عيسى حسن الياسري شاعر الجذور الثقافية الممتدة حتى أرض الرافدين

شاعر كتب قصيدته ببساطة وعمق محافظا على روحه القروية.
الجمعة 2022/09/16
الوطن والمهجر مفردتان حركتا قصيدة الشاعر

الشعراء العرب في بلدان المهجر والمنافي قدموا للشعرية العربية الكثير، بل وكانوا في صدارة تثويرها وفتحها على الحداثة وممكنات جمالية وفكرية مختلفة، إذ يمكننا أن نقر لهم بأنهم غيروا من الشعر العربي. لكن وإن اشتهر بعضهم فإن بعضهم الآخر لا ينال نفس الشهرة والانتشار، مثل الشاعر العراقي عيسى حسن الياسري الذي قدم تجربة شعرية مختلفة.

آلام الاغتراب والتنقل بين المنافي شرقا وغربا لم تحل دون أن يقدم الشعراء العرب، الذين ضاقت بهم الدنيا بما رحبت بعد أن أكرهوا على ترك أوطانهم، من أن يحققوا تجارب شعرية فريدة في عمقها الفني وخصوصيتها الجمالية والإنسانية، تجارب أثرت وأثّرت في المشهد الشعري العربي سواء في المغترب أو في الداخل العربي، وقائمة هؤلاء الشعراء تطول انطلاقا من أربعينات القرن الماضي وحتى الآن ومن بينهم جبران وميخائيل نعيمة وبلند الحيدري وسعدي يوسف ووديع سعادة وسركون بولص وعبدالرزاق عبدالواحد وسليم العبدلي وغيرهم كثيرون.

ومما يؤسف له أنه كثيرا ما يطويهم النسيان فلا تحظى تجاربهم وسيرهم بالدرس والتحليل على الرغم من حضورهم الكبير في التجربة الشعرية العربية والغربية على حد السواء.

استطاع الشاعر والروائي والمترجم العراقي عبدالهادي سعدون بعد أكثر من سنتين من العمل والحوار المتواصل أن يضعنا في قلب تجربة الشاعر العراقي المغترب عيسى حسن الياسري، أحد الأصوات الشعرية المهمة في مسيرة الشعر العراقي المعاصر، ويقدم عنه كتاب "أبواب العودة وأبواب الانتظار.. حوار طويل ومنتخبات شعرية".

الكتاب، الصادر أخيرا عن دار نشر خطوط وظلال، حوار طويل أجراه سعدون مع الشاعر العراقي المغترب في كندا مع منتخبات شعرية من أول مجموعة تعود إلى نهاية السبعينات وحتى آخرها عام 2020، مؤكدا أنه "كتاب معاينة لمسيرة أدبية وإنسانية طويلة، من القرية إلى العاصمة ومنها إلى المغترب الذي سيطول عليه حتى اليوم. كتاب يتناول تاريخ واحد من أهم شعراء العراق الأحياء عن الطفولة والصبى والقرية وعن القراءات الأولى والتأثيرات المبكرة، عن العاصمة والأجيال والصداقات الأدبية وعن العراق والمغادرة والمنفى الأولي الذي تليه مناف أخرى".

شعرية معاصرة

الكتاب معاينة لمسيرة أدبية وإنسانية طويلة من القرية إلى العاصمة ومنها إلى المغترب الذي سيطول عليه حتى اليوم

يقول سعدون "عرفت الشاعر الياسري منذ فترة بعيدة كقارئ وكاتب مستجد يسعى إلى اكتشاف الأدب العراقي وأصواته المهمة في الشعر والرواية والمسرح، وكمتابع لنتاجه الشعري والأدبي في العراق مع الحرص على اقتناء الجديد من نتاجه. لكنني لم أتعرف عليه شخصيا سوى لمرة واحدة ولم يكن ذلك في بغداد مدينتنا العتيدة، بل في مونتريال العاصمة الكندية. كان ذلك في عام 2014 أثناء زيارتي الخاطفة لمدينة مونتريال بعد مشاركتي في مهرجان تريس ريفيوس في مقاطعة الكيبك الذاتية. الحقيقة أنني ما إن تمت دعوتي إلى ذلك المهرجان الشعري، لم يخطر على بالي اسم أي أديب عراقي مقيم أو منفي في تلك الديار غير الياسري. مما حدا بي إلى الاتصال على رقم هاتفه الوحيد متمنيا لقاءه أثناء زيارتي القصيرة".

ويتابع "في الكيبك وقبل يوم واحد من انتهاء المهرجان هاتفت الياسري واتفقنا على أن نلتقي في المطار نفسه، إذ كان عليّ الرجوع من هناك إلى مدريد مكان إقامتي منذ نهاية عام 1993 وحتى اليوم. كنت خجلا تماما من أن أنقل إليه رغبتي تلك لضيق الوقت، لكنه بدد حيرتي بأن وافق وبروح كبيرة على لقائي في إحدى صالات السفر في المطار. تلك الساعة من لقائنا السريع كونت عندي انطباعا تاما لطالما استشفيته من اطلاعي على نتاجه الشعري وكتبه الأخرى ومقالاته ومذكراته مفاده أنني أمام إنسان كبير عاطفي وبقلب كبير يسعى إلى إسعاد الجميع حوله من أهل وأصدقاء وكتاب وقراء".

ويذكر سعدون "خلال تلك الساعة ونصف الساعة من حوارنا في مطار مونتريال تتكشف لك طيبته الريفية وانفتاحه وحياءه وبساطته مضافاً إليها غزارة إلمامه ورغبته الشديدة في التعرف على كل جديد، خاصة ما يكتب وينشر من قبل الأجيال الجديدة التي جاءت بعدهم".

ويقول "لم يكن ذلك اللقاء وجها لوجه سوى بداية معرفة وطيدة واستمرار في علاقة بين صديقين وتبادل خبرة ونصوص وكتب بين كاتبين من جيلين عمريين متباعدين نسبياً في خريطة الأدب العراقي، لكنه عملياً بعد زمني لا غير، إذ إننا نتقارب ونتحاور في مسائل عديدة تهمنا وتشركنا سوية في بوتقة واحدة وهموم مشتركة موحدة. عيسى الياسري بعد كل هذه السنين بعداً عن العراق مازال ذلك هو الإنسان المتعلق بالعراق والمحب لكل ما هو عراقي والمدافع عن كل شيء جميل نسي أو ترك هناك".

ويلفت سعدون إلى أن "الياسري هو شاعر البساطة العميقة، والجذور الثقافية واللغوية الممتدة حتى أعماق الأرض الرافدينية (ميزوبوتاميا العراق). شاعر ملاصق لهموم أبناء شعبه، وللعلاقة المتآخية بين البشر والطبيعة، دون أن يترك جانبا الحركات التجديدية في الآداب المعاصرةِ، والتي لها وقع ومشاركة للاستفادة منها في بناء صروحه الشعرية والجمالية. كما أن شعره مترجم ومعروف في لغات القارات الأربع، إذ سبق وتُرجم ونُشرَ باللغات الفرنسية والسويدية والإنجليزية والهولندية والكتالانية والفارسية والصينية والإسبانية، كما كتب عن شعره الكثير من الأدباء والنقاد عراقيين وعرب وغربيين".

ويوضح سعدون أنه كذلك قد صدر عن الشاعر العديد من الدراسات والمقالات على مدى الأعوام الأخيرةِ كتبت عن شعره أسماء بارزة في الأدب العالمي مثل آنفير بيرن، الشاعرة الأسترالية التي وصفته بـ"الشاعر الطليعي، وقصائده تتميز بحيويتها وصورها الشعرية المتينة"، كما كتب عنه الروائي والناقد السويدي غريغور فلاكيرسكي قائلا "إن الذاكرة في أشعاره تعتبر موضوعاً مركزياً على الرغم من الأزمنة العاصفة، كما أن قصائده تتميز برمزيتها العالية".

 وتقول عنه الشاعرة الإسبانية ثيثيليا ألباريث "إن ما يكتبه الياسري قصائد مكتظة بالهم، وتلهم الروح، قصائد رائعة بما تحمل من شحنة عاطفية وواقعية تؤثر في قارئها بما تحمل من آلام وصور - بغداد - والبكاء المتطاول عند ضفاف دجلة".

 ولعل الإرث الثقافي والقراءات التراثية والكلاسيكية بشكل خاص قد تركا بصمتهما في التكوين الشعري عند الياسري. هذه التوجهات منحته تنوعاً في المصادر والإشارات والصور الفنية والمعرفية التي تخدم القصيدة الجديدة ومنحاها الشعري. ومن بين الخطوط المهمة لفهم العملية الشعرية لديه هي تلك التي تتراوح ما بين مفردتي الوطن والمهجر أي الخروج الكبير والبعد عن الوطن، ومن ثم أن يجد أرضا جديدة، ومحاولة الفهم والتأقلم والتجاوب، والتي خلقت في الشاعر العراقي رد فعل يدخل في الشعرية أيضا من خلال رفدها بمواضيع وصور ولغة جديدة غير مألوفة.

بساطة العمق

عبدالهادي سعدون يضعنا في قلب تجربة الشاعر العراقي المغترب عيسى حسن الياسري
◙ عبدالهادي سعدون يضعنا في قلب تجربة الشاعر العراقي المغترب عيسى حسن الياسري

يشير سعدون إلى أنه "في العام 2021 وفي أمسية تكريمية بمناسبة مرور أكثر من ثمانين عاماً على ولادته، تم الاحتفاء بمسيرة الياسري من خلال مشاركة مهمة لشعراء ونقاد ومترجمين عراقيين وعرب وإسبان وفرنسيين، قلت فيه هذه الكلمات 'أنا سعيد بالمشاركة في هذه الأمسية التكريمية لأحد أساتذتي في الشعر وأعتبره اليوم أحد أصدقائي المقربين جدا. علاقتي بالياسري علاقة أدبية وشعرية قبل أن تكون علاقة شخصية مع مرور الوقت. وكل ما عملته في النشر والإشراف على كتب شاعرنا عيسى الياسري هو نابع عن حب أولا وعن دراية واعتقاد تام بأهمية شعره وشاعريته وضرورة نقلها إلى كل لغات العالم وليس فقط اللغة الإسبانية. وما دمت في إسبانيا ومتاحا لي بشكل أو بآخر أن أساهم في نقل آثار الآداب العراقية من شعر ورواية إلى اللغة الاسبانية فأنا أقوم به بشكل كبير'".

ويلفت سعدون إلى كلمة الشخص المعني بترجمة أشعار عيسى الياسري إلى اللغة الأسبانية وهو اغناثيو غوتيرث دي تيران، الذي ترجم إلى حد الآن كتابين للياسري، يقول في مقطع من مقدمة طويلة "قبل أن ألتقيه شخصيا ـ أي الياسري - حيث كنت ترجمت له قصيدة طويلة واحدة وهي رائعته 'صلاة بدائية من أجل أوروك' التي كانت البوابة التي نفذت من خلالها إلى فضائه الشعري".

◙ عيسى حسن الياسري شاعر ملاصق لهموم شعبه يكتب منتميا إلى جذوره الثقافية واللغوية الممتدة حتى أعماق أرض الرافدين

ويضيف "عندما عدت إلى إسبانيا أخذت على عاتقي مهمة ترجمة مختارات من قصائده لكي يستفيد القارئ الإسباني من جماليتها كما استفدت أنا من إنسانيته التي شكلتها مروج الأهوار ومَضافاتِها التي لها مكانة متميزة في أعماله الشعرية حيث خبز الضيافة والرموز السومرية والبابلية التي نجدها شاخصة في الكثير من قصائد الشعراء العراقيين ثم مغادرته لقريته للدراسة أولا في مدينة العمارة ومن ثم للعمل في التعليم والصحافة الثقافية في بغداد وتجواله في حانات المدينة ومنعطفاتها ومتاهاتها حتى يضطر أخيرا إلى أن يرتحل إلى المنافي البعيدة التي جعلته يشتعل شوقا إلى الوطن والرجوع المستمر إلى الطفولة بصفتها حقبة تختزل قدرا مهما من السعادة".

ويتابع اغناثيو في مكان آخر قائلاً “كما أن صورة المرأة أمّا وعشيقة أو مركزا تحتل مكانا بارزا وملفتا للنظر في قصائده إلى جانب رموزه التاريخية والأسطورية مثل انكيدو وكلكامش، بل وحتى بابلو نبروا شاعرنا الشهير الناطق بالإسبانية. هذه الرموز القريب منها والبعيد يتخذ منها الشاعر قناعا للتعبير عن أزمته الذاتية والموضوعية كما أن التنديد بالظلم والطغيان وقمع الحريات الشخصية أيا كان مصدرها أو تبريراتها الأيديولوجية أو الدينية هي أيضا من المواضيع المهمة الحاضرة بقوة في هذه القصائد وقصائد أخرى".

ويرى سعدون وجود إشارات تقرب الياسري من شعرية الشاعر الروسي الكبير يسنين تلك الروح المفعمة بالبساطة العميقة. الروح القروية، لكنها روح عالمية كبرى، متابعا “يمكن أن أضيف كلمة بحكم خبرتي في الشعر الأسباني، هي أن شعرية الياسري تكمن في تلك البساطة المفعمة بالعمق وتعددية التأويل وهي قريبة الشبه بشعرية شاعر إسباني مهم جدا ربما لم يحظ بترجمة وافية إلى اللغة العربية وهو ميغيل إرناندث الذي توفي في سجون الفرانكوية البغيضة، إذ أننا نعرف ترجمات لماتشادو والبرتي ولوركا، لكن هذا الشاعر القروي الذي تعلم القراءة والكتابة في قريته والذي كان راعيا نقل تلك البساطة العميقة، بساطة الإنسان وعلاقته بالأرض والحقل وما يحيطه من نباتات وحيوانات نقلها إلى الشعر الإسباني وجعلها رمزا وأيقونة لعصره".

13