الأزهر يسوّق لانفتاحه الحضاري باقتحام الفتاوى الاقتصادية

اقتحم الأزهر مجال الفتاوى الاقتصادية مستغلا تراجع ثقة المواطنين في المواقف والقرارات الرسمية، وغرضه من ذلك ليس مجاراة التطور المجتمعي والاقتصادي وإنما تصدر المشهد بصفته المؤسسة الدينية المنفتحة التي تسعى للتجديد في الفقه والقطع مع الفتاوى المتشددة رغم أنه في الواقع غالبا ما يتبنى مواقف متشددة من مختلف القضايا الحارقة في البلاد.
القاهرة - عكس قرار الأزهر في مصر بإنشاء وحدة متخصصة في فتاوى الاستثمار والتنمية والمعاملات المصرية إصراره على التسويق لنفسه بكونه منفتحا ويخاطب العصر ولا يعادي الاجتهاد، وأن تمسكه بمواقف متحجرة تتعلق برفض التطرق لتنقيح التراث وعصرنة بعض الرؤى الفقهية يأتي بذريعة حفاظه على صميم الشريعة.
وترغب المؤسسة الدينية الأمّ في مصر في أن تكون وحدها محتكرة لكل ما يرتبط بالفتاوى الاقتصادية، لأن هذا الملف يحظى باهتمام رئاسي وحكومي وبرلماني وإعلامي غير محدود في الدولة حاليا، مع أن هذه الجهات تبدو علاقتها بالأزهر مرتبكة بسبب مواقفه في بعض القضايا.
واستقبلت بعض الدوائر السياسية والاقتصادية في مصر قرار إنشاء وحدة متخصصة في فتاوى الاستثمار والمعاملات بترحيب لا يخلو من قلق خوفا من تشتت الفتاوى الدينية بين الأزهر ودار الإفتاء وترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام سهولة الترويج لفتاوى سلفية وإخوانية تضرب الاقتصاد المصري.
فتوى الاستثمار والتنمية

سامح عيد: قرار السلطة خطوة جيدة لوقف فوضى الفتاوي في ملف خطير
بررت المؤسسة الدينية إنشاء وحدة فتوى الاستثمار والتنمية بأنها تستهدف مجابهة انتشار شركات توظيف الأموال وظاهرة “المستريح”، وهو شخص يقوم بجمع الأموال من الناس لتوظيفها مقابل هامش ربح، ثم يحتال على المواطنين ويختفي بمبالغ مالية ضخمة بسبب استمرار المفاهيم الخاطئة حول الاستثمار الحلال الذي ينمّي مواردهم.
وما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول رؤية الأزهر لفقه الاستثمار والتنمية أنه لا يزال يضع خطوطا حمراء بشأن الاجتهاد في قضايا مصيرية، ويتمسك بفقه ماضوي ويرفض التجديد.
وقال نظير عياد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر إن المؤسسة الدينية معنية بالاجتهادات الفقهية في دعم التنمية والاستثمار، والإسلام لم يقيد النظم الاقتصادية بحد معين وترك للناس حق التطوير والتجديد وتشريع ما هم في حاجة إليه منها، شريطة أن يكون ذلك وفق قواعد وضوابط.
واللافت أن حق الناس في التطوير والتجديد الذي أباحه الأزهر في مسائل التنمية والاستثمار لا يزال مسلوبا من كل شخص حتى لو كان رجل دين منتسب للمؤسسة الدينية طالما لا يتوافق مع رؤى قادتها وقناعاتهم.
ويرغب الأزهر في توصيل العديد من الرسائل من وراء وحدة فتاوى الاستثمار، بأنه الجهة الوحيدة التي من حقها تحديد موعد التجديد وطريقته وأسلوبه وفي أيّ ملف بالضبط تكون الرؤى الفقهية معاصرة.
المفاصل الدينية
جاء إنشاء وحدة متخصصة في فتاوى الاستثمار والمعاملات المصرفية ضمن توصيات الملتقى الفقهي الثاني لفقه الاقتصاد الذي نظمه مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية قبل أيام، لكن ذلك لا يعني أن الأزهر يتحرك مدفوعا بالتوصيات والمقترحات، بل يريد أن يقبض وحده على مفاصل الأمور الدينية للحفاظ على نفوذه.
وكشفت مخرجات الملتقى غياب المعرفة الاقتصادية والمالية الكاملة والصحيحة والاقتصار على ما يقدم من تعريف أو توصيف للمعاملات المالية، وكان ذلك سببا رئيسيا في تضارب الفتوى في القضايا الاقتصادية، إذ وضعت الشريعة أصولا عامة للنظام الاقتصادي وتركت تحديد الفلسفة لمتغيرات الواقع ومتطلبات العصر.
وبغض النظر عن كون توصيات ملتقى الأزهر للاقتصاد تحوي اعترافا بأن المؤسسة لا تزال مواقفها تخاطب الماضي أم لا، تظل إشكالية اقتحام فتاوى الاستثمار تشير إلى عدم وجود مفتين على درجة عالية من الكفاءة في الأمور الاقتصادية، لأن العبرة في المفتي هنا أن يكون منفتحا ومستشرفا للمستقبل، لا مقدسا للتراث.
