أيمن الحسن يكتب روايته بين السيرة الذاتية والتوثيق التاريخي

للأماكن كما للشخوص ذاكرتها، والجمع بينها وبين أزمنة محددة، سبيل لاسترجاع طيف من الذكريات، قد يكون بعضها مؤلما، ولكنها جزء من الحياة، الذي أثر حينها ولم يزل. وهذا ما حاولت رصده رواية “خطوات الماء السبع” التي تروي يوميات مجموعة من الأصدقاء، جمعت بينهم مدينة دمشق في أوائل ثمانينات القرن الفائت وحكت بهم وعنهم ما كان يجري وكيف كانت تصاغ الأحلام وأين انتهت.
يفتح الروائي السوري أيمن الحسن زمن روايته “خطوات الماء السبع، القيمرية 1982”، على مساحة تغطي عشرات السنين ويحضر فيها العديد من الأزمنة والشخصيات. على امتداد ذلك الزمن تنوس الأحداث بين تاريخ مدينة دمشق القديم وزمن لاحق عاصف. بينما يتداخل في متن الرواية الشخصي بالعام، فهي حينا رصد لسيرة ذاتية، لكنها تبتعد حينا آخر لتقدم مرويات لشخصيات تحمل عناصر درامية متنوعة.
يعهد بنا أيمن الحسن إلى الواقعية في الطرح فيكتب في بداية روايته “ربما اعتقد أحدهم أن هذه الرواية من نسج الخيال”. وهذا ما يعني أن شخصيات روحي والسبع وزويا وملهم وسمير وغيرها، هي حقيقية عاش وتحاور معها. كذلك تبدو مناطق دمشق، القيمرية والشاغور والجامع الأموي والجسر الأبيض وأبورمانة وجديدة عرطوز الفضل والمزة جبل وغيرها مسارح لبعض أحداثها المتراكمة، وكثيرا ما كانت أحداث الرواية عصفا من الذكريات جمع هذه الشخصيات مع الأمكنة والأحداث.
حضور السياسة

الكاتب لا يضع حدودا فاصلة بين السيرة الذاتية والتوثيق في روايته فيورد بعض يوميات حياته الشخصية فيها
بطل الرواية الصادرة حديثا عن الهيئة العامة السورية للكتاب في وزارة الثقافة، مدقق لغوي في صحيفة الثورة في قلب مدينة دمشق «ساحة كفر سوسة» يأتي إليها من ريف حلب دارسا للهندسة المدنية في فترة ثمانينات القرن العشرين، ليكون مع مجموعة من الأشخاص علاقات صداقة عميقة، ضمت هذه المجموعة من يعمل في الطب والهندسة وكذلك في السياسة والكفاح المسلح ومهن أخرى.
عصفت بالمنطقة العربية حينها أحداث كبرى، كان منها اجتياح إسرائيل لبيروت في عام 1982، وبعدها بسنوات انفجار الانتفاضة الفلسطينية. وبالكثير من التماهي مع تلك المرحلة يكتب الحسن ما يوثق به بين العام والخاص لينبش في التأزمات الإجتماعية والفكرية التي يعيشونها، والشخصيات التي أوجدها فيها العلماني والمتدين والحالم بتحقيق القومية العربية، وفيها المؤمنة بالكفاح المسلح لتحقيق النصر والتحرير كما كانت تفكر الطليعة الثورية حينها.
يبدأ الحسن روايته من لحظة نازفة في التاريخ السياسي العربي، تجمع ما قام به مبدعان عربيان شهيران في حدثين هامين. فتحت عنوانا بين انتحارين. يكتب “في لحظة درامية من حياة أمتنا العربية انتحر شاعرنا الأردني تيسير سُبول بتاريخ 15 نوفمبر 1973 بعد أن توقف القتال على الجبهة المصرية، وفي أثناء اجتياح القوات الإسرائيلية للعاصمة المقاومة بيروت يوم 6 يوليو 1982 انتحر الشاعر اللبناني خليل حاوي ليغلق كل منهما قبره عليه مضطرا إلى أن يحلم بولادة الأمة ثانية”.
