تأنيث الصورة في أغاني الفيديو كليب العربية يخفي رغبة فحولية

ظلت مباحث الهوية الموسيقية في الفكر العربي من المواضيع التي لم تلق سبل التناول من قبل المختصين في الموسيقولوجيا بالرغم من الجدل الذي حام حول إشكالية الهوية العربية في علاقتها بالآخر الغربي طيلة أكثر من قرن، ومن دون أن نعلل أسباب ذلك تاريخيا وفكريا، فإن البحث في الهوية الموسيقية العربية اليوم يعتبر ملحا.
يشكل التفكير في الهوية الموسيقية ضرورة ملحة تفرضها التغيرات الثقافية والسياسية التي يشهدها العالم من أحداث أثرت على كل الفنون بصفة عامة فكرا وممارسة وأحدثت شروخات فكرية زعزعت هويات ثقافية في كل أنحاء العالم وما آلت إليه واخترقت مفاهيم ومقاصد الهويات الموسيقية الشكلانية التقليدية.
وهذا الكتاب “الهوية والأصالة في الموسيقى العربية” للموسيقي والأستاذ بالمعهد العالي للموسيقى بتونس سمير بشة يبحث في مفهومية الهوية الموسيقية باقتراح استمرارية فكرية منفتحة على كل الاتجاهات دون أفضلية أو انتمائية فكرية إقصائية، خاصة وأن هذه الهوية هي قادرة بالأساس على أن تندمج مع المتخيل الفكري الذي يجمع بين التناقضات الأيديولوجية التي صنعها التاريخ، لصالح هوية يعقلها الفكر فيحدد من خلالها انتماءه وانتسابه وتموقعه. غير أننا وفي كل مرة نبحث عن هويتنا تذهب هذه الهوية من أمامنا. لماذا؟ لأنها مفهوم مجرد مجسد، لا من خلال السمع والبصر، بل من خلال البصيرة، آلة الفكر.
الهوية الموسيقية
جاء الكتاب، الصادر عن منشورات كارم الشريف، في بابين، الأول ناقش مسألة الثقافة والهوية الموسيقية في ثلاثة فصول، والثاني تناول الأصالة والهوية في الموسيقي العربي من خلال دراسات نظرية وأخرى ميدانية، وذلك في ستة فصول.
بداية رأى بشة أن المجال يطرح صعوبة فكرية تنحصر في مسألتين هامتين؛ أولاهما ماهية الموسيقى كممارسة فنية تضع في اعتبارها المقاربات الشكلية من حيث صلتها بالأنظمة الموسيقية وآلياتها التقنية والعملية، كالأصوات والسلالم والمسافات والمقامات والأجناس والإيقاعات والآلات الموسيقية، وغيرها، وثانيهما المقاربة الفكرية التي تتجاوز الشكل الفني لتتحول إلى الطروحات الفلسفية من خلال التأمل العقلي التأملي لتصل إلى البعد التأويلي والمجال اللامتناهي للمعنى.
يقول بشة “الجميع يصب في الجدل حول مفهوم الهوية الموسيقية من منظور الموسيقولوجيا ومختلف اختصاصات العلوم الإنسانية. إلا أننا وفي مستوى طروحاتنا الآنية، نحاول دراسة الموسيقى في علاقتها بالتنظيرات التي جاء بها الفكران العربي والغربي في مختلف مراحلهما التاريخية. ولن نتقيد بتلك الأفكار من حيث أبعادها الأيديولوجية الذاتية، بل سنحاول قراءتها اعتمادا على المنطق والمقارنة بما سبقها أو تلاها دون أفضلية أو انتمائية إقصائية. وأيضا سنحاول من خلال ذلك تنمية مقارباتنا وطرح جدل معاصر يتماشى مع التحولات الفكرية وتداعياتها على الفنون الموسيقية، تلك التحولات التي تفرض نفسها كمعطى يستدعي التفسير والتأويل”.
