا نقديا أسعى من خلاله لبلورة خصوصية عربية لعلم السرد تنبع من صلب المنجز السردي والنقدي العربيين، وفيه أرى أن السرد رافق الإنسان منذ أن وعى وجوده على الأرض وخبر آفاقه كحاجة لا بد له من تلبيتها. ومما جاء في معنى السرد غير الواقعي أنه سرد لا يتضاد مع نظرية المحاكاة وقانون الاحتمال الأرسطي، لأنه يضع اللاواقعية في عنصر بعينه من عناصر السرد؛ فمثلا قد تكون الأبنية الزمانية تقليدية وكذلك اللغة والشخصية والسارد لكن الأحداث أو الأمكنة هي غير واقعية.

وإذا كان لعلم السرد أن يتقدم على أيدي المنظرين الفرنسيين البنيويين وما بعد البنيويين، فإن تطورات متسارعة أصابت العلوم بنوعيها الإنسانية والصرفة أولا، وتغيرات هائلة في قطبية الهيمنة السياسية والاقتصادية في النظام العالمي الجديد ثانيا، وقد ساهمت في بروز منظومة نقدية جديدة انجلو أميركية، أخذت على عاتقها تطوير علم السرد باتجاهات جديدة وبمساع حثيثة، غايتها التعاكس والاختلاف مع كل ما أسسته ونظَّرت له وأكدته المدرسة الفرنسية بنيوية وما بعد بنيوية.

السرد غير الواقعي

ؤؤ

اشتمل الكتاب الذي بلغت صفحاته أكثر من أربع مئة صفحة على قراءات للعشرات من القصص والروايات العربية والأجنبية، وبعض منها مغمور يعود إلى عصر النهضة. وتلفت هناوي إلى أن “مفهوم السرد غير الواقعي يقوم على فكرة عدم استنساخ العالم بشكله المباشر والممكن، وإنما التعبير عنه على نحو غير ممكن، تحكمه مبادئ لا علاقة لها بالعالم الموضوعي لكن بالفهم الإدراكي الذي يعزز الصلة التوليفية بين السرد والعقل، فيغدو التواصل السردي مع أمور غير قابلة للتصديق في عالمنا القائم، مرتهنا بالفهم الإدراكي لما هو غير معقول. وتتحدد الإثارة في السرد غير الواقعي في ما يفتحه من أبواب تعيد النظر في شرائح واسعة من تاريخ الأدب وفئات من النماذج الأدبية المغمورة والمطمورة حسب؛ بل أيضا في ما يتيحه هذا السرد من مصادر إلهام للكتّاب، فيها يجدون وسائل جديدة في التفنن الإبداعي والإبهار بالإيهام”.

وتتابع “أما بروتوكولات السرد غير الواقعي فهي اشتغالات تعيد منح السرد المقبولية المنطقية جاعلة المحال وغير الممكن واقعيا قابلا للتصديق من طرف المتلقي الذي لو قرأ الأحداث غير ممكنة الحصول خارج البنية السردية لما صدّق ولا حرفاً واحداً لكنه في قراءتها كقصة أو رواية ـــ أي عند دخوله عالمها الخاص ـــ ستتخلق مصداقيتها كأي قصة واقعية. والسبب هي المعالجة السردية التي تظل بالعموم ملتزمة بتخليق أو تلفيق التخليق بالمنطقية فيغدو المسبِب مؤدياً إلى النتيجة. وهو ما يضفي النظامية على السردين الواقعي وغير الواقعي ويشي بوجود توازنية بها تقبل عملية القراءة فلا يكذِّب القارئُ الحدث غير الواقعي أو الشخصية غير الواقعية أو الزمان غير الواقعي كما لا يشكك في واقعيتها”.

السرد غير الواقعي سرد يخرق المعتاد ويجعله غير مقبول
السرد غير الواقعي سرد يخرق المعتاد ويجعله غير مقبول

وتقول هناوي “قد لا تُفهم بعدية ‘السرد ما بعد الكلاسيكي‘ وغيرية ‘السرد غير الواقعي‘ على علاتهما كلها أو بعض منها، وقد تكون البعدية والغيرية مثارا للغموض والتساؤل وسببا في الاشتباك والتعقيد أكثر مما هما موجهان للمعنى ومحددان للدلالة، إنما هي طبيعة التوصيف اللغوي في التعبير بالظرفية ‘بعد‘ عن السرد الذي اختلفت تراتبيته المعرفية كميدان علمي كان قبل عقود يختص بمسائل عُدت في وقتها جديدة وكاشفة واستقصائية واليوم يُنظر إليها تقليدية وفيها القصور والارتباك كما أن في التعبير بأداة النفي ‘غير‘ توكيدا لحال سردي إزاء حال آخر، يناظره في الانضواء في علم السرد ويخالفه بتخليه عن الواقعية وميله إلى غيرها”.

هذا وقد عرّفت هناوي بمسائل وعرضت لاشتغالات في السرد، متيقظة من الوقوع في الاتباع وموالاة مدرسة كانت رائدة واليوم ليست كذلك، وحذرة في الآن نفسه من الانحياز لمدرسة امتلكت تفوقها واغترارها من جراء أمرين أحدهما سياسي يتمثل في الهيمنة الأميركية على النظام العالمي الجديد والآخر علمي يتمثل في السبرانية والعولمية واكتساحاتهما غير المحددة وحروبهما غير متكافئة الأطراف والأبعاد والإمكانيات.

وتعلل هناوي استعمال “اللاواقعي” بدلا من “اللاطبيعي” بأن الأول معبر عن الدلالة أكثر مما يعبر عنها الأخير. وميزت المؤلفة مفهوم “السرد غير الواقعي” عن السرد العجائبي، وحددت دواعي استعماله ومنها أن السرد غير الواقعي هو سرد مضاد وغير منطقي يتعامل مع الواقع بإستراتيجية معاكسة تجعل ما هو خيالي كالذي هو غير خيالي عبر إعادة صياغة دلالة “الواقعي” في تمثيل التسلسل الزمني وتوظيف الشخصيات الوهمية ــ التي بقيت ولزمن طويل في السرديات الواقعية تُرفَض أو تُهمَل أو تهمش أو تُستثنى ــ لتكون فاعلة وبطلة من خلال عقلنة السرد التي معها تبتعد الفاعلية السردية عن التشكيك والإيهام والاستحالة، وتصبح عملية القص الخيالية والخرافية وما فيها من حيوانات أو جنيات متحررة من السخرية منافسة أو متحدية المحاكاة في الطرق التي بها يمثل الخيالي والواقعي معا.

وترى هناوي أن السرد غير الواقعي سرد يخرق المعتاد ويجعله غير مقبول لكنه بمنطقية التحبيك السردي يصبح معتادا هو ليس كذبا ولا خداعا، بل مجموعة مسببات أفضت إلى نتائج مقبولة ومعقولة من ناحية منطقية الفواعل السردية وما يسند إليها من فعل بطولي خارق أو عجيب وأهليتها في أن تكون هي الفاعلة بدور السارد أو بدور المسرود مع تسلسل الزمان السردي بطريقة معقولة ليست غرائبية مما يعطيها واقعيتها ويصبح السرد موصوفا بأنه سرد واقعي.

13