وفي مكان آخر يقدم رأيا في تعريف الثورة ورد بما كتبه المفكر المصري عصمت سيف الدولة في كتابه حوار مع الشباب “إنها تغيير النظام في المجتمع على وجه يحقق إرادة الشعب، أو أغلبه، من غير الطريق الذي يرسمه النظام القانوني السائد فيه. ويقسم الناس عادة إلى قسمين: قلة رجعية، لا يزال النظام المتخلف يوفر الحماية لمصالحها، فتقف ضد أي تغيير فيه، وكثرة تقدمية تريد أن تغيره على وجه يكفل حماية مصالح أغلبية الشعب”.
وفي قفزة فكرية سياسية نحو أمس قريب، يبين الكاتب رأيا لإحدى شخصيات الرواية التي ترى في شخصية الرئيس جمال عبدالناصر رمزا عروبيا قوميا “في المأثورات السياسية الشائعة أن حركة 23 يوليو بدأت انقلابا قبل أن تتحول إلى ثورة، خرجت من الحركة الوطنية بأفكارها، وطموحاتها، والروح الثورية الناهضة داخلها، وكأي تجربة إنسانية كانت لها أخطاء، بعضها أقرب إلى الخطايا، أدت إلى هزيمة يوينو 1967 التي أوجعت الرئيس، لأنه رأى ما ثار من أجله ردا على نكبة 1948 يتقوض أمام عينيه. فكان لا بد أن يترك الحكم معلنا مسؤوليته عما حدث غير أن الجماهير المصرية، ومعها جماهير الوطن العربي الكبير، كانت لها كلمة أخرى وسط هذه الأوقات العصيبة، فخرجت تطالبه بالبقاء مع صيحة ‘ح نخارب ونكمل المشوار معاك'”.
ولا يتغافل الكاتب عن تقديم واقع خطورة العمل السياسي في سوريا حينذاك، حتى ولو على الصعيد الفكري وما يحمله من متاعب ومصاعب، فمن خلال رصد تفاصيل ما كان يحدث من اجتماعات وجلسات حوار سياسي تبدت للقارئ خطورة المرحلة “حين نفتقد حضور أحد الأخوة نضطرب في سعار قهري ضاغط خشية أن يكونوا قد التقطوه. هذا هو التعبير المستخدم بيننا لأننا لا نعرف أين اعتقلوه وظروف الاعتقال، ثم بماذا سيعترف خلال التحقيق، والأسوأ أن يقر بمعلومات عنا تحت الضغط والإكراه”.
الحب والشعر
لا يغيب الحب عن مسارات أحداث الرواية، فنكتشف وجوده في علاقات حب تحمل قيما اجتماعية غريبة وعنيفة أحيانا تنتهي بالانتحار، لكن بطل الرواية ورغم كل الظروف التي أحاطت به فإنه يحب ويعيش عوالمه السحرية يقول “كانت روحي ترتدي تنورتها القصيرة، لونها أزرق كاحت، حين علقت عيناي بظهرها، وهي تصعد إلى غرفتهن، فلم أستطع إعادتهما إلى وجهي، أنا الآن أعمى بلا عينين، لذا دلفت خلفها متمسكا بالدرابزين بكلتا يدي وقبل أن تقطع الدرجات الحجرية التسع استعدت عينايا إلى محجريهما، ونزلت على نور، كي أدخل غرفتي بسلام”.
كما أوجد الروائي الحسن مساحات للشعر في روايته، فالبطل يؤلف فيه ويسمع من في محيطه بعض ما يكتب، كما حفلت شخصيات الرواية بالعديد من الحواريات المتضمنة شعرا. فوجد الشعر القديم الذي يحكي عن الحب وكذلك الشعر الحديث الوجداني العميق العاطفي والسياسي. وورد الشعر العامي الذي قدمه الشيخ إمام في أغانيه الثورية التي كانت شائعة في تلك الأيام. كما في أغنيته الشهيرة دقت ساعة العمل الثوري.