وأوضح أن الهوية الموسيقية ليست شيئا نشاهده أو نسمعه بقدر ما هي إشارات وبصمات فنية ذاتية يقترحها الإنسان على نفسه فتعبر عنه من خلالها. هي ظل لذاك الإنسان، ترافقه أينما وجد، لا تعوضه بل تذكرنا به، تلازمه إحساسا وشعورا وممارسة، تتماثل وتتطابق معه أحيانا. هي صفة انتمائية يطلقها على نفسه ليثبت من خلالها وجوده وكيانه. إلا أنه لا معنى لهذا الانتماء والوجود دون اعتبار لغيرية موسيقية تقر بمزايا الاختلاف والائتلاف والتنوع والتماثل والتناقض والتقارب بين لغتين موسيقيتين أو أكثر من أجل ولادة موسيقية تتشكل من خلالها هوية جديدة كنتيجة لعملية موسيقية ثقافية.
وأكد بشة أنه ليس بالإمكان الفصل بين فهم الهوية الموسيقية ومقاربات أنثروبولوجيا الثقافة التي خلفت جدلية واضحة بين ما تعنيه المفردات الثقافية من جهة، ومفهومية المفردات في علاقتها بمسائل الهوية والغيرية من جهة ثانية. مبينا أن الكشف عن مختلف المفاهيم الثقافية في أبعادها الاجتماعية والأيديولوجية كان متعددا ومتشعبا من حيث التناول الفكري، وقد تبين أن الهوية الموسيقية من حيث المقاربة الأنثروبولوجية غير قابلة بأن تنحبس في مفاهيم ثابتة ونهائية، أي خضوعها لسياقات لغوية ودوال أفكار تستدرج المكون الفكري من المعقول إلى اللامعقول ومن المجسد إلى المجرد ذهابا وإيابا فإنه وفي حدود الفهم والتفسير لماهية الهوية الموسيقية، يصل العقل أحيانا إلى الحلقة التأويلية حيث يبقى الفهم نسبيا وظرفيا وغير مكتمل.
وأشار الباحث إلى أن الهوية الموسيقية قد تأخذ منعرجات فنية وفكرية جديدة في صورة تغير آليات الخلق والإبداع وتقنياتها، فالتكنولوجيا الرقمية الحديثة تمكن الإنسان من اختيارات موسيقية جديدة تغير في جاذبية الأصوات وتواتر الدرجات وفي الجرس الموسيقي. وهي بحكم تواجد رحاب واسع من آلات موسيقية إلكترونية وأكوستيكية، وتخترق الأساليب والمسارات اللحنية والإيقاعية التقليدية لصالح تراكيب جديدة تحدث في الهوية التقليدية اضطرابات في النسق الفني والجمالي.
وأوضح بشة أن الأصالة مثلها مثل الحداثة لا تقصد، وإنما تأتي بصفة تلقائية ودون استدعاء، فبمجرد التفكير في أن نكون أصليين أو حداثيين في الإنتاج الموسيقي، تذهب الأصالة والحداثة من أمامنا. لماذا؟ ذلك أننا عندما نفكر في العمل الموسيقي قبل إنجازه، نكون قد فكرنا في العمل المنتهي قبل الشروع فيه. لذلك يرى أن العمل الموسيقي يخلق من خلال منظومته أو نسقه، ويخترق ذلك النسق ليؤسس نسقا جديدا، وينخرط في منظومة جديدة تعيد بناء علاقة الأصيل بالدخيل.
المطلوب، في رأيه، هو الوعي بشخصيتنا أولا، مع مشاركتنا في بناء المرحلة التي نعيشها، بكل ما تعبر عنه من تحديات وتناقضات وتقاطعات أيديولوجية متخذين فكرة المثاقفة الموسيقية بديلا لتجاوز عقدتي الأصيل والدخيل. وأؤكد على أن المثاقفة الموسيقية ليست غاية في حد ذاتها، بل هي سعي نحو إمكانية التوافق حول قيم موسيقية مشتركة دون خلفية تاريخية أو دينية أو عرقية متشددة، كل هذا من أجل النهوض بالمعرفة من منطلقات حسية فنية ذوقية ومن أجل الارتقاء بالإنسان والإنسانية بعيدا عن الخلفيات التي تفضل الأصيل على الدخيل أو الدخيل على الأصيل.
