قتل الصراصير ليست مهنتي

الآن، لم يعد بإمكان الصحيفة قتل صرصور.. لماذا تقتله؟ حسبها أنها تنبه لوجوده.. وهذا يكفي.
الثلاثاء 2022/09/27
لا مجال للتلاعب بالأحداث

الصرصور يمكن أن ينجو من حرب نووية، لكنه ينتهي بمجرد صفعة من جريدة.. انظروا إلى ما تفعله الصحافة من معجزات.

تلك كانت عبارة ساخرة أطلقها أحد الظرفاء الماكرين للدلالة على أن السلطة الرابعة ليست على مثل ما قد نتصور من فاعلية واقتدار، ذلك أنها مثل ملوك أوروبا الحديثة، تؤثر ولا تحكم.

وزاد عن مقاربة الصرصور الذي نجا من حرب مدمرة وقضى بصفعة من جريدة، رجل ماكر آخر بتعليقه على صورة فتاة حسناء منغمسة في قراءة صحيفة تخفي جمال صدرها بقوله “الصحافة تُخفي المحاسن دائما”.

ومهما قيل في الصحافة من توصيفات تتأرجح بين الإجلال والتذمر (صاحبة الجلالة ومهنة المتاعب) فإنها على قدر هائل من الالتباس منذ ظهورها وارتباطها بالسياسة والاقتصاد، وحتى الكتابة الأدبية رغم قولهم عنها بأنها “مقبرة الأدب” و”نحت في الريح”، وغير ذلك من الاتهامات.

الحقيقة أنّ نجاحات أدبية كثيرة مدينة للصحافة التي عمل فيها أصحابها مثل الكولومبي غارسيا ماركيز، والمغربي الطاهر بن جلون، والزعيم البريطاني ونستون تشرشل، الذي نال جائزة نوبل بسبب ما كتبه في الصحافة، وليس كونه بطلا للسلام كما يظن البعض.

أبرز وأغرب ما يميز العمل الصحفي هو أن ظاهره إخباري يزعم الموضوعية والحياد، وباطنه ذاتي لا يتنكر لخصوصية صاحبه، وذلك عملا بالمبدأ الأساسي في هذه المهنة وهو “الخبر مقدس والتعليق حر”.

وانطلاقا من هذا المبدأ المُلغّم يتندّر التونسيون أيام الزعيم بورقيبة بنكتة مفادها أن الزعيم التونسي تحدى الزعيم الليبي معمر القذافي بقوله “أستطيع أن أهزمك في سباق طويل ينطلق من الحدود الترابية وينتهي بالعاصمة تونس”.

قبل الزعيم الليبي الشاب هذا المقترح الذي تقدم به رجل طاعن في السن والتحدي، لكن بورقيبة قال بأن لديه شرطا واحدا وبسيطا، وهو أن يتولى الإعلام الرسمي التونسي إعلان النتيجة.

"فليكن" قال القذافي لنفسه، وانطلق السباق. كان الزعيم الليبي يركض قصارى جهده، بينما يسير بورقيبة على أقل من مهله مستريحا بعد كل بضع خطوات.

بعد أيام وصل القذافي إلى خط النهاية وقد أنهكه التعب، بينما وصل بورقيبة بعد عدة أسابيع محمولا على الأعناق.

أعلن المذيع التونسي النتيجة على النحو التالي: فاز الزعيم بورقيبة بالمرتبة الثانية، بينما حلّ القذافي في مرتبة ما قبل الأخير.

وبالفعل، فلقد كان الإعلام التونسي على قدر من “الموضوعية”، والإخلاص لمبدأ “الخبر مقدس والتعليق حر”.

تلك طرفة كان يتداولها الناس أيام الصحافة المكبلة بسلطة الحاكم، أما الآن فلا مجال للتلاعب بالأحداث، وذلك بفضل ما يرفدها ويساندها من سوشيال ميديا وغيرها، بالإضافة إلى سطوع شمس الحريات، وسيادة مبدأ فصل السلطات.

الآن، لم يعد بإمكان الصحيفة قتل صرصور.. لماذا تقتله؟ حسبها أنها تنبه لوجوده.. وهذا يكفي.

20