أي مستقبل لفن يبدعه الذكاء الاصطناعي؟

جودة الأعمال الموسيقية والغنائية التي يبتكرها الذكاء الاصطناعي وصلت إلى درجة لا يمكن إنكارها.
الجمعة 2022/10/21
هل تشتري هذه اللوحة؟

قدرات الذكاء الاصطناعي على ابتكار أعمال فنية سواء موسيقية أو تشكيلية أو ملصقات تجارية أو حتى مقاطع فيديو ليست محل جدل أو تشكيك. ولكن هل العمل الفني مهارة فقط؟

الجواب عن هذا السؤال يعيدني إلى الوراء أكثر من أربعين عاما. كنت في عامي الأخير بكلية الفنون الجميلة بدمشق، أقدم مشروع تخرج في قسم الرسم، وكان يطلق عليه حينها اسم قسم التصوير.

رغم تخرجي بدرجة امتياز، إلا أن التعليق الوحيد الذي وجه لي من أعضاء لجنة التحكيم وبقي عالقا بذاكرتي هو لعميد الكلية الراحل محمود حماد.

اكتفى حماد، بعد أن هنأني، بملاحظة مقتضبة احتجت إلى سنوات لأدرك عمقها: “الفن ليس مهارة”.

ولكن، لأنصار التكنولوجيا رأيا آخر، ويسعدهم دائما أن يثبتوا أن بإمكانهم خديعة خبراء الفن. وهذا ما لجأ إليه فريق من “بي.بي.سي” البريطانية.

الذكاء الاصطناعي يحتاج أن يمهد لأعماله بنسيج من الحكايا والمشاعر؛ عليه أن يعاشر نساء تاهيتي ويتسلل تحت جنح الظلام، يغافل العسس ويرسم كما بانكسي

عرض الفريق على بعض خبراء الفن بحي السركال أفنيو بدبي لوحة تمثل فتاة عربية تستظل بشجرة، رسمت بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي وفي أقل من دقيقة، بالاستعانة بالتطبيق “ميد جيرني” الذي حوّل نصا مكتوبا إلى لوحة فنية أصيلة. وعرض الفريق لوحة أخرى على الخبراء نفذها تطبيق “دال إي 2” انطلاقا من بضع كلمات اقتصرت على: “لوحة من لوحات عصر النهضة لأم تطعم ابنتها بيتزا”.

لم يخبر الفريق المشاركين في الاستطلاع بأن العمل من صنع الذكاء الاصطناعي، مكتفين بسؤال واحد: “هل تشتري هذه اللوحة؟”.

أغلب الخبراء قالوا إن لديهم استعدادا لشرائها، إذا كان السعر مناسبا.

لم يختلف تجار الفن حول ما إذا كانت اللوحة فنا قيما أم لا. فكلهم رأوا أنها فن متقن. مرددين عبارات مثل “إنها فن رائع، واضح إنها مرسومة بإتقان، منفذة باحترافية، بها حكاية وإحساس فنان”.

بالطبع، فوجئ “خبراء الفن” حين كشف الفريق أن الذكاء الاصطناعي هو صاحب هذه اللوحة. وعلق أحدهم قائلا “أن يستطيع الذكاء الاصطناعي خلق إحساس لدينا فهذا تطور خطير، هذا شيء مختلف”.

الفن، كما همس لي محمود حماد قبل أكثر من أربعين عاما، “ليس مهارة”. الفن “حكاية وإحساس”.

الحكاية والإحساس هما ما منح لوحة ليوناردو دافنشي الموناليزا (جيوكاندا) قيمتها الفنية ليثار الجدل حولها طيلة 500 عام.

ما قيمة أعمال فان كوخ: عباد الشمس، حقل القمح والغربان، صورة وجهية، لولا الحكاية التي سبقتها والأحاسيس التي رافقتها.