بشة يرى إلى أن الهوية الموسيقية قد تأخذ منعرجات فنية وفكرية جديدة في صورة تغير آليات الخلق والإبداع وتقنياتها
ورأى أن واقع الموسيقي العربي نتاج حاصل من خلال الاتصال والتداخل العقلاني والتبادل المعرفي والحوار بين الثقافات الموسيقية، أي نتاج تلك الازدواجية الفكرية والفنية التي تضع في اعتبارها ثنائيات الأصيل والدخيل، الهوية والمعاصرة… دون شكلانية زائفة.
ولئن كانت له وجهة نظر مختلفة في التفكير والتأويل حول الأصالة، فلأنه يعتبر أن الأصالة في الموسيقى موجودة في البصيرة وليس في البصر وفي الإحساس السمعي من منطق حياتي رغم أن ما نشهده اليوم يتنافى مع هذا الطرح. لذلك فالأصالة متغيرة متبدلة تعكس في كل فترة من الفترات التاريخية حالة من حالات التغير التي يمر بها الإنسان. كما أن مفهوم الأصالة مرتبط بشبكة الإبداع، إذ أنها ـ أي الأصالة ـ تعني الرجوع إلى الأصل، الذي يمكن فهمه بمعنيين، إما أن يكون رجوع الفرد إلى عمقه الذاتي أو رجوعه إلى عمقه الجماعي التراثي، ويمكن أن نسمي الفنان أو الموسيقي أصيلا بمعنى “Original” أي متفردا أو نسميه متأصلا أي متكلفا للأصالة “Original“.
وتابع بشة مؤكدا أن “تحديث ثقافتنا الموسيقية يقتضي وجود قاعدة اجتماعية واسعة مندمجة في قيم الحداثة التي تتناسب مع واقعنا الظرفي ولذلك متطلبات فكرية وسياسية إستراتيجية متشعبة. أما إذا ظلت هذه القاعدة خارج الحداثة فإن ما يحصل هو ارتداد واسع إلى ثقافة موسيقية محافظة متشددة تصاغ منها هوية موسيقية منغلقة وإقصائية. إن قضية الأصالة أضحت مسألة رائجة في سوق الموسيقيين والباحثين في الموسيقولوجيا كما أصبحت شائعة في المؤتمرات والمنتديات العلمية واللقاءات الفكرية والثقافية كلها. وإن عبرت هذه الظاهرة عن شيء فهي تعبر عن فراغ أحس به الجميع”.
الفيديو كليب
التكنولوجيا الرقمية الحديثة تمكن الإنسان من اختيارات موسيقية جديدة تغير في جاذبية الأصوات والدرجات والجرس الموسيقي
في مقاربته التي اعتمدت الموسيقى التونسية نموذجا قال إن التحولات الثقافية والسياسية التي شهدها العالم منذ العقد الأخير من القرن العشرين، وما آلت إليه من تداعيات أيديولوجية تدعو جميعها إلى نمطية ثقافية تتحكم فيها الرأسمالية إنتاجا وإبداعا، أدت شيئا فشيئا إلى سقوط الجميع في تلك القيم الفكرية الغربية بالرغم من التيقظ والتفطن إلى الخفايا والنوايا السياسية المعلنة وغير المعلنة أحيانا. ودون استثناء فإن تونس قد خضعت كسائر بلدان العالم العربي لتلك السياقات الثقافية التي شرعت شيئا فشيئا لنمطية موسيقية ومشهدية عن طريق أغنية الفيديو كليب، هذه الظاهرة التي اخترقت كل التوجهات والمقاربات الفنية الموسيقية التقليدية على كل ما هو سمعي طربي.
وتساءل بشة “أين نحن موسيقيا وإبداعيا من تلك التحولات الفكرية والسياسية التي تروج للنمطية الثقافية وتشيع أسلوب العيش على وتيرة واحدة؟ هل تفاعلنا معها إيجابا أم سلبا؟ هل يلغي الفيديو كليب الكلمة والصوت لتحل محلهما الصورة؟ هل أن الفيديو كليب متعة بصرية أحادية تستبعد المكونات الموسيقية الطربية التقليدية؟”.
