"هروب ماريل" وهروب المتوسط

المهاجرون إلى دول الشمال يعبرون بقوارب الموت والحرقة في ظاهرة جماعية تسعى الحكومات للحد منها ليس حرصا على حياة المهاجرين وتمسكا بهم ولكن كي لا تفرغ البلاد من العباد.
السبت 2022/10/01
قوارب الحرقة والموت

من حسن حظ الأوروبيين أن دول شرق المتوسط وجنوبه استوعبت التجربة الكوبية. من دون هذا الدرس كانت أعداد المهاجرين التي تصل إلى شواطئهم سترتفع من بضع مئات إلى بضعة آلاف يوميا.

ما شهدته جزيرة كوبا منذ أكثر من أربعة عقود من نزوح جماعي، تشهده اليوم دول شرق المتوسط وجنوبه.

أعداد الذين تحط بهم قوارب الموت على شواطئ أوروبا، ومن بينهم نساء وأطفال وعجائز، ستكون أضعافا مضاعفة لأعدادهم الحالية لولا الدرس الكوبي.

في عام 1980 وخلال ستة أشهر فقط غادر الجزيرة الكوبية 125 ألف شخص رمى بهم 1700 قارب على شواطئ الولايات المتحدة في أكبر عملية هجرة جماعية، عرفت باسم “هروب ماريل الجماعي”. الهروب تم بمباركة من الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، حينها، الذي سرعان ما اكتشف أنه سيحكم بلادا تسكنها الأشباح إن لم يوقف قوارب الهجرة. كان عليه أن يقفل الحدود ثانية ليبقى في كوبا من يستمع غصبا للهراء الذي يلقيه هو وحاشيته حول المشاعر الوطنية وفضائل الأممية وحول الإمبريالية التي تريد بهم شرا.

لا يمكن أن تكون حاكما دون شعب تحكمه. هذا هو الدرس الذي تعلمه كاسترو ونقله عنه حكام عرب.

وبدلا من أن تنصب جهود الدول المصدرة للمهاجرين على دراسة أسباب الظاهرة والعمل على إيجاد حلول لها، اكتفت بلعب دور شرطي حدود.

رغم العقود الأربعة التي تفصل بين هروب ماريل وهروب المتوسط، إلا أن المشترك بينهما واضح، حكومات تقدس الأيديولوجيا وتضطهد البشر

كلام قد يصفه البعض بالمبالغة والتهويل. ولكن الأرقام والإحصائيات التي تتحدث عن استعداد 52 في المئة من الشباب بين سن 18 و29 سنة للهجرة دون أوراق رسمية رغم حوادث الغرق التي يعلن عنها بشكل شبه يومي، تؤكده.

التجربة الفردية التي تحدث عنها الكاتب السوداني الطيب الصالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، واحتفى بها العالم ووصفها نقاد بأنها قد تكون أهم رواية عربية في القرن العشرين، تحولت اليوم إلى ظاهرة هجرة جماعية غير مشروعة ومغامرة قد تكلف المهاجر حياته.

أول ما يقفز إلى الذهن عند الحديث عن أسباب الهجرة غير الشرعية هو الوضع الاقتصادي المتردي والبحث عن عمل، وهذا التبرير لا يجانب الصواب، ولكنه يتحدث عن الجزء الظاهر فقط من المشكلة.

نعم، الوضع الاقتصادي متردّ، لا جدل في ذلك، والبطالة مرتفعة خاصة بين الشباب وحاملي الشهادات الجامعية، ولا يوجد أي بصيص أمل للعثور على مخرج.

ولكن، من أوصل البلاد إلى هذا الوضع المزري؟

من هم في سن الشباب اليوم عليهم إلقاء نظرة على ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من صور أسود – أبيض يتحسر ناشروها، ممن اقتربت أعمارهم من سن السبعين أو تجاوزته، على أيام زمان. يجرون مقارنات بين الخمسينات، عندما كان الموظف أفندي ينتمي إلى الطبقة الوسطى ويعيش في منزل يصلح للسكن، وبين الزمن الحالي الموظف فيه عاجز عن تأمين خبزه كفاف يومه.

في فترة الخمسينات والستينات لم تكن الحدود مغلقة في وجه الساعين للهجرة، ورغم ذلك كانت أعداد المهاجرين محدودة، تقتصر غالبا على مغامرين وطالبي علم. وكانت عواصم الدول العربية حواضر يطيب بها العيش. اليوم باتت العواصم محاصرة بعشوائيات لا ترقى إلى مستوى الحظائر. ما بالك ببيوت للبشر.