في حقل القمح وضع فان كوخ حدا لحياته وإحساسه بالهزيمة والفشل بعد أن أنجز اللوحة، بينما الغربان تحلق في السماء.

ما قيمة أعمال فان كوخ

وفي صورته الوجهية أخفى أذنه بمنديل بعد أن قطعها وقدمها هدية لمومس مازحته وطلبتها هدية منه.

ما قيمة أعمال تولوز لوتريك لولا الحكايا التي رافقتها عن حياته في الحي الباريسي بيجال، ونساء المولان روج. لقد صنع لوتريك برسومه وما التصق بها من حكايات مجد فرنسا.

وما قيمة نساء أفينيون ولوحة جورنيكا التي رسمها بيكاسو لولا الحكايات التي رافقتها. وما قيمة أعمال سيلفادور دالي وآندي وارهول وديفيد هوكني.. وآلاف آخرين، لولا الحكاية والإحساس؟

يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يرسم أعمالا شبيهة بأسلوب هؤلاء جميعا. ولكنه لن يستطيع أن ينسج حول هذه الأعمال حكايا تمنحها الخلود.

سيحتاج الذكاء الاصطناعي أن يمهد لأعماله لنسيج من الحكايا والمشاعر والأحاسيس؛ عليه أن يعمل بحارا على المراكب ويعاشر نساء تاهيتي، أو يعمل واعظا دينيا في مناجم الفحم جنوب فرنسا، ليخرج من المنجم غاضبا يكاد أن يختنق، ويصرخ راميا ثياب الكهنوت جانبا “إن المسيح يصيخ آذانا صخرية لهؤلاء. لا يوجد إله”.

عليه أن ينهي حياته منتحرا في حقول القمح، ويعمل مراسلا حربيا. عليه أن يتسلل خلسة تحت جنح الظلام ويغافل العسس ليرسم كما بانكسي.

عليه أن يعمل مغسلا للموتى قبل أن يكتب رائعته “إسماعيل هاملت”.

ومثلما تستطيع أن ترسم، تستطيع أنظمة الذكاء تأليف كلام وموسيقى بأصوات تبدو طبيعية بعد أن يتم تلقيمها ببضع ثوانٍ من الصوت، لا جدال في ذلك.

الذكاء الاصطناعي لن يستطيع تقديم عمل يزاحم أعمال تيلور سويفت
الذكاء الاصطناعي لن يستطيع تقديم عمل يزاحم أعمال تايلور سويفت

تم تطوير هذه التكنولوجيا من قبل باحثي غوغل لتقوم بتوليد أصوات متنوعة، بما فيها الأصوات المعقدة مثل موسيقى البيانو، أو الكلام البشري، بطريقة تكاد تكون غير قابلة للتمييز عن التسجيل الأصلي.

جودة الأعمال الموسيقية والغنائية التي يبتكرها الذكاء الاصطناعي وصلت إلى درجة لا يمكن إنكارها. ولكن، إن كان بالإمكان تأليف مقطوعة موسيقية على نمط موزارت وباخ بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي تحظى بالقبول. يبقى السؤال كيف الوصول إلى مقطوعات غنائية تنافس أغنية أمبريلا (مظلة) لريانا وجاي زي.

البعد الإنساني المتمثل في النجومية وأخبار المشاهير التي يتصيدها الباباراتزي ستبقى العنصر الحاسم في المنافسة بين البشر والذكاء الاصطناعي.

من دون نجم خلف الميكروفون، لن يستطيع الذكاء الاصطناعي تقديم عمل يزاحم أعمال تايلور سويفت التي يتابعها أكثر من 227 مليونا على إنستغرام، وبيونسيه الحائزة على 28 جائزة غرامي.

تستطيع تطبيقات الذكاء أن تفعل كل هذا وأكثر، ولكن قبل ذلك عليها أن تمتلك قلب بشر لتخلق أسطورتها وتمنح عملها الخلود.

12