وقال إن “ما نجده الآن عبر القناة التلفزيونية التونسية من خلال أغاني الفيديو كليب شيء جدير بأن نصفه بكونه ثقافة مستعارة حيث يجري استيراد المكون الثقافي الغربي والمشرقي برمته، وغرسه في قلب ثقافة تونسية لم تسهم في تكنولوجيا الصورة الرقمية بأي شيء جدير بالذكر، سوى قدرتها على محاكاتها واستهلاكها دون توقف. ومما يزيد الأمر تعقيدا اعتقاد الجميع بأن ما يراه هو الواقع، في حين أن ذلك هو مجرد صورة افتراضية وهمية، يراد للناس أن يحلموا بها ويسعوا إلى العيش مثلها. فالفيديو كليب يشيع عبر جهاز التلفزة نمطا معينا على الصعيد العالمي، تذوب فيه بتدرج الخصوصيات الثقافية بنفس القدر الذي تتلاشى فيه القيم الثقافية لصالح نظام عالمي يروج للنمطية ويشيع أسلوب العيش على وتيرة واحدة ملغيا مبدأ التنوع الثقافي الذي تقر به كل الدراسات الأنثروبولوجية”.
الهوية الموسيقية ليست شيئا نشاهده أو نسمعه بقدر ما هي إشارات وبصمات فنية ذاتية يقترحها الإنسان على نفسه
وأكد أن الفيديو كليب قد ظهر محليا ولكن عجز عن أن يكون محليا فعلا. إذ أن المواضيع السائدة لم تتجاوز مظهر ديكورات القصور والسيارات الفخمة والمباني العالية، ويصور الكثير منها في أماكن وفضاءات غير تونسية كبريطانيا وأميركا والهند والصين واليابان وغيرها من البلدان التي تحمل ثقافات بعيدة كل البعد عن ثقافتنا، ولا يربط هذه الكليبات بالمحلية، سوى شكلانية غابت فيها الخصوصيات الثقافية، بحكم نقلها حرفيا لأعمال مشرقية لبنانية وغربية من شأنها أن تخلق لدى المشاهد التونسي رغبات وهمية واهتمامات بعيدة عن محيطه، فالشخصيات أو الشخوص المقدمة في هذه الأغاني المصورة على طريقة الفيديو كليب تنقل فكرة معينة يقبل عليها المشاهد التونسي ويتأثر بها ويقلدها رغم أنفه.
أما مواضيع هذه الأغاني فأغلبها يحمل أفكارا وصورا نمطية حول العلاقة بين الجنسين، وطريقة لباس الناس وحركاتهم وسلوكياتهم الحميمة أحيانا. تلك السلوكيات التي كانت فيما مضى مستترة، وأصبحت الآن تزهر في شكل تلميحات جنسية. هذه المشاهد تصور في الكثير من الأحيان في فضاءات هي من أشد الأماكن حميمية في الثقافات العربية الإسلامية وحتى الغربية. ولا شك أن تأنيث الصورة هنا في معظم أغاني الفيديو كليب العربية، والتركيز على هذه المناطق الحساسة من جسد المرأة آت من رغبة فحولية لخلق وتحقيق المتعة البصرية، هذه المتعة التي نجد وراءها خلفية تجارية وأيديولوجية سياسية بالخصوص، القصد منها أولا هو تحقيق أرباح مادية من خلال المتاجرة بجسد المرأة النموذج والرجل النموذج.
وكشف بشة أن التعامل مع ظاهرة أغنية الفيديو كليب في تونس، شهد الكثير من النقل والتقليد؛ فمعظم الأغاني المقدمة، قد أظهرت في البداية رفضها لمبدأ المرجعية الثقافية من حيث الصياغة المقامية والإيقاعية وعزوفها الواضح عن الموسيقى المحلية لصالح الأنماط المشرقية والغربية؛ وهذا ما نلمسه من خلال تركيز الملحنين على نسبة كبيرة من المقامات المشرقية كالنهوند والراست والكردي والبياتي والعجم والأثر كردي والهزام، وتفضيلهم للإيقاعات المشرقية والغربية كالبلدي والمقسوم والوحدة ونصف الوحدة والمصمودي صغير والخليجي والليبي والرمبا والديسكو.