بريطانيا ديمقراطية عريقة.. وماذا بعد؟

"هل ريشي أكثر ثراء من أن يكون رئيسا للوزراء؟" بهذا التساؤل الخبيث عنونت صحيفة ذي غارديان البريطانية صفحتها الأولى مشككة بأن شخصا بثراء ريشي لن يشعر بمعاناة عامة الناس.
الخميس 2022/10/27
الثراء ليس عيبا ينقص من أهلية الشخص وكفاءته

الجنيه الإسترليني هو الحاكم الفعلي لبريطانيا، وأي مرشح يسعى لدخول 10 داونينغ ستريت عليه أن يقدم أولا فروض الطاعة للإسترليني قبل أن يقدمها للمك في قصر باكنغهام.

ليس عبثا أن يختار البريطانيون البيت المحاذي لمنزل رئيس الوزراء، 11 داونينغ ستريت، ليقطنه وزير المالية. وهو إن كان بترتيب المناصب يلي منصب رئيس الوزراء، إلا أنه الحاكم الفعلي لبريطانيا.

محاولة ليز تراس التي أمضت 49 يوما في المنزل رقم عشرة، استخدام جارها وزير المالية كواسي كوارتنغ شماعة تعلق عليها الخطيئة التي ارتكبتها بتجاهلها جلالة الجنيه الإسترليني، لم تنقذها.

الخطة المرتجلة التي رسمتها واختارت لها كوارتنغ ليشرف على تنفيذها، هوت بسعر الجنيه الإسترليني، الذي فقد خمس قيمته خلال عشرين يوما، كانت كافية للإطاحة بتراس وخروجها من مقرها في داونينغ ستريت، مهزومة مطأطئة الرأس في اتجاه قصر باكنغهام لتقدم استقالتها للمك المتوج حديثا تشارلز الثالث.

◘ سوناك الذي توقع المعمعة التي سيواجهها، يقول إنه يعرف أن أمامه عملا عليه أن يقوم به لكسب ثقة البريطانيين، بعد كل ما حدث

حزب المحافظين المنقسم والمليء بالخلافات، الذي فضل أعضاؤه تراس على ريشي سوناك، هو شريك في نفس الخطيئة التي ارتكبتها تراس. اختيار الحزب لتراس كان موافقة ضمنية على برنامجها الاقتصادي القائم على تخفيض الضرائب والاقتراض، متجاهلة مكانة الجنيه الإسترليني، ليرتدوا على أعقابهم خائبين، ويختاروا المصرفي سوناك لإنقاذهم من محنتهم. وهو ما اعتبر رسالة مشفرة أعادت ثقة أسواق المال بالجنيه الإسترليني الذي نهض من كبوته، ولو إلى حين.

مناورة ذكية، قد تنقذ حزب المحافظين مؤقتا، لكنها لن تنقذ الاقتصاد البريطاني وتخرجه من محنته على المدى الطويل.

باستطاعة سوناك، وهو أول رئيس حكومة غير أبيض وحفيد مهاجر من أصول هندية، أن يتجاهل مطالب المعارضة بإجراء انتخابات مبكرة، بعد أن قدم للعالم شهادة حسن سلوك تثبت أن بريطانيا دولة ديمقراطية عريقة.

المناورة أرغمت زعيم المعارضة البريطانية كير ستارمر على الترحيب بتولي سوناك السلطة بوصفه أول رئيس وزراء لبريطانيا من أصل آسيوي. لكن هذا لم يمنعه من انتقاد سياسة سوناك، مشددا على أنه “لن يفي باحتياجات العمل”، ومذكرا في الوقت نفسه أن سوناك كان وزير الخزانة الذي ترك بريطانيا تواجه أدنى معدل نمو بين الدول المتقدمة، وأعلى معدل تضخم وأثار قلق الملايين بشأن فواتيرهم.

مخاوف المعارضة لها ما يبررها؛ نشأ سوناك في بيئة غنية وارتاد مدارس خاصة بما فيها وينشستر كوليدج المرموقة. وبعد تخرجه من جامعة أكسفورد، عمل في شركة غولدمان ساكس لإدارة الاستثمارات وصندوقي تحوط يديران أموال مستثمرين من القطاع الخاص. وعندما أصبح وزيرا، أخذ عليه أنه وظف استثماراته في “صندوق غير شفاف”.

◘ الخطة المرتجلة التي رسمتها ليز تراس واختارت لها كوارتنغ ليشرف على تنفيذها، هوت بسعر الجنيه الإسترليني، الذي فقد خمس قيمته خلال عشرين يوما، كانت كافية للإطاحة بها
◘ الخطة المرتجلة التي رسمتها ليز تراس واختارت لها كوارتنغ ليشرف على تنفيذها، هوت بسعر الجنيه الإسترليني، الذي فقد خمس قيمته خلال عشرين يوما، كانت كافية للإطاحة بها

ولكن، ما العيب في ذلك؟

أن تجني ثروتك من المضاربة شيء، وأن تحقق ثروتك من خلال العمل التجاري والصناعي أو الخدمي شيء آخر. المضاربة هي أبغض الحلال. والمضاربون أناس بلا قلب.