بطل الطيب صالح (مصطفى سعيد) لم يغادر السودان في ستينات القرن الماضي هاربا متسللا ومحشورا مع العشرات على قارب مخروق صغير، بل غادره عبر بوابات المطار، ودخل دول الشمال آمنا مطمئنا بعد أن أبرز أوراقا رسمية مهرها بختمه موظف الحدود.

لم يغادر مصطفى سعيد السودان بحثا عن عمل، بل طلبا للعلم. وهكذا فعل الآلاف من الشباب العرب الذين أصبحوا في بلاد المهجر قامات علمية يفتخر بها.

ما حصل بعد ذلك قصة معروفة للجميع، أنظمة عسكرية فاشية استغلت فوضى ما بعد التحرر من الاستعمار لتسيطر على الحكم وتبدد ثروات البلاد. مستعينة بالأيديولوجيا -دينية ومدنية- لتصبح الأفكار أكثر قداسة من البشر. بعد أن كانت الأفكار موجودة لخدمة الإنسان، أصبح الإنسان عبدا يدين بالولاء والطاعة لأفكار مطلقة.

أجيال عديدة رددت كما يردد الببغاء شعارات تقول إننا “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، دون أن نتوقف ولو للحظة ونتساءل: ما هي هذه الرسالة التي كان علينا أن نتحمل عبئها سبعة عقود ووصفت بأنها “خالدة”؟

الوضع الاقتصادي متردّ، لا جدل في ذلك، والبطالة مرتفعة خاصة بين الشباب وحاملي الشهادات الجامعية، ولا يوجد أي بصيص أمل للعثور على مخرج

تحدثنا عن الوحدة والحرية والاشتراكية، ونسينا الاقتصاد والتنمية والتصنيع. اكتفينا بما تنتجه الأرض وتحولنا إلى مستهلكين. وبينما العالم يسير قدما، كنا نتجادل ونتخاصم حول فضائل ومساوئ الحجاب وتعدد الزوجات.

لأن الأمر معقد لا يمكن حصره بمقال قصير، دعونا نكتفي بما حققته بعض الحكومات “الوطنية” من إنجازات اقتصادية كبيرة خدمة للوطن والمواطن، بتتبع سعر عملاتها “الوطنية” مقارنة بسعر الدولار الأميركي “الإمبريالي”.

في مصر: كان الجنيه المصري الواحد عام 1949 يعادل 4 دولارات أميركية. اليوم الدولار الواحد يساوي عشرين جنيها إلا قليلا.

في لبنان: تحرك سعر الدولار بين عامي 1964 و1981 ضمن هامش ضيق، بين 3.22 و3.92 ليرة للدولار الأميركي الواحد. اليوم سعر الدولار 15 ألف ليرة. إنجاز عظيم آخر.

في السودان: بدأ الجنيه السوداني قويا، مثل جاره القريب الجنيه المصري، وكان يعادل عام 1949 ثلاثة دولارات ونصفا. لينتهي نهاية أسوأ؛ الدولار الأميركي الواحد يساوي اليوم 577 جنيها سودانيا.

نكتفي بهذا القدر. منجزات الحكومات “الوطنية” تتكلم عن نفسها بوضوح كل يوم، وتعبر عنها خير تعبير قوارب الحرقة والموت.

في ظل هذه الحكومات “الوطنية جدا” وفي ظل ما حققته من معجزات اقتصادية، يصبح أي مس بالسلطة اعتداء على الوطن، وأي محاولة لإثارة التساؤلات خيانة عظمى تستوجب الحساب.

المهاجرون اليوم إلى دول الشمال يعبرون إليها بقوارب الموت والحرقة، في ظاهرة جماعية تحاول الحكومات الحد منها، ليس حرصا على حياة المهاجرين وتمسكا بهم لأن الوطن بحاجة إلى خبراتهم، ولكن كي لا تفرغ البلاد من العباد، ولا يجد الحكام من يمارسون عليه فنون الحكم والخطابة.

وطالما بقيت حكومات تدافع عن “رسائل خالدة” قابضة على الحكم، سيحاول الآلاف من الشباب العبور يوميا بقوارب الموت هربا من ويلات جرتها عليهم تلك الرسائل التي لم يعرفوا حتى اليوم فحواها.

رغم العقود الأربعة التي تفصل بين هروب ماريل وهروب المتوسط، إلا أن المشترك بينهما واضح، حكومات تقدس الأيديولوجيا وتضطهد البشر.

8