وقال سامح عيد الباحث والمتخصص في شؤون الإسلام السياسي لـ”العرب” إن وجود جهة واحدة معنية بفقه الاستثمار خطوة جيدة لوقف فوضى الفتاوى في ملف بالغ الخطورة، لأنه يمس صميم الأزمة الاقتصادية، لافتا إلى أن عصرنة فتاوى التعاملات المصرية يتطلب أن يكون الفقيه أكثر حضورا وإقناعا لهزيمة الخطاب التحريضي.
هزيمة الخطاب التحريضي
لا سبيل أمام الحكومة المصرية سوى جعل علاقتها بالناس دون وسيط ديني والعمل على تكريس الانفتاح الفكري وإسكات أصوات المتطرفين
فثمة معضلة أخرى مرتبطة بإصرار المؤسسة الدينية على تقديم نفسها حامية للإسلام والشريعة، واحتكار الحكم على تعاملات الناس في النواحي الاجتماعية والاقتصادية، لتقول هذا حرام وذاك حلال، ولا تترك للمواطنين حرية التصرف في حياتهم وأموالهم وكيفية إدارة اقتصادهم الشخصي دون حاجة إلى الحصول على صك الشرعية.
ولا تزال هناك خلافات حادة بين الفقهاء المؤيدين لإباحة فوائد البنوك والمعارضين لتهافت الناس لإيداع أموالهم بها نظير الحصول على أرباح عالية، ما تسبب في تعميق الأزمات الاقتصادية للحكومة لكونها تسعى لاستقطاب أكبر قدر ممكن من مودعي أموالهم في البنوك لإنقاذ الاقتصاد من عثراته، لذلك وجهت المصارف لرفع سعر الفائدة لإغراء الناس وتوظيف مدّخراتهم.
وقد يخدم وجود جهة واحدة لفتاوى الاستثمار التوجهات السياسية والاقتصادية للحكومة، لكن معضلة الأزهر أنه يخفق في مواجهة ارتفاع صوت التشدد.
وأفتى بعض علماء الأزهر بتحريم فوائد البنوك، والتي جاءت متناغمة مع تيار متشدد يدعمه أنصار جماعة الإخوان كنوع من الثأر السياسي من النظام المصري والمؤسسة العسكرية، ولا يزالون يوظفون تلك الرؤى الفقهية ضد الحكومة وأيّ توجه ديني رسمي يسعى لإضفاء مشروعية فقهية على التعامل مع المصارف.
ودفع الانفتاح المفاجئ من الأزهر على القضايا الاقتصادية شريحة من الناس للتعامل مع المؤسسة الدينية الرسمية وفتاواها وكأنها صادرة عن جهة حكومية وليست عن كيان مستقل يتحدث وفق نصوص الشرع فقط، وأصبحت هذه الفئة تبحث عن وجهة نظر مقابلة للخطاب الرسمي للتأكد من صحته، فيظهر السلفيون على الساحة.
آراء دينية متعارضة
يحتفظ أحمد الطيب شيخ الأزهر بوجهة نظر تتعارض نسبيا مع أهداف وحدة الاستثمار والتنمية التي أنشأتها المؤسسة الدينية، حيث قال منذ ثلاث سنوات عن فوائد البنوك “إذا أودعت الأموال بنية إقراضها للبنك ليحصل منها الفرد على فائدة فهذا حرام لأنه يكون ربا، أما إذا استثمرها في البنك واعتبره شريكا فيكون حلالا”.
ويتعارض موقف الطيب من التعاملات المصرفية مع وجهة نظر دار الإفتاء المصرية، التي أجازت الفوائد مطلقا.
وحسب توصيف دار الإفتاء للتعاملات البنكية فإن ما يأخذه المواطن أو المستثمر في إطار الربح حلال، أي أن المؤسسات الدينية المعنية بحسم الفقه الاقتصادي، هي نفسها متصارعة في وجهات النظر، ما يصبّ في صالح متشددين يستثمرون الخلاف سياسيا والإيحاء بأن تحريم شيخ الأزهر لفوائد البنوك أصل الدين.
وذكر الباحث سامح عيد لـ”العرب” أن العبرة في استفادة الناس من التجديد في الفقه أن تشمل الحداثة كل الملفات والقضايا المصيرية حتى لا يشعر أحد بأن هناك تسييسا للفتوى إذا انحصرت العصرنة في الشأن الاقتصادي، فاقتصار الاجتهاد على قضايا اقتصادية بعينها يخدم أهداف جماعات الإسلام السياسي التي ترغب في الثأر من الدولة المصري والمجتمع بتكريس التشدد الفكري.
ولا سبيل أمام الحكومة المصرية سوى جعل علاقتها بالناس دون وسيط ديني والعمل على تكريس الانفتاح الفكري وإسكات أصوات المتطرفين أولا، لأن استمرار الوصاية الدينية يحوّل شريحة في المجتمع إلى أسير لرؤى الأزهر ودار الإفتاء والإخوان والسلفيين، ما يغذي الاستقطاب الذي يشكل خطورة على الاستقرار السياسي.