الذين عاصروا فترة التسعينات وشهدوا الأزمة التي واجهها الجنيه الإسترليني (عرفت باسم الأربعاء الأسود) يعرفون ذلك جيدا. حينها استفاد المضارب جورج سوروس، الذي جنى أرباحا تقدر بمليار دولار من البيع المكشوف للجنيه، مكرها الحكومة البريطانية على رفع أسعار الفائدة من 10 في المئة إلى 15 في المئة في محاولة فاشلة لمنع الجنيه من السقوط.

مازلت أتذكر الآلاف من العائلات التي اضطرت إلى إخلاء منازلها وتسليم المفاتيح للبنوك المقرضة، بعد أن عجزت عن تسديد الفوائد الشهرية.

مضارب واحد أجبر الحكومة البريطانية على الانسحاب من نظام آلية سعر الصرف الأوروبي (ERM). يجب أن تكون دون قلب لتفعل ذلك.

وهذا ما يخشاه المنتقدون لسوناك، الذي ينام على ثروة  تبلغ 730 مليون جنيه إسترليني، ملمحين إلى أن وزير المال السابق البالغ 42 عاما بعيد عن الواقع، لدرجة أنه لا يهتم بمخاوف الناس العاديين، وهو غير معني ولا يشعر بأزمة غلاء المعيشة المتفشية.

“هل ريشي أكثر ثراء من أن يكون رئيسا للوزراء؟”.

بهذا التساؤل الخبيث عنونت صحيفة ذي غارديان البريطانية صفحتها الأولى، مشككة بأن شخصا بثراء ريشي (ولد وفي فمه ملعقة من ذهب) لن يشعر بمعاناة عامة الناس.

بحث سوناك عميقا في نشأته الأولى عما يثبت به أنه قريب من عامة الشعب، فلم يجد سوى ورقة واحدة تقربه من “عامة الناس”، هي العمل في الصيدلية التي كانت تملكها عائلته عندما كان مراهقا. لكنه ارتكب زلة بعرضه صورة وهو وينتعل حذاء من برادا في أحد مواقع البناء.

ويبدو أن جيريمي كوربين الزعيم اليساري التقليدي السابق لحزب العمال، وهو الآن عضو برلماني مستقل، كان على حق عندما قال إن سوناك “سيهتم بمصالح 1 في المئة” من البريطانيين. أما البقية، 99 في المئة، فسيدفعون مقابل حصولهم على الحماية.

وهو ما تؤكده استطلاعات للرأي تقول إن أكثر كلمة يربطها البريطانيون بسوناك هي كلمة “ثري”.

سوناك الذي توقع المعمعة التي سيواجهها، يقول إنه يعرف أن أمامه عملا عليه أن يقوم به لكسب ثقة البريطانيين، بعد كل ما حدث. ويؤكد أنه ليس خائفا من تحمل المسؤولية، وكل ما يأمله هو أن يكون قادرا على الوفاء بمتطلبات المنصب الذي أوكل إليه. ليصرح بعد وقت قصير من قبوله تكليف الملك تشارلز له بتشكيل الحكومة إن “هذا يعني اتخاذ قرارات صعبة”.

◘ حزب المحافظين المنقسم والمليء بالخلافات، الذي فضل أعضاؤه تراس على ريشي سوناك، هو شريك في نفس الخطيئة التي ارتكبتها تراس

قد يبدو كل ما قيل وتناقلته المعارضة في بريطانيا للتشكيك من قدرات سوناك على الخروج بالبلاد من أزمتها من قبيل المراهقة السياسية، صادرة عن أحزاب اليسار. فالثراء ليس عيبا ينقص من أهلية الشخص وكفاءته لتبوّؤ منصب الرئاسة؟

أو لم يكن معظم رؤساء الولايات المتحدة فاحشي الثراء؟

المشكلة بالتأكيد ليست أن تكون ثريا أو فقيرا، بل في الكيفية التي صنعت فيها ثروتك. وسوناك صنع ثروته من المضاربة.

قد ينجح المحافظون في البقاء في الحكم إلى موعد إجراء الانتخابات القادمة، وإن كان هذا مشكوكا فيه. ولكن ما يخشاه الجميع هو أن تتحقق مخاوف المستثمر البريطاني غاي هاندز وتمضي بريطانيا على الطريق “لتصبح رجل أوروبا المريض”، وتقف مع الدول التي تطلب مساعدات من صندوق النقد الدولي، في صف واحد.

عندها سيكون الإنجاز الوحيد الإيجابي الذي سيتذكره العالم مستقبلا لسوناك هو أنه أول رئيس وزراء غير أبيض يحكم بريطانيا، مؤكدا بذلك ما يتفق عليه الجميع، وهو أن بريطانيا بلد ديمقراطي عريق.. ولكن، ماذا بعد ذلك؟

8