بطولة المكان

أماكن الرواية تآلفت بشكل ظهرت فيه وكأنها سيمفونية حب لتلك الأماكن وناسها ومرتع لطيف من ذكرياتها
مسرح أحداث الرواية مدينة دمشق، وكانت بأمكنتها في قلب المدينة القديمة حينا وبعض الأماكن القريبة منها وأحيانا الأبعد شاهدا على أحداثها، تآلفت أماكن الرواية بشكل ظهرت فيه وكأنها سيمفونية حب لتلك الأماكن وناسها ومرتع لطيف من ذكرياتها، فحضرت في الرواية بيوت سكن في القيمرية ومئذنة الشحم والمزة جبل وغيرها كما حضرت أماكن لنشاط فكري أو ثقافي مثل المركز الثقافي في أبي رمانة والنادي السينمائي في كلية الهندسة المدنية وجريدة الثورة وغيرها.
يقول الحسن عن مشواره في قلب دمشق القديمة “على الطريق أصادف خان أسعد باشا، أندهش، أدخل إلى باحته مسترجعا كلام الشاعر الفرنسي المعروف لامارتين حين زار مدينة دمشق في عام 1883 إذ عده أجمل خانات الشرق، وأن قبابه تذكر بفن عمارة القديس بطرس في روما، وواجهته توحي بفن عمارة البندقية في عصر النهضة”.
ومن دمشق التي تبدأ الأحداث بها عندما يقرر بطل الرواية كتابة شيء عن اجتياح بيروت، تنتهي أحداث الرواية، في صباح دمشقي مأزوم آخر، إذ يصحو ليمد يده لتشغيل مذياع قريب منه ليسمع صوت غناء ثوري يعلن ولادة انتفاضة أهل فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي يكتب “أقرر إكمال روايتي التي عنونتها في البداية ‘بطعم الحب والعلقم‘ ثم اخترت أن يكون العنوان ‘بحثا عن زويا، بيت القيمرية‘ واستقريت أخيرا على ‘خطوات الماء السبع القيمرية 1982‘ فهل تطهر الذاكرة أدران الماضي لنعود متحررين من ثقل يرزح تحت رؤوسنا اسمه ظل الأمس اللئيم”.
ويختم روايته بتصويره لكيفية خروج أطفال الأرض المحتلة إلى الشوارع. بعد طول انتظار وصوت الغناء الثوري يتدفق. أناديكم أشد على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم.
لا يضع الحسن، حدودا فاصلة بين السيرة الذاتية والتوثيق في روايته، فيورد البعض من يوميات حياته الشخصية في قلبها كما لو أنه جزء من الأحداث، فالحسن القادم من منطقة جرابلس في ريف حلب، سكن في دمشق منذ عقود في منطقة شعبية «الزفتية ثم السيدة زينب»، وتخرج من جامعتها في الهندسة المدنية في عام 1989 ليعمل في وزارة الإسكان، لكن شغفه بالأدب وعمله فيه سنوات طوال جعلاه في مراكز قيادية في اتحاد الكتاب العرب في سوريا وفلسطين، فهو أمين تحرير مجلة المعرفة وعضو هيئة تحرير مجلة الموقف الأدبي ومقرر جمعية القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب كما شغل منصبا هاما في وزارة الثقافة في سوريا، هو مدير التأليف في الهيئة العامة السورية للكتاب.
صدرت للحسن العديد من المجموعات القصصية “محاولة في رصد ما حدث” و”شاي” و”عصا موسا” و”عن رجل طيب بينكم” وروايات “أبعد من نهار”، “دفاتر الزفتية”، “في حضرة باب الجابية طفل البسطة”. وقد حازت مجموعته القصصية “العودة ظافرا” جائزة الشارقة للإبداع العربي في عام 1997 كما حقق جوائز أدبية منها جائزة المزرعة، ومدحت